فاروق يوسف
(العراق/السويد)

من أعمال مانويل الفريز برافو

هناك ما نتركه منا منفياً في الصور الفوتوغرافية من غير أن نلتفت اليه: رائحة رافقتنا، نظرة حلمتنا، لمسة أشفقت علينا، صرخة أيقظتنا. كما لو أننا نعبر ليلا تلتهم عتمته كل شيء من خلفنا. لكن، حين نلقي بأجسادنا في لجة استفهام الصورة، ما الذي يغرينا حقا في الذهاب الى مثل هذا العدم؟ هل نعرف لحظة التصوير أننا انما نذهب حينذاك بأقدام هلعة الى الماضي؟ لن يكون التأريخ رحيما دائما وهو يرانا مستسلمين لخياناته. فالصور التي نريدها زادا للذكريات، قد تكون نبع خيال مضاد: فضيحة تهب انفصالنا نوعا من الصلابة الجارحة. مشاعرنا ازاء الصورة لن تكون أبدا عينها، ذلك لاننا سنكون دائما سوانا. ما يذهب منا الى التاريخ هو ما نودّ ابقاءه من مشاعر اليقظة والخوف والحذر والتأني والاجلال. في عمق الصورة نتحرك مثل أشباح، غير أن الصورة عينها لا تحتفي إلا برؤى الشمع التي تسيل على أجسادنا المتخشبة. بطريقة أو بأخرى، فإن النظر الى صورنا لا يلهب حساسيتنا إلا بمشاعر باردة. ذلك لان كل الاسى لا يعوض لحظة عيش واحدة فلتت. في الصور نقتفي أثرا غامضا سيكون دائما من نصيب سوانا.

1

من أعمال ماجي هاسبروك.

لم تكن عيناً مستعارة من الواقع، تلك العين التي صوّر مانويل الفريز برافو (1902 - 2002) بها ومن خلالها وقائعَ حياة يومية عابرة. كانت تلك العين عينه الخبيرة تماما والبريئة من غير أيّ شك. مثلما خلقها الله ومثلما ألهمها قلب الشاعر في أعماقه بصيرة استثنائية. كتب برافو بنظرته المتوترة والمتشنجة تلك، سيرة مواطنيه في ذلك البلد الذي كان يوصف دائما بأنه قريب من الولايات المتحدة، بعيد عن الله. المكسيك التي يمكن أن نراها بعين برافو بخبرة يأس ضروري. لم يكن برافو ليقيم في الظل، مثلما هم مواطنوه الذين صوّرهم في غفلة منهم وفي لحظة سهو. كان لديه ما يفعله من أجل أن يصل الى جوهر الحقيقة التي تعذّبه بصريا لكي تتاح له فرصة القبض على ذلك المعنى الخفي الذي يتخلل حياته ويشوّشها. حين نتطلع الى صوره (بالابيض والاسود دائما)، نشعر اننا نقبض تدريجيا على واحد من اهم المفاتيح السرية التي تجعل الدخول الى الشخصية المكسيكية فعلاً ميسرا. فالمكسيك التي نراها في تلك الصور صامتة، متأملة، غاصة بالتعبير المتأني، هي عينها التي ينعم الفنان في البحث عن تأويل معرفي لما ينتج منها بصريا. انها تقيم في المسافة بين العين التي ترى وتلاحظ وتندهش، والعين الثالثة التي تسترسل في تفسير ما تراه معرفيا. تقاطع ضروري من اجل أن تكون بلاد عريقة كالمكسيك موجودة مثل لقية مدببة وملساء. خبرة الالم لدى برافو، هي التي صنعت تلك اللقية. فالوقائع العابرة هي مثل الاشياء اليومية قد نشكّ في وجودها لو لم تستول عليها عين الساحر لتتدارك بها خطأ ممكنا، يستغيث به الواقع. مشاهد قد تتكرر يوميا مثلما نتكرر نحن كل لحظة، لكن هناك دائما في اعماق كل ما يتكرر لحظة استثناء يستيقظ فيها الخيال على فجيعة ماهرة في صنع تجلياتها. لدى كل فنان نظرة يوليوس قيصر الاخيرة قبل أن يطلق صرخته الشهيرة: "حتى أنت يا ولدي" التي وهبها شكسبير لغته حين قال: "حتى أنت يا بروتوس". أكلّ هذا الذعر من أجل صورة؟

2

من أعمال روبرت كابا

في أحد أزقة باريس عثرت ذات صباح من عام 2001 على منضدة دائرية شبيهة بتلك التي احتضنها الشاعر الفرنسي جاك بريفير في واحدة من أكثر صوره شهرة. كانت المنضدة التي عثرت عليها كالاخريات في المقهى الباريسي الزاحف على الرصيف، غير أني اردت من خلال استعارتها خيالياً القيام بفعل نزق يذكّرني بباريس. جلست وراءها كما فعل الشاعر الفرنسي من قبل وطلبت من محمد سيف تصويري. ماذا كانت النتيجة؟ الان، كلما نظرت الى تلك الصورة تذكرت هيئة محمد سيف وهو يلتقطها. كان غافلاً عني ولم يكن قادرا على التقاط الوحي المرح الذي يقف وراء رغبتي تلك. كانت لديه يومذاك لحية غريبة الشكل وكانت هناك جمل كثيرة تدور في راسه لإقناع نقابة العمل باسترداد حقوقه التي يتوقع أنها ستهدر. لم يصنع سيف المعجزة التي كنت أسعى الى ابتكار ما يشبهها. كانت عينه لا ترى المسافة التي تفصله عني. مضى اليَّ مباشرة ليقيّدني بهيئتي التي كنت عليها في تلك اللحظة. وهي هيئة فارقتني منذ تلك اللحظة وذهبت الى غيابها.

3

كما لو أننا كنا نسكن هناك منذ الابد. الصور التي تحتوينا وتجعل أجسادنا مادة لإلهامها التصويري تخدعنا لنكون من خلالها أشياء جاهزة للاستعمال. كل صورة هي خلاصة واقعة لم يعد في الامكان تكراراها أو الاقبال عليها. دائما، وفي كل صورة، هناك ما نفتقده، ما نحِنّ اليه، ما كنا فيه وقد تلاشى كغبار. نحن هناك في الصورة مُلقىً بنا لنكافح قدرا يهبها هيئة الأشكال الجامدة. يمتحن المرء ذاكرته حين يرى صوره الشخصية القديمة. لا رغبة منه في الوصف بل لاستعادة شعور كامن في مكان ما من وجوده الذي تداعى. الصور تمهّد لغيابنا وتتركنا على الطريق، في الغرف، على السلالم، في الأسرّة، بين الجدران، في العراء كما لو اننا شظايا متناثرة من اساطير انكسرت قوالبها المتماسكة وفقدت هيبتها. الصور في حقيقتها نوع من الرؤيا التي تنذر بالنسيان. لذلك تغيظنا أحيانا كل محاولة للتصوير تذكّرنا بالمرآة. تلك الالة التي لا تتوقف عن النظر المتلصص الذي لا يعبأ بأي محظور أخلاقي. الاميركية ماجي هاسبروك ذهبت الى مناماتها لتصنع اسطورة للجسد المضاد، ذلك الشيء الذي يتهدده الغياب كما لو أنه منذور لفكرته عن فناء ممكن في كل لحظة. ماجي هذه، تصنع صورها بعينَي رسام لا تكفّان عن اللحاق بخيال يديه. صور ماغي تهب الواقع طابعا سحريا يلغي المسافة بين ما نحلمه وما نعيشه. وقائع طريفة تقيم في حساسية هي في طور التشكل. في كل صورة من صورها تنمو للبشر أجنحة تحلّق بهم لتعيدهم الى كون لم يعد الرجوع اليه ممكناً إلا من طريق الفن. ولكن هل رأى ادولف هتلر صورته في باريس بعينَي خياله ايضا؟

4

صورة هتلر تلك تشبه صور ملايين الاشخاص ممن زاروا باريس، من قبل ومن بعد. فالمرء يحلم بالاستيلاء على باريس من خلال برجها الشهير (ايفل). "كنت هناك حقا". وهي جملة سياحية ربما لم يكن هتلر يفكر فيها في تلك اللحظة من جحيمه الشخصية. الشيء الذي هو برج ايفل كان بالنسبة الى هتلر خلاصة خبرته في اخضاع المدن العاصية، ولم تكن صورته هناك إلا دليلا على انتصار فكرته عن ارادة القوة الوحيدة في العالم التي كان يمثلها. ولكن، هل رأى هتلر صورته تلك؟ مثلما فعلت أنا مع منضدة جاك بريفير، فعل هتلر من قبلي مع برج ايفل. التقط صورة ومضى. مثلما فعلت تماما. لقد انفصل عن جسده ليبقي فكرته التي هي اساس رغبته في أن يكون موجودا في باريس ولو من خلال صورة. يمكننا أن نتخيل أن الزعيم الالماني الاشهر في التاريخ قد حضر الى باريس من أجل التقاط تلك الصورة، التي يمكننا أن نتخيل ايضا أنه لم يرها. كانت فكرة الصورة تعنيه أكثر من الصورة نفسها. كانت تلك الصورة في حد ذاتها واقعة شبيهة بواقعة احتلال باريس، بل هي بالنسبة الى هتلر أكثر تشبثا بالتاريخ. من يرى تلك الصورة لا يمكنه أن يتخيل هتلر في اعتباره سائحا في تلك اللحظة المدوية من التاريخ. ولو كان المجري روبرت كابا (1913 - 1954) هو الذي التقط تلك الصورة لكنا عرفنا حقائق أخرى عن تلك المناسبة.

5

كابا عاش الحروب كلها (الحرب الاهلية الاسبانية والحرب الثانية وحرب فيتنام التي قتل فيها). في يومياته، هناك أيضا صور نادرة لبيكاسو وماتيس، غير أنها كانت مناسبات لراحته بين حربين. صور كابا لم تكن تعنى بتفسير الوقائع، كانت هنالك واقعة مطلقة تريد الذهاب اليها وتأكيدها. صوره تلك أشبه ما تكون بجمل مستعارة من ارنست همنغواي الذي عاش شيئا من شقاء كابا. الحرب في اعتبارها عنوانا لقدر يمكن التحايل عليه أو التسلي اثناءه. لقد اختفى كابا مثلما اختفى من قبله الفرنسي انطوان دو سانت اكزوبيري. الاثنان كانا يبحثان عن واقعة شخصية في حرب لم تترك لأحد حرية التفكير في نفسه أو الاكتفاء بأحلامه. كان كابا يصور أشخاصا أو أشياء، غير أن اولئك الاشخاص كانوا منذورين لقدر جماعي، وتلك الأشياء كانت موجودة في سياقها التاريخي. لقد انتحل كابا دور المؤرخ في طريقه الى جمال، كان في لحظة الخلق تلك يتداعى .

النهار الثقافي
يوليو 2-2007