فاروق يوسف

فاروق يوسفمع الوقت صارت المنطقة التي تحتلها التقنيات البصرية الجديدة تتسع ويكثر الوافدون إليها من مختلف اصقاع الأرض. في المقابل فإن دائرة ما صار يسمى بالأنواع الفنية التقليدية (الرسم والنحت بشكل خاص) صارت تضيق بعد أن توقفت معظم المتاحف والصالات الفنية والبينالات عن استقبال الاعمال الفنية المنفذة بالتقنيات التي كانت إلى وقت قريب بمثابة المجسد التعبيري لروح الإنسان.

إن ما يقلق فعلا هو أن الجمال صار يقل، بل أن اللقاءات الفنية العالمية صارت تعزف عن استقبال أي عمل فني يشي برغبة ولو كامنة في الانتصار للجمال. الذريعة جاهزة: 'لم يعد الجمال يكفي للتعبير عن أحوالنا. الأفكار هي ما تنقصنا'. لا أحد يجرؤ على مناقشة تلك الذريعة. حتى نقاد الفن الممتعضون مما يجري للفن في عصرنا صاروا يتحاشون الاعتراض العلني. من المؤكد ان سبب ذلك الصمت والانكفاء يكمن في أن الجهات التي تتبنى وتمول ظاهرة الفنون الجديدة هي أقوى وأشد شراسة واكثر طمعا في طموحاتها من أن تتم مواجهتها والتصدي إليها. مَن يفعل ذلك فكأنما يقدم بنفسه على الانتحار. يرتكب حماقة ستؤدي به إلى الاقصاء النهائي ويحكم على نفسه بالافلاس، في عالم مادي، المال كذبته التي صارت تصنع الكثير من الحقائق.

ربما لن يتأخر الكثير من المنظرين والمؤرخين والنقاد عن اعلان ندمهم من خلال الكف عن حماساتهم القديمة. تلك الحماسات التي يبدو أنها انحرفت بالفن إلى طريق اللاعودة، حيث أصبح اللافن بديلا. وإذا ما كانت المؤسسات الاستثمارية قد انحازت إلى ذلك البديل منذ البدء فانها اليوم لا ترى سواه. وهو الحدث الذي صارت تلك المؤسسات تفرضه على المتاحف والصالات الفنية وكل اللقاءات الفنية التي تستمد ديمومتها وقدرتها على البقاء والاستمرار من تمويل الآخرين. لقد كان خطأ المتحمسين قاتلا حين ادت حماساتهم (وهي انعكاس لافعال ومشاعر كانت ضرورية) إلى استبدال الانواع الفنية التي عبر وجودها عن خلاصة وعي بصري استطاع الإنسان من خلالها أن يخلق جمالا مجاورا وموازيا لجمال الطبيعة بأنواع فنية لا ترى في النظر إلا وسيلة لاستنباط طرق جديدة في التفكير. وكما ارى فإن الخطأ الجوهري يكمن في عدم الالتفات إلى أنه ليس هناك ما يجمع بين المسارين. فالفنون البصرية الجديدة لا تكمل ما أنتهت إليه الفنون التشكيلية وما من مقاربة تاريخية ممكنة بينهما. بمعنى أن الرسم والنحت كانا يشكلان عالما لا يتقاطع إلا في حدود ضيقة مع العالم الذي شكلته فنون التجهيز والحدث والاداء الجسدي والارض والفيديو والمفاهيم. وحده التصوير الفوتوغرافي يذكرنا بالتحدي الذي عاشه الرسم أيام الانطباعية الفرنسية. وهو تحد استطاع الرسامون أن يخرجوا منه منتصرين للروح من خلال فنسنت فان غوخ ولهندسة الطبيعة من خلال بول سيزان.

ربما لا يميل أحد إلى اعتبار السيادة المطلقة التي تعيشها الفنون البصرية الجديدة نوعا من المؤامرة، ساهمت أطراف عديدة في انجاحها. الخوف من مفهوم المؤامرة تدعمه سخرية البعض التي غالبا ما تنطلق من وصف الآخرين بمرضى الوهم. لكن ألا يدل استسلام المتاحف والبينالات الفنية كلها من غير استثناء بشكل مطلق للفنون الجديدة على وجود تواطؤ خفي؟ ما الذي يعنيه اصرار صالة فنية لها سلطتها على المتاحف مثل غاليري ساجي في لندن على التخصص بعرض الرسوم الايروتيكية فقط؟ أيعقل أن لدى القيمين على البينالات الفنية في العالم حساسية ضد كل عمل فني يتميز بقوته التقنية المحكمة، في الوقت الذي تفتن الاعمال الفنية الضعيفة حساسيتهم تلك؟ هناك اسئلة كثيرة من هذا النوع، لا أعتقد أن أحدا سيجرؤ على الاجابة عليها. أمامها سيقف المعنيون صما، بكما. كما لو أن الأمر لا يعنيهم. وهذا ما يفعله محليا المشرفون على بينالي الشارقة وآرت دبي وآرت أبوظبي وحتى آرت بيروت الذي هو افضل نسبيا من اللقاءات الفنية الأخرى.

الواضح ان هناك استقواء غير مسبوق بالمال.

حين أنظر إلى تجارب الالماني جيرهارد ريشتر (1932) التي ينسبها إلى الفن المفاهيمي، وما هي سوى عبارة عن تقليد لدعايات وملصقات شركات صناعة الاصباغ، أِشعر بالأسى من أجل هذا الرسام الذي هو واحد من أقوى رسامي عصرنا. يكفيه لكي يكون موجودا بقوة في تاريخ الفن سلسلة لوحاته الخمس المعنونة (ما بعد تيتيان) التي استلهم فيها إحدى لوحات الرسام الايطالي الذي عاش في القرن السادس عشر. بين التشخيص والتجريد تنقل ريشتر بخفة الحالم العارف بالمنطق الرياضي المفتوح على مختلف التأويلات. كانت رسومه تهذي بجمال مختلف، غير أنه الجمال عينه الذي حلم به تيتيان ولم يصل إليه. ألا يمكنني القول هنا ان جيرهارد ريشتر قد خان خياله من خلال اعماله التي افترض انها مفاهيمية؟ خيانة مزدوجة للجمال من جهة ما يتحقق من خياله ولوظيفة الرسام من جهة انحيازها لقوة الجمال الخفي. ولكن ما الذي دفع برسام له هذه المكانة إلى ارتكاب حماقة من هذا النوع؟

المكيدة تغلب.

كما أرى فإن القائمين على تكريس الفنون الجديدة بديلا للتاريخ الفني كله يعنيهم أن تضم قائمتهم اسماء فنانين بحجم ريشتر. ولذلك ليس مستغربا أن يكون ريشتر قد دفع به إلى هذا الطريق عن طريق الاغراء بالمال. ثم أن الرجل صار يرى بعينيه أن رموز الفن الصعب قد اختفت (سي تومبلي، لوسيان فرويد، فرانسيس بيكون، تشيلدا). من وجهة نظره، ربما لم يبق سوى انسليم كيفر وهو مكرس تاريخيا بعد معرضه الذي أقيم في اللوفر. حتى خفة ديفيد هوكني فانها تنتمي الى الفن الصعب، غير أن هوكني هو الآخر صار منذ زمن بعيد متحفيا.

أخطأ ريشتر، غير أننا جميعا قد أخطأنا.

هناك سياق تاريخي خطأ. بسببه صرنا اليوم نتحرك في منطقة فارغة، تسعى الفنون البصرية الجديدة إلى ملئها بأعمال، الكثير منها يغلب عليه الطابع البدائي والعفوي والعبثي. هذه أعمال، إن بقي شيء منها فيمكن الحاقه بالفلسفة. هناك افكار عملية يمكن تجريدها من الأشكال التي ظهرت من خلالها لتخلص إلى مصيرها أفكارا خالصة، تنحاز إلى المعنى المباشر، من غير أن تهتم بالذائقة الجمالية. بهذا المعنى نكون قد خسرنا ارثا جماليا عظيما ولم نقبض إلا على قليل من الأفكار الساذجة، التي يمكن العثور عليها في الشارع في أية لحظة. كان رهانا قاسيا. خسارتنا فيه لا تقف عند حدود خيانة الجمال، بل تتعداها إلى صنع أجيال لا تعرف ما الجمال وما ضرورته. أجيال استهلاكية، تأكل ما يُقدم لها، ترى ما يُعرض أمامها، لا تنصت إلا إلى الصوت العالي.

سيعد الكثيرون ما أقوله اعلانا للندم.

لقد كنت ولا أزال متحمسا للتحول. فالرسم والنحت ليسا في وضع يمكن وصفه بالحسن. هناك تكرار ممل وفاقة اصابت الخيال في مقتل. وهناك تقاليد بائدة صار السكوت عليها مضنيا. لولا الاستثناءات القليلة لصرخنا أن الرسم والنحت باتا فنين ميتين. ولكن الأفكار ليست بديلا مناسبا للفن. الأفكار يمكنها أن تكون موجودة من خلال الفن ومن خلال الكتابة بالقوة نفسها. حين أدخل إلى معرض ولا أرى إلا جملا ملصقة على الجدران بدلا من اللوحات، أتساءل مع نفسي 'لمَ لا يؤلف ذلك الفنان كتابا؟ ما الحاجة إلى نثر أفكاره على الحيطان كما لو أنها شعارات في تظاهرة؟' من جهتي فأنا أعرف الجواب الجاهز. ولكنه جواب لا ينتمي إلى الفن مطلقا. نوع من التلفيق الذي لا ينظر إلى الفن إلا من جهة كونه ماكنة لانتاج الافكار الجاهزة.

القدس العربي
2012-07-19

أقرأ أيضاً: