فاروق يوسف
(العراق/السويد)

الفن العربي في خطر

لا تنطوي عبارة 'الفن التشكيلي العربي في خطر' على موقف مناوىء لتجارب الفنانين العرب الجدد في مجال الفنون البصرية. ذلك لان تلك التجارب من وجهة نظري انما هي محاولة للانقاذ والخلاص في الوقت نفسه. انقاذ الفن من خلال العودة إلى مفهومه المطلق والخلاص من اللحظة الراهنة، حيث تداعت الحقائق الراسخة للفن وبات ملعبا لرجال الأعمال. فالفنانون الحقيقيون هم أشد الفئات شعورا بما انتهت إليه أحوال الفن في العالم العربي من ضعة ويأس ويباس وتحجر وتكرار ونزوع تقليدي وسياحي وخضوع لمنطق ذائقة جمالية متهالكة، هي أعظم ما يمكن أن تفخر به طبقات اجتماعية وضعتها الفوضى الاقتصادية على رأس الهرم الاجتماعي في الوطن العربي.
كان المستهلكون الجدد في حاجة إلى فن يخدم ذائقتهم (الجمالية).
ديمقراطيا لا يمكن لأحد انكار حق اولئك المستهلكين في التماهي مع ذائقتهم، بل وحتى تصديرها. غير ان الموضوع في حالة الفن يتخطى الحق الفردي، وإلا فإننا نعود إلى المقولة المبتذلة (الجمهور عاوز كده). وهي مقولة انحطاط وتدهور أخلاقي ومعرفي، أكثر مما هي تعبير عن الاستجابة لرغبات الجماهير التي يمكن التلاعب بها وبرمجتها بيسر. ما يحدث للفن هو في حقيقته صورة لما يحدث للمجتمعات العربية. وعلينا أن نعترف ان هذه المجتمعات، ممثلة بنخبها الثقافية لم تكن حريصة على مستقبلها. في الحقيقة كانت تلك النخب في مكان فيما كانت المجتمعات في مكان آخر. وإذا ما كانت اللعبة قد استمرت زمنا طويلا (حوالى خمسة عقود) مسكوتا عنها فقد آن لها أن تنكشف مثل فضيحة.
لدينا شعر حديث وصل إلى درجة السرد الشعري. لدينا رسم حديث تجاوز التجريد إلى ما بعده. اما فن العمارة فقد صارت أحياء الصفيح والتنك والقش والخيام تنظر إليه بمشقة. ولكن الجماهير ظلت تمشي بالملايين حبا بالطغاة، بالحزب الذي يُطعم مستقبلها جملا جاهزة هي أشبه بالمأكولات المجمدة، بملوك لم تعد ثيابهم تشكل عبئا على عين طفل مًحي من على الخريطة، بشيوخ يأنسون بأبي الطيب باعتباره ضيفا مسليا، بقبائل مسكونة بأشعار داحس والغبراء.
كانت هناك مشكلة معقدة في اللغة، لذلك لم يكن الاتصال ممكنا. وكانت الجماهير دائما من غير غطاء ثقافي. كل الأغطية التي استعملتها الحكومات العربية وهي أغطية كانت مكلفة ماديا لم تكن إلا أثاثا مؤقتا. تخيلوا: ما أنفقته دول مثل العراق وليبيا والامارات العربية المتحدة من أموال على الثقافة طوال العقود الثلاثة الماضية هو أكثر بكثير مما كانت قد أنفقته فرنسا أو بريطانيا أو السويد في المجال ذاته. ولكن عودوا إلى الواقع لتروا الفرق. ليست هناك أية بنية ثقافية في البلدان العربية الثلاثة يمكن الاشارة إليها بثقة. كل تلك الأموال تم أنفاقها في المكان الخطأ، استعراضا أو اشاعة للزيف.
يمكنني الآن أن أقول ان الفن التشكيلي العربي وقع فريسة جاهزة لميول ونزعات الطبقات التي تسلقت خفية لتصل إلى القمة قبل أن يحدث الزلزال. كانت الجماهير متواضعة في طلباتها، غير أن احدا لم يلب لها تلك الطلبات، فصار عليها أن تستجيب لما يُملى عليها. وهو ما تفعله الجماهير في مختلف أنحاء الأرض. لن يكون التخاذل الجمالي (خيانة المعرفة تسبقه) إذاً حكرا على الشعوب العربية.
كان الفن التشكيلي (الشعر معه دائما) في واد والناس في واد آخر. مَن خان ومَن خذل الآخر؟ حقيقة يمكنني القول: لقد اجتهد الفنانون العرب في الارتقاء بمواهبهم، صقلوا لحظات الهامهم حتى وصلوا إلى الجوهر، غير أنهم كانوا أبرياء أكثر مما يجب. كان التاريخ من حولهم يحفر أنفاقا، في الأرض كما في الهواء. تلك الأنفاق صارت بمثابة أماكن مثالية للخلود، ومن ثم الذهاب إلى المستقبل. لقد استعمل السياسيون العرب الثروات كلها في عملية ثقافية كان القصد منها نزع الثقة بالفن، تجريده من قوته في التأثير. بعد ذلك لن يكون مفاجئا أن نرى فنانين وقد تراجعوا عن ثقتهم بدور الفن الطليعي ليكونوا مجرد مداحين للواقع وليكون الفن وسيلة تجميل.
لقد استسلمت الجماهير للدور السلبي الذي كان المبدع يؤديه. لم يعد ذلك المبدع صوتها وحامل أحلامها. بل صار الصوت الذي يملي عليها ما يجب أن تفعله تماشيا مع دورها التاريخي، المرسوم لها سياسيا. في ظل ذلك الانفصال بين ما هو ثقافي وبين ما هو اجتماعي نشأ سوق للفن، لم تكن غايتها سوى كسب الفائض من المال في منطقة صار الكسل فيها عنوانا للترف والرفاهية. لقد تصدر المال السباق فالتحقت به لغة الفن. لم يتأخر رجال الأعمال فحضروا من كل حدب وصوب. هذه هي فرصتهم. فجأة صار الفن سلعة رابحة في امارة دبي. صار علينا أن نغمض أعيننا عن مدن الفن العربي التاريخية مثل القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد والدار البيضاء لنفتحها واسعة وباعجاب على دبي، المدينة التي لم تتعرف بعد على شكلها النهائي.
صار الفن العربي، جزء عظيم منه، مادة لمزادات يقيمها السماسرة والمغامرون في دبي. سلعة يقدمها البائع للمشتري في لحظة غامضة من التاريخ،حيث سوء الفهم اللغوي في أوجه. سيفلت الاثنان من سؤال المصير. يؤدي الاثنان دورا مرسوما لهما. لا أحد منهما يتخطى دوره. ولكني معنيا بما يمكن أن ينتج عن هذه العملية أتساءل: ما الذي يمكن أن يكسبه الفن العربي من وراء هذه الحلقة المفرغة؟ تتسابق اليوم قاعات الفن العربية للمشاركة في فعاليات آرت أبو ظبي، آرت دبي، آرت بيروت، مستندة إلى حدسها في ما يمكن أن يشكل استفزازا لنزعة الاستهلاك لدى المشترين. فجأة نشأت سوق للفن كما تنشأ الأسواق المؤقتة في الاعياد. هل نصدق أن القاعات الفنية صارت تعرض في تلك السوق أسوأ ما لديها من أعمال؟ لقد تبدل المستهلك. الطبقات الثرية الصاعدة ليس لديها أي استعداد لتلقي الفن الراقي. رجال الاعمال الاوربيون يعرفون ذلك جيدا، لذلك صاروا متخصصين في اقتناص الاعمال الفنية الرديئة ليتماهوا من خلالها مع ذائقة المشتري.

'هوذا ما يليق بك'
ولكن ماذا عن الذي يليق بنا؟ لا أحد يجيب. لكن سؤالا ساخرا يظل محلقا في ذلك الهواء الفاسد: 'ومَن أنتم؟' فعلا 'مَن نحن؟'
نبحث في السنة عن يوم يخصص دقائقه لنا. يوم مثل يوم الشجرة، يوم الأم، يوم الأشباح، يوم القديسين الأموات. سنسميه يوم العربي الضائع. نبدأ سطره بكلمة لا تنتهي ولا تقف عند حدود النقطة عن انسانيتنا المبادة. تلك اللحظة التي خانها الجميع. فنانين وتجارا وسياسيين وعلماء وسماسرة ومفكرين وباعة ومشترين وناشرين وشعراء وقراء شعر. لا يكفي ان نقول اننا مهزومون. نحن شعب فريد من نوعه، نرعى هزائمنا بحنان، كما لو أنها خرافنا. تخيلوا: أمة ثرية مهزومة تنفق أموالها من أجل أن تكون هزائمها ممكنة وقاطعة، بل وأبدية. لا أحد في إمكانه أن يصدق أننا نحارب الثقافة بأموال خصصت للانفاق الثقافي. أننا ننشر الأمية تحت شعار رعاية التعليم. اننا نمحو حقائق الفن في الاماكن التي نخصصها للاهتمام بالفنون.
الفن العربي في خطر لان الإنسان العربي في خطر. منذ اربعة عقود والأموال العربية تضخ من أجل ان تستمر ماكنة القتل في نشر الموت في المدن العربية. من بيروت عام 1975 الى طرابلس عام 2011 مرورا ببغداد عام 1991 يمتد خيط الدم العربي مزهوا برائحة الأوراق الخضراء.

القدس العربي
2011-11-03

أقرأ أيضاً: