بل يصنعها من مادة ألمه

فاروق يوسف
(العراق /السويد)

فاروق يوسفلا أحد في إمكانه أن يخمن السبب الذي دفع برسام بحجم السوري طلال معلا إلي أن يجعل من الوجه أيقونته الوحيدة التي يستخرج منها ويستعرض من خلالها أفكاره عن الجمال. لا تختصر المجازفة التقنية، وهي موجودة بقوة كل شيء. كذلك فان الرغبة في الإسهاب الحكائي يردعه اقتضاب واضح علي مستوي الشكل، وهو شكل يحضر بطريقة استفهامية، يزيده الأسي البادي علي الوجوه توترا. وكما أري فان معلا وهو الذي خبر التجريدية جيدا، قرر في لحظة إلهام أن يعيد اكتشاف ذلك الجذر المقيم في أعماقه بقلق، ليستعيد من خلال ذلك الاكتشاف صلته بالمحترف الفني السوري، لكن بأدوات قياس جديدة. وهو حكم قد لا يكون عادلا، ذلك لانه يستقوي برؤية تاريخية لا تقاوم دلالاتها الحائرة خبرة فنان جرب الكتابة النقدية، باعتباره واحدا من أهم صناعها في العالم العربي. ربما العودة إلي كتابه جسد الصادر عام 1999 وهو كتاب تجريبي نادر في الثقافة العربية (من جهة تمرده علي كل جنس أدبي ممكن) تعيننا علي استيعاب هذا التحول الفني. وهو تحول طغت عليه غزارة في النتاج الفني مدعومة بنضج تأملي يواجهنا بسعة غير متوقعة علي مستوي التعبير. وهو ما يؤكد أن تلك الوجوه قد استخرجها الرسام من أعماق منجم روحي هو في حقيقته مختبر تجليات، امتزج من خلالها الجسدي بمادته الشفافة التي تفارقه في كل لحظة وحي. ومثلما صار معلا مع الزمن نتاجا لفكره الصوفي فان وجوهه تنسج مسافاتها بمشيئة قدر يعلي من شأن ما لم تظهره، وما لا تتبرج به. هل أتحدث عن معني غامض، تستفزنا لغزيته؟ ما لم نألفه في نتاج المحترف السوري نراه في الوجوه التي صار معلا يستجير بها للتعبير عن أزمة الإنسان المعاصر. كانت لدي فاتح المدرس لمسة شعرية سعي معلا إلي إحراجها واستفزازها بل ونفيها من خلال وحشيته وبريته وقسوته. وبالطريقة يمكننا أن نهتدي إلي المسافة التي تفصل بين تجربة معلا وتجارب فنانين سوريين قضوا شوطا طويلا في ارتياد الوجه البشري مثل مروان ونذير نبعة. طلال معلا في وجوهه هو كل الفنانين الذين التهمهم نقديا غير أنه لا يشبه أحدا منهم. هو صنيع فكرته عن الجسد، حيث تنبثق الشهوة من مكان خفي، لا تيسر الحواس المحتملة إمكانية القبض عليه. ذلك لأنه يقيم في فقده وخذلانه وخيبته وانكساره ورعشته الخالدة.

* * *

لا تخذله المرآة، وهو الذي لا يستعين بها. فطلال معلا (مولود عام 1948) لا يرغب في أن يقول شيئا بعينه. يكفيه أنه يكتب نقديا بغزارة عن آخر متخيل. رسومه هي مرآة لما لم يعثر عليه في تلك اللغة المتاحة عبر الكلمات. وجوهه التي تتخلي فجأة عن صلابتها لتسيل علي القماشة كما علي الورق هي نوع من التفكير بما يمكن أن تنتجه أية لغة لا يلهمها معيار واقعي بلاغتها. توحي تلك الوجوه بانسحابها لا لكي تترك أثرا صادما من فراغها بل لكي تتأكد من وجودها الذي يقع خارج كل وجود. فهي تحضر كمن يغيب. يصنع معلا بتلذذ لحظة وداع تذكرنا بكليمنته، الرسام الإيطالي الذي هو ليس من صناع الوجوه المحترفين. مزيج من الخفة والرخاء الداخلي والشظف والمكابدة والشقاء يضع كل وجه يرسمه معلا في ميزان حقيقته، حيث الواقعة التي تعجز عن وصف ذهولها إزاء ما تنطوي عليه من معجزات صغيرة. ما لا يخفيه الوجه هنا درايته بصنعته: أن يكون هدفا صامتا لما لا يمكن التعبير من خلاله. فهو الفكرة التي تؤلف نغمها من فتات أوهامها. في حقيقته فان طلال معلا لا يستعير وجوها بل يعير وجوها أقنعة يستدرجها لتشكل فضاء لنقائضه: في الحب والكراهية، في البعد والقرب، في النعيم والجحيم، في الغياب والحضور. وهي في كل ما ترتجي قيامته إنما تمهد لغيابها بذلك الحضور الذي يفصح عن تعففها. لغة الشكر لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها. وجوه منسية تنظر إلينا كما لو أنها تستقرئ مستقبلها.
تري فينا مرآة ساحرها. فهذا الرسام لا يكتب سيرته من خلال وجوهه كما فعل العراقي إسماعيل فتاح من قبل، وهو أيضا لا تهتدي إلي مفردات لغتها كما يحدث في رسوم المصري عادل السيوي. وجوهه تجرنا إلي منطقة منسية من عالم الرسم، تتساوي فيها قوة التقنية وإرادة الفكر، من غير أن يتوسطهما أي معني مسبق. اللوحة هي ضالة هذا الرسام المؤكدة الوحيدة.

* * *

ليس لديه ما يخفيه، فيدا الرسام منه ليستا كيدي الناقد. وكما يبدو لي فان معلا قد درب يديه علي أن تستجيبا لقوة الوهم التي تتألف منها بداهته الجمالية. لذلك قد لا يكون غريبا أن يحضر كل الرسامين العالميين الذين رسموا وجوها في رسومه. وهو أمر لا ينكره بل يتغني به، ذلك لأنه يعينه علي الانتساب إلي عالم الرسم أكثر من أجل مفارقة الواقع. غير أنه يفعل بأولئك الرسامين ما يفعله بالمواد التي يستعملها: يمزجهم، كما لو أنهم مواد سائلة، فلا يتضح منهم سوي شيء من البريق الذي لا تراه سوي العين الخبيرة.
وهي عين شبيهة بعيني الرسام الذي خبر الرسم ناقدا. إن ما يحضر من تأثيرات أولئك الرسامين لا يتخطي فعل النظر لذاته، وهو فعل يشذ عن القاعدة دائما. ذلك لأنه غالبا ما يؤسس إنشاءاته بمعزل عما تجلبه حاسة البصر من تكوينات. لقد نظر معلا إلي الوجوه التي اجترحها من سبقوه من جهة كونها تمرينات أولية، يعينه النظر إليها علي ارتكاب معصيته. والتي هي ليست سوي استخراج كائنات من العدم، لينشئ منها أسطورته الشخصية. فالرسام في نهاية الأمر هو رسومه. ولا أبالغ إذا ما قلت أنني رأيت شيئا من طلال معلا في كل وجه من وجوهه. ولكنني في الوقت نفسه أعتقد أن وجوه معلا تشير إلي نبوءة ممكنة، هي ما يختزنه فعل بصري لا يزال في إمكان الرسم أن يخلقه، نبرة صوت شاذة تنحرف باللغة عن مسارها. لا يرسم طلال معلا وجها بل يقترح حياة هي في طريقها إلي أن تفارق وجودها.

القدس العربي
24/01/2008

أقرأ أيضاً: