فاروق يوسف
(العراق/السويد)

تابيسبين طبقات من الصدق الآسر كانت عاطفته تتحرك. عنيفا كان. متوحشا بأناقة واستفهاميا بجرأة. افترس كل شيء التقطته عيناه. الـ(لا شيء) يمكنه أن يكون فنا.
يدا الفنان تنتشلان العالم من الفناء ومن العبث. شيء منهما سيظل لصيق كل حركة يؤديها الرسامون في كل الأزمنة. شيخ طريقتنا شاكر حسن آل سعيد سبقني الى الاعتراف بذلك في مقالته الشهيرة (انا وتابيس) منذ ثمانينات القرن الماضي. الرسم نفسه لا يقوى على مجاراة عصف ذلك الرسام. لقد سبق تابيس الرسم الى مصير سيظل مرتبطا بما لم يتحقق منه. بما لم يكن مرصودا (منذورا) من أجله. هناك لعب واثق بالمصائر. رسوم تابيس (مجازا تسمى رسوما تلك الاعمال التي انجزها القطالوني المتمرد على صفته) لا تنتمي الى ماضي الحداثة، بل الى مستقبلها. فمنذ البداية حرص تابيس على اعادة تعريف الرسم، لا اعادة أسلبته.

حقا ما الذي يعنيه الرسم؟ "كل هذا وأكثر" " في هذه الحالة علينا أن نقبض على ذلك الأكثر لأننا لا نعرفه" "ولكن أين يقع ذلك الأكثر؟" تابيس أجاب بطريقة لا تقبل اللبس ولا التأويل. هناك مادة أخرى للرسم، ليست عينية فحسب، بل وأيضا روحية. تلك المادة يمكن استخراجها من خيال التجربة. خبرة الرسم تنضج من خلال تخليها عما يترسب منها. الخبرة السابقة والمكرسة لا تقدم إلا حلولا جاهزة. من شان التجربة الحية أن لا تزيف النظر، ولا ترمم الأخطاء بقدر ما تهب المغامرة الجمالية طابعا اخلاقيا ايجابيا. بطريقة أو بأخرى فإن الرسم لا يعني اختبارا لما تعلمناه، بل اشتباكا بما لم نتعلمه.
"العالم فقير، ولكنه جميل".

بالنسبة لتابيس فإن غنى العالم يكمن في جماله. لذلك صار من شأن الرسم أن يهب المواد المنسية خيالا. أن يكهربها. يمسها فتلمع. يثني عليها فتذوب. يشدها فتمتلىء. الابن الذي انقطع عن سلالته (فيلاسكز، غويا، بيكاسو، ميرو) كسر المرآة وصار يستعمل شظاياها في رسم (حفر) خطوطه المتوترة. وحين امتزج دمه بالحبر، اكتسبت أشكاله طابعا مزدوجا يجمع الكتابة بالكائن الحي. لذلك فإن رسومه لم تكن نوعا من الغرافيتي (رسوم الجدران) بل كانت وحيا بنهاية عصر الفرد المتمرس على التلقي البارد. لقد كسر تابيس خزانة التقنيات لينهي عزلة العمل الفني العضوية. بالنسبة إليه فان المواد، بغض النظر عن مصدرها، لن تكون جاهزة تماما لـ(الاستعمال) الفني، إلا بعد أن تصاب بما يمكن أن أسميه بـ(هلع الرؤيا). وهي كما أرى خاصية مأساوية اكتسبها تابيس من سلفه غويا وطورها لتكون شاملة، بحيث صار كل شيء يمسك الرسام به يُصاب بذلك الهلع. تلك الخاصية هي ما عززت اختلاف تابيس عن سواه من الرسامين الذين لجأوا إلى استعمال المواد المختلفة واستضافة مواد مستعارة من الواقع لتختلط بسطوح أعمالهم ( الامريكي روبرت راوشنبرغ على سبيل المثال). مع تابيس فإن تلك المحاولة لا تتعلق بالمشهد، بل بالنسيج الذي ينتج عن تلك المحاولة. وسواء كانت المادة المستعارة مرسومة خطيا أو حاضرة فيزيائيا على سطح اللوحة، فهي في الحالين سواها في الواقع. في عالم تابيس صار ينافس العالم الواقعي سعة تظهر المواد كما لو أنها لم تر النور من قبل. عبقرية هذا الرسام حولت تلك المقتنيات العادية إلى نفائس لا تظهر إلا مرة واحدة.

بعد موته سيكون علينا أن نفتقده. كنا نفتقده في كل لحظة يفشل فيها الرسم في الخروج من أزمته. الآن علينا أن نفتقده ونحن ندخل نفقا طويلا لا نهاية له من الأزمات الاسلوبية التي تقتفي أثر التقنية ليس إلا. وإذا ما كان تابيس قد حرر الرسم من التزامه التصويري الضيق، كونه طريقة للتعبير فما لم يفهمه أحد حتى الآن هو: كيف استطاع هذا الرسام أن ينجد الواقع بواقع لا يشبهه غير أنه يستعمل مواده وأدواته؟ لقد وهبنا تابيس أرضا ممكنة للمشي ولم يحلق بنا. لم يكن الرجل طوباويا. ظلت يداه إلى النهاية مغروستين في الرمل والحبر والطين والزيت وسواها من المواد التي يتألف منها واقعنا. غير أن كل مادة استعملها كانت لا تعود إلى مستقرها السابق بل تذهب إلى مستقبل سعيد مختلف، حتى صارت مفرداته بالنسبة للكثيرين كما لو أنها ايقونات يرتجلها رجل دين خفي. تابيس كان رجلا أرضيا بعمق وكان فنه رسالة أرضية محروسة بشروط الوضع البشري. والآن كيف يمكننا أن نثبت أن تابيس لم يكن رجل اسلوب؟ كان الاسلوب يلحق به وكان جل اهتمامه منصبا على المعاني. ولكن أية معان تلك التي يمكن أن تستدرك خطأ قد وقع؟

بالنسبة لتابيس، كما أرى فإن كل ما نخشاه قد وقع. لم يعد في إمكاننا أن نتحاشى الغياب والتخلي. عالمنا قد نفد وانتفت أسباب بقائه. ولهذا فإن الرسم يقع بعد القيامة فعلا يؤسس لغد مختلف. غد للحواس كما للمخيلة. لن تطرف العين إلا على مشهد جديد، لن يكون ذاته حتى لو تكرر. ترى بمَن من القوى الخفية استعان هذا الرجل ليكون موجودا في لحظة الغياب الأزلية تلك؟ سنكون متفائلين لو قلنا انه استعان بالرسم. كان الرسم طوع يديه دائما، غير أن الرسم الذي نقصده لم يقع في غرفة الضيوف المجاورة. سنذهب مضطرين الى غرفة الرسام كما لو أننا ندخل إلى رأسه او إلى قلبه. لن يخذلنا الرسام مثلما يُخيب الواقع أملنا. نحن في الوادي المقدس. عصر الرسم الخالص ابتدأ مع تابيس. مثلما كان هناك عصر حجري وعصر برونزي هناك عصر للرسم. حضارة كاملة، علينا أن نحتاط من أجل الذهاب إليها بالمعرفة، التي لن يكون من بين دروسها درس الرسم كما عرفناه. سيكون اللعب ممزوجا بالتأمل الفلسفي المرح ضروريا، غير أن أية معرفة تاريخية لن تكون نافعة.

لقد انزلقت قدما تابيس خارج التاريخ. لذلك يحلو للمتدينين أن يقتبسوا منه الهاما غامضا. لقد أكثر الرجل من استعمال الصليب أو علامة الزائد في الرياضيات. ننقص واحدا هو المسيح ونزداد براءة. نزيد واحدا من غير أن يقل خبثنا ولا كبرياؤنا الزائف. كل ذلك لا يعني أن تابيس كان مهتما بالعلاقة بين الصليب وتلك العلامة الرياضية. كانت رسومه نقية من كل ايحاء رمزي وكان شرسا في حربه ضد السماء بالقوة نفسها التي كان شرسا فيها في حربه الارضية. لم يكن الرسم بالنسبة له هبة سماوية. كان الرسم أرضيا، غير أنها الارض التي لا أرض وراءها. الأرض التي لا تنعم بذاتها ذريعة وحيدة للخلق المعجب بنفسه. هل كان الناجي الوحيد من سفينة محطمة؟ يبدو تابيس في صوره الأخيرة كما لو أنه أعفى نفسه من سؤال من هذا النوع. كان هو الآخر، رغما عنه قد تحول إلى رمز وطني. سيضحك كثيرا. ستضحك رسومه. منذ أكثر من أربعين سنة صارت رسومه قوتا للعبثيين والهامشيين ومعذبي الأرض وفلاحي الاراضي المعفية من الضرائب والغاضبين وأبناء السبيل وساكني المحطات. كان لديه ما يفعله لا من أجل انقاذ العالم، بل من أجل عينين تبلغان الهدف بنقاء. كان تابيس جادا في اختلافه. كان جادا في تفاؤله أيضا. هنالك أرض مضافة، هي غير هذه الأرض.
كان تابيس يرعى خرافه في حقول الله أيضا.

القدس العربي
2012-02-14

أقرأ أيضاً: