الآن وبعدما وصلت التيارات الأصولية إلى الحكم على جناحي ثورات الربيع العربي، صار الكثير من الفنانين العرب يعبّرون عن شعورهم بالإحباط. ربما لأنهم كانوا يحلمون بالتحول الذي لا يعني تغييراً في آليات الحكم فحسب، بل أيضاً في طبيعة النظر إلى طرق تعبير المجتمع عن إرادته وهو ما يعني الذهاب إلى مستقبل يكون على مقدار كبير من الوضوح وبالأخص على مستوى الحريات العامة وفي مقدمها حرية التعبير. كان الحراك الاجتماعي الذي أدى إلى اشتعال تلك الثورات شبابياً، يقع جوهره في المسافة المتخيلة التي لم تكن أنظمة الحكم السابقة قادرة على الوصول إليها ومن ثم السيطرة عليها. لقد بدأت تلك الثورات في مساحة افتراضية وبأدوات ميسرة للجميع، لتنتقل وبسرعة إلى الواقع الفعلي الذي كان إلى وقت قريب يتماهى مع الإيقاع النمطي الذي أسر الحياة العربية طوال عقود من الزمن بخرافة موته. كان التمرد في وجه من وجوهه المتعددة قد استلهم قوته من الوهم، وهو الجهة التي كانت الفنون ولا تزال تعود إليها باعتبارها مرجعها الأساس في التصدي لسلطة الواقع. لذلك، كان الفنانون من أكثر فئات المجتمع ابتهاجاً بما يحدث وما يمكن أن يقوم. كان لسان حالهم يقول: «لا يهم لمن ستؤول السلطة، المهم أن تنتهي فكرة الحكم الشمولي، المطلق لتبدأ دورة جديدة من الحياة تقوم على أساس الانتقال السلمي للسلطة والشفافية التي تضمن مقداراً كان مفقوداً من النزاهة وتطور سلطة النقد بما يجعل الرقابة المهنية ممكنة، بل وواجبة. كل ذلك كان حديثاً في السياسة، لكن كان للفنانين ما يفكرون به باعتباره واحدة من ثمار سعيهم الحثيث إلى أن يكون ذلك التحول ممكناً وإيجابياً. كانوا يحلمون بسلطة مدنية، تنأى بنفسها عن الوقوع في أخطاء السلطات القديمة التي أقامت وجودها على أساس الصوت الواحد الذي لا يُرد له أمر.
وإذا ما أخذتُ الفنون البصرية في الوطن العربي مثلاً في هذا المجال الذي هو محل اشتباك مفاهيمي خطير، فإن سيرتها طوال العشرين سنة الماضية تؤكد انسلاخها من المصير التصويري الذي كانت الأنظمة السياسية تعتبره جزءاً من خيلائها الفذ. كانت الدعوة إلى فن تفهمه الجماهير قد تفاقمت إلى الدرجة التي دفعت الحكومة العراقية ذات مرة إلى أن تمنع عرض كل ما يمت بصلة إلى الفن التجريدي من لوحات وتماثيل. بل إن المؤسسة الفنية العراقية نظمت عدداً من الرحلات من أجل أن تحضّ الرسامين على العودة إلى الطبيعة. كانت الدائرة الرسمية تضيق، غير أن الفنانين لم تكن تنقصهم الحيلة للقفز خارج تلك الدائرة. ومع ذلك فإن ما كان يحدث يومها كان أشبه بالكابوس. سيكون صادماً، بعد كل هذا الخيال الذي تأملنا من خلاله الربيع العربي، أن نعود إلى تلك المرحلة. كان هناك حديث مفزع عن ضرورة تحريم تشخيص الصحابة في المسلسلات التلفزيونية وفي السينما. شيء من ذلك يمكن أن ينتقل إلى فكرة التشخيص في شكل مطلق. فنكون حينها أمام سلطة تحرم التشخيص في الرسم والنحت وتحلل التجريد، باعتباره استلهاماً للبعد الروحي. وهكذا نكون قد كررنا الحكاية نفسها مقلوبة. ألا يمكننا أن نتبع خيارات أخرى، بعيداً من تلك الخيارات الجاهزة التي من شأن التورط فيها أن يعيد إنتاج الأنظمة السياسية القديمة، التي يفضل الكثيرون نسيانها، على الأقل في المرحلة الراهنة؟
كان الفن التشيكلي في الوطن العربي قد وقع في مستنقع التقليد والتكرار والتشابه، بما أدى إلى قولبته باعتباره منتجاً جاهزاً، كان الفولكلور مادة إلهامه الأساسية. كانت هناك حالات كثيرة، بدت من خلالها صفة فنان كما لو أنها نوع من السخرية، خليط من الخط العربي ووحدات مستعارة من الزخرفة الإسلامية يمكنه أن ينتج لوحة، في إمكانها أن تستفز ذائقة مقتني الأعمال الفنية، الذين كانوا يفضلون المشي بأقدامهم على سجادة من تبريز على أن تتأمل عيونهم لوحة لماتيس. كان لهؤلاء السلطة التي تمرد عليها الكثير من الفنانين العرب، وهو التمرد الذي أنتج مساحات من الوهم، تقع خارج السيطرة المباشرة لمجتمع كان مسيّراً من قبل النظام السياسي من طريق «الريموت كونترول». كانت فنون التجهيز والإنشاء والمفاهيم والفيديو والحدث والأداء الجسدي تطرح أسئلتها في اللحظة التي كانت تمارس أنظمة الحكم الشمولي سلطاتها من أجل تنميط الحياة، بما يجعل الشكل مرآة لمضمون ثابت يتكرر. كانت صور القائد، تماثيله، الوحدات التي تشير إلى رمزية أقواله وأفعاله هي محور الفن الرسمي الذي تبناه المجتمع. ليست هناك من قيمة مثالية في إمكانها أن تنافس تلك القيم (الخالدة). إن كل تلك المحاولات الفنية المتمردة، قد جهزتنا للخروج من القمقم الذي كان مثقفو السياسة المحليون والعالميون يظنون أننا لن نغادره في وقت قريب. سيكون موجعاً القول إننا غادرنا ذلك القمم ثائرين ثم عدنا إليه طائعين.
الحياة- الخميس 16 أغسطس 2012