«كان واحداً منا»، يكتب الفنان العراقي ضياء العزاوي وهو يقصد رفيق عمره الفنان رافع الناصري الذي غادرنا قبل وقت قصير في واحدة من رحلات غيابه التي قد تطول هذه المرة. لقد غيّب الموت الناصري بعد أن أمهله لكي يرى حلم حياته وقد تحقق من خلال معرض استعادي يؤرخ لخمسين سنة من الرسم، قضاها الناصري مقيماً في قلب الحداثة الفنية، رجل إلهام بصري، لم تعد يده يوماً من الخفاء فارغة من اللقى الجمالية.
لقد انتقل الناصري في وقت مبكر من حياته الفنية من منطقة الإتقان المدرسي الذي تعلم شروط تقنيته في الصين إلى منطقة حيث يكون لديه خيال الرائي الذي يتنقل بخفة ساحر بين مشاهد كونية (وفق مي مظفر) ليلتقط من لمعانها مفردات لغته الشخصية الآسرة.
«كان واحداً منا» يكتب العزاوي وهو يقدم معرضاً فريداً من نوعه (قاعة نبض/عمان) تحية للناصري الذي شارك هو الآخر بلوحة منه تعود إلى عام 2009. وهو ما يجعل حضور الناصري امراً طبيعياً بين رفاقه في جماعة الرؤيا الجديدة التي كان واحداً من مؤسسيها الخمسة عام 1969، وبين زملائه من رسامي حقبة الستينات من القرن الماضي، وهي الحقبة التي حقق فيها الفن التشكيلي في العراق قفزة لافتة في اتجاه مفهوم الحداثة الفنية المعاصرة متجاوزاً مفهوم الحداثة الفنية الذي كان سائداً في خمسينات القرن الماضي والذي كبل معاصرته بشروط التماهي مع تراث تصويري، كان فقيراً في إلهامه، وبين عدد من طلبته المجيدين، الذين لم يتعلموا على يديه الصنعة وحدها، بل اقتفوا أيضاً خطاه في المزاوجة بين الإتقان وسبل التحرر منه بكفاءة لا تنفي ضرورته.
الآن وقد عرفنا من المقصود بـ (نحن) في جملة العزاوي المطلقة التي تقول «كان واحداً منا»، لا بد من أن نستوعب المغزى الذي انطوت عليه فكرة العزاوي وهو يستدعي عدداً من الرسامين الأموات (اسماعيل فتاح، عصام السعيد، فايق حسين) للمشاركة في المعرض. وكم كنت أتمنى أن يكون شاكر حسن آل سعيد حاضراً، فقد كان بالنسبة الى الناصري معلماً وزميلاً ومرشداً وعلامة في الطرق التي تقود إلى الرسم الخالص، على رغم أن آل سعيد كان ينتمي جيلياً إلى الجيل الذي سبق جيل الناصري. وقد يُفسر غيابه بأن المعرض كان بمثابة استجابة عاطفية لمزاج ستيني، خسر واحداً من أهم صانعية بغياب الناصري.
وهنا أقدر أن العزاوي وهو يلقي التحية على رفيق عمره، انما أراد الذهاب إلى المستقبل، بدلاً من استحضار الماضي. كما لو أن لسان حاله يقول: «لقد كنا معاً نصنع نوعاً من الحداثة، ستكون دائماً بمثابة مرجعية ثابتة لكل فعل فني حداثوي يقع في العراق». لقد قدم العزاوي من خلال فكرته نموذجاً لمتحف، يستلهم أبجدية عروضه من وقائع تحررت من الواقع العراقي الكئيب والصعب بهروبها إلى المنافي، غير أنها لا تزال تشكل مرجعية ثقافية صلبة لكل فعل مستقبلي أصيل.
كان رافع الناصري واحداً من أهم صانعي تلك المرجعية. لقد صنع الرجل لوحته التي تشبهه، أناقة ونبلاً وتمرداً وأصالة. لوحة يمشي الجمال بين ثنايا غموضها مندهشاً بما يقع أمام ناظريه من حقوله الساحرة. لقد حلّق الناصري بنا في فضاءات مفتوحة، كانت طيورها تمزج ما انصتنا إليه من الغناء وما لم ننصت إليه من قبل. كان يستحضر موسيقى الحرف العربي البصرية بما يجعلها تقع قبل أمتار قليلة من تبدل المزاج الكوني.
تكتب الشاعرة والقاصة وناقدة الفن مي مظفر، وهي رفيقة درب الناصري لأربعين سنة، في كلمة مؤثرة ضمّها دليل المعرض: «في الحقبة الأخيرة من السنوات العشرين التي وسمت العالم بطابع الشر والقبح والتراجع في المعايير الإنسانية، أمعن رافع في التحليق عالياً في آفاق النور والجمال. بل ظل يرتفع ويشيح بوجهه عن مشاهد الظلم والظلام بقلب يتفطّر حزناً وأسى. آثر التحليق مترفعاً عن الأرض الملوثة بالدسائس، والملطخة بدماء الأبرياء، وروح الشر من أجل أن يخلق عالماً مليئاً بالنور، جديراً بحياة الإنسان ينيره بشموع ألوانه المترفة بالحياة وسحرها ليكون منفذاً وملاذاً للأرواح المعذبة من أمثاله».
قبل اكثر من شهرين، بالضبط في الحادي عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) السابق، قدم إلى عمان من مختلف أنحاء العالم عشرات الرسامين والكتاب العراقيين ليحتفوا بصديقهم الفنان رافع الناصري (1940 - 2013) الذي كان يدور يومها بين أروقة المتحف الاردني سعيداً بمعرضه الاستعادي.
كانوا يومها يرفلون بضيافة الناصري. اليوم يستضيفهم رفيق رحلته العزاوي، أمواتاً وأحياء ليؤكد من خلالهم فكرته عن الخلود.
كان رافع الناصري واحداً منا. لا يزال كذلك.
الحياة- السبت ١ فبراير ٢٠١٤