بعد معرضين فرديين وعشرات المشاركات في معارض جماعية داخل البحرين وخارجها تقيم الفنانة نبيلة الخير معرضا جديدا لرسومها في قاعة البارح بعنوان (شرفة الحنين). هذه المرة تبدو الخير مختلفة. يمكننا أن نقول أن رسومها الجديدة أظهرتها كما لو أنها سواها. لكن ليس تماما. أشياء كثيرة تغيرت: التقنية والمواد والأشكال وحتى الموضوعات، غير أن رؤيا المرأة الغائبة ظلت تفرض نوعا خاصا من الالهام، هو الالهام ذاته التي كانت رسومها السابقة تستخرجه من تجربة حياة مجاورة. حياة عاشتها الفنانة بعيدا عن صفتها في الحياة اليومية: سيدة أعمال. جلد وورق وخشب وقماش ومواد أخرى جلبتها الرسامة لتستعين بها من أجل أن تقبض على ما يفلت من الأحلام. كانت رسوم (الخير) دائما تعج بما يمكن أن يحل فجأة ويختفي من غير أن يترك سوى أثر عاطفي لا يمكن التقاطه بيسر. كانت الذكرى هي الفضاء الرحب الذي تتحرك فيه كائنات الرسامة البحرينية. تلك الكائنات التي لا تنتمي إلى أرض بعينها، بالرغم من أن شيئا منها كان يشي بافريقيتها. ربما هي عدوى غوغانية (نسبة إلى بول غوغان الذي رسم نساء هاييتي) غير أن الخير كان لديها هاجس مختلف. نساؤها اللواتي كن يحضرن بأرق ما يملكن من المشاعر كن مبعوثات قدر مختلف: غيابهن الذي لا يفارق وجودهن الذي لا يفارقه شعور غامض بالنقصان. بالنسبة لي مشاهدا كان ذلك الغياب يشير إلى دلالات نفسية عميقة. كنت أرى المرأة وهي تنأى بعالمها بعيدا عن كل الصفات التي أثقلها بها مجتمع ذكوري وضع الحق في الجهة الخطأ. ولأن نبيلة لم تكن تستعرض أنوثة كائناتها فقد كنت أرى في ما تفعله نوعا من الإيحاء بتبني الفكرة المضادة. فكرة أن تكون المرأة موجودة في المكان الذي يشير إلى استقلالها. لذلك كان ايقاع الالم قريبا من العين في تلك الرسوم التي لا تخفي اشتباكها بالعاطفة.
2
أن تعثر على نبيلة الخير في لوحاتها، ذلك أمر يسير إذاً. لكن هناك أشياء كثيرة تغيرت في عالمها بل ان الرسامة صارت تسعى إلى أن تقول كلاما مختلفا. في معرضها الحالي الذي يقام في ربيع البحرين هناك ايحاء مباشر بالبهجة، بمتعة الحياة، برغبة اليد في أن تمتد بحنانها إلى الآخر، كما أن الافريقيات اللائي كن عجينة الغياب اختفين. هل تفكر الرسامة في الانتصار لعالم متعوي تود لو أنه يحل فجأة ليطوي صفحة الألم؟ أؤمن بأن الرسوم هي الأخرى تحلم. رسوم نبيلة لا تظهر إلا القليل مما نراه منفردا بذاته، عاكفا على أعماق قوته. رسوم لا تعرف (من التعريف) الشيء الذي تصوره بل تهبنا فرصة لتأمل ذلك الشيء الذي نشعر أنه ينقصنا. لا يهمنا سؤال من نوع: من تكون هذه المرأة التي ترسمها نبيلة؟ بقدر ما يهمنا أن نذهب مع تلك المرأة عميقا في السؤال الذي يحيط بوجودها. امرأة من هذا العالم تضعنا في الجوهر الخفي من حياة لا يزال في إمكانها أن تكون حياة أخرى. يمكننا أن نحتفي بالأمل بدلا من الألم. ولكن علينا أن لا نبالغ في تفاؤلنا. كنت دائما أعثر في رسوم نبيلة الخير على حكايات، كانت الرسامة تسعى إلى المرور بها بشكل عابر. بالنسبة لها لم تكن تلك الحكايات سوى الجزء الذي يمكن تفادي الوقوف امامه طويلا، كانت تعنى بجمال قد لا يهب ذاته بصريا إلا مرة واحدة. تلك المرأة التي تنبعث في رسومها من لحظة ألم هي فكرة عن حياة محتملة. وبالرغم من أن الرسامة لا ترسم صورا ذاتية (على طريقة المكسيكية فريدا كاهيلو) بل ترسم احلاما مادتها النساء، غير أنها لا تنسب افكارا لسواها. رسومها تقول ما تفكر به. فتنة رسوم نبيلة الخير لا تكمن في جماليات ما تظهره فحسب بل في ما تنطوي عليه من أفكار مضادة.
3
تقول: الربيع وهي تقصد الأنوثة كلها. الرمق الأخير الذي في إمكانه أن يقدم فكرة عن حياة صافية. من خلال عمليات اللصق (كولاج) تتماهى الطبيعة مع الحلم. المرأة التي تستخرجها الرسامة من لحظة تماه مع الحلم هي المرأة التي يمكن أن تكون أيقونة لعصر ابتذلت ايقوناته. تنقض الخير مفهوم التآخي مع الطبيعة لتحل محله مفهوما عن الطبيعة التي يمكن استخراجها من الحلم كل لحظة. المرأة النضرة التي نستجير بها في كل لحظة يباس. تعنى نبيلة بالصورة، غير أن عنايتها تلك لا تصدر إلا عن رغبة في الترميز. لا تتأخر الأنوثة في الاستجابة، غير أنها في كل ما تفعله لا تغادر أبهة الكاهنات. تؤثث الرسامة المسافة التي تفصل بين المرأة والعالم بالكثير من الألغاز. في رسومها الجديدة لا تزال المرأة نوعا من الأسطورة. وهي أسطورة صارت تصنعها الرسامة من مواد مختلفة، صار خيالها يهب الرسم مساحات أكبر من تلك التي كان ينعم بها من خلال مواده التقليدية. نساء نبيلة الخير هذه المرة يزدرين العدم الذي جئن منه، غير أنهن يلوحن بعدم يقف في انتظارنا: الحنين. نحن نقف كلنا على شرقة الحنين. وهي شرفة قد تنهار في أية لحظة. ليس أمامنا سوى أن ننصت إلى دقات تلك الطبول التي تجيء من جهة مجهولة. هناك الكثير الذي يجب أن نفكر به ونحن في طريقنا إلى المرأة. (مستقبلكم) هل هذه هي الكلمة التي تفكر بها نبيلة الخير؟ أعتقد أنها الكلمة المناسبة للربيع الذي يحتضن رسوم نبيلة في البحرين.
القدس العربي
02/04/2009