زينب عساف

حاورها: زعيم نصار

يخيـّل اليّ ان الأفق الذي ينفتح في قصيدة زينب عساف، يدخل من خلال النافذة التي تتوسط عالمين هما الواقع والخيال. نافذة مفتوحة نحو داخل الانسان وخارجه. في قصيدتها أمسك عالماً معلقاً بين حياة تموت، وحياة تولد، بين كائنات تغيب، وكائنات تحضر. أمسك عالماً متداخلا بعلاقاته الواقعية مع خيال مدروس ومتحرك بمزاجية انثوية. وبرؤية أخرى ان العالم الذي تراه الشاعرة، وأنا أقيس المسافات الطويلة لهذا الأفق الشعري. حينما أغلق عينيّ يتلاشى عالمي غفلة، ولكنّ عالماً مماثلا يستمر في عينيّ القصيدة. أجد ان كلّ ما يتعلّق بهذه القصيدة يتمثل بمحاولة استكشاف المنظورات المتحركة غير المنتهية التي يمكن رؤية الواقع فيها من خلال التخيـّل.

زينب عساف من مواليد عام 1981، في بوداي- قضاء بعلبك- محافظة البقاع. تلقت علومها الأولى في المدرسة الأسقفية "راهبات". عاشت في البقاع حتى سن الرابعة عشرة، قبل أن تنتقل إلى العاصمة بيروت حيث تعيش في ضاحيتها الجنوبية. درست علم الحياة لمدة سنتين، قبل أن تتحوّل إلى دراسة الصحافة في كلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية. نالت الإجازة في الصحافة وتحضّر حالياً للماجستير. تعمل في القسم الثقافي لجريدة "النهار" التي دخلت إليها في عام 2003. "صلاة الغائب" هو عملها الشعري الأول. تتابع الحركة الشعرية في لبنان والعالم العربي وفرنسا من خلال عملها النقدي في الصحيفة. وترأس تحرير مجلة "نقد " و لها ترجمات في الشعر لعدد من الشعراء الفرنسيين، منهم: جان غروجان، برنارد جيوستي، كلود إستيبان. سيرج بيّّ، وآخرون، تحب المسرح كثيراً، لكنها لم تجرّب التمثيل، تحب الرسم أيضاً، كانت ترسم في الماضي "منذ وقت بعيد، وفي إطار الهواية".
* أية عوالم تستلهميها في تجربتك الشعرية ؟
- لديّ مفهومي الخاص للمكان، لأني اعتبره إحساساً اختزنته في لحظة معينة لذلك، تتنوّع عوالمي بتنوّع أحاسيسي و اكتناز تجربتي. بشكل عام، ثمة عالم واقعي وآخر متخيّل يتداخلان في كل آن، ليولّدا عوالم أخرى حُلمية وعصيّة على الترجمة تتّخذ بعض الملامح بعد ولادتها على الورق.

* هل لك معنى خاص للشعر؟
- ماهو الشعر؟ المعاجم تقول إنه طريقة للتعبير، ويعتبره علم النفس طريقة للشفاء. أجدني منساقة إلى تعريفات أخرى، خذ مثلاً هذه الجملة لشاعر فرنسي غير معروف كثيراً هو برنارد جيوستي: "تلك الموسيقى المحرّمة فيك المسماة شعراً"، أو ذاك الوصف البديع الذي أطلقه شاعرنا الكبير محمد الماغوط: "الجيفة الخالدة"، أو جمل أخرى، قد لا تكون أُسبغت على الشعر لكنها تنطبق عليه مثل:"طفل دنس". عبارات مماثلة تؤكد النظرية القائلة إنه لا يمكن تعريف الشعر من خارجه. لكن يبقى تعريف غريب "ديني الطابع" أثار انتباهي، فقد جاء في الأحاديث أن إبليس بعد طرده من الملكوت سأل الخالق: فاجعل لي قرآناً، قال: الشعر. حيرتي تجاه "قرآن إبليس" ترجمتها في عبارة واحدة: "كلمة ابتلعتها خطأ".

* ايهما يصنع الشاعر، الرؤية الشعرية ام أسلوبه الشعري؟
- أعتقد أن ما يصنع الشاعر هو قدرته على الإيحاء والترميز وتمديد المعاني. أنا أترك لأنفي أن يبحث عن الصدق في الكتابة وأن يُخدع أحياناً، من هنا، لا أعوّل كثيراً على مفهوم الرؤية الشعرية، كما أخاف من كلمة أسلوب حين تستخدم للشعر. الشاعر كلود إستيبان بحث طيلة مسيرته الشعرية عن حالة انعدام اللغة التي تعني التعبير الصرف الذي يذهب من دون وسيط إلى المتلقي، شخصياً، أظن أن علينا التخلّص من معوّقات اللغة والمحافظة على جماليتها في آن واحد.

* أقرأ لك ترجمات متنوعة وقراءات مختلفة، ماذا أخذت من الثقافة الفرنسية ، وكيف ؟
- لا أدعي إلماماً بالثقافة الفرنسية بشكل يسمح لي بالتبجّح على الطريقة السائدة، في الحقيقة لم تمنحني هذه الثقافة مفاتيحها بعد، ما زلت أطرق بابها. على الرغم من ذلك، أزعم أن ترجماتي وقراءاتي المختلفة سمحت لي بتكوين خارطة أولية. الممتع في الفرنسية هو كونها لغةً- مصباً، على غرار العديد من اللغات الأوروبية الأخرى، بسبب حركة الترجمة الناشطة منها وإليها. هكذا، يمكن للمرء التعرّف إلى شكسبير أو إيكو أو بورخيس بلغة رامبو ومالارميه.

* برأيك هل يخفت بريق الشعر حين يترجم إلى العربية؟
- لا يخفت بريق الشعر حين يعرّب، على العكس إنه يكتسب روحاً جديدة. لذلك، أتحمّس كثيراً أثناء الترجمة من دون أن أسمح لنفسي بتشويه النص الأصلي أي أني أكون، حسب قول هولدرلين، "وفية في قلب اللا وفاء". بكل الأحوال، لقد كان للترجمات أثرها الكبير على قصيدة النثر العربية بشكل عام.

* ماذا منحتِ العمل الصحافي وماذا أخذ منك ، هل أثر على تجربتك الشعرية ..كيف ؟
- لقد أخذ العمل الصحافي مني أكثر مما أعطاني، لأنه يستنزف قدرة المرء على الكتابة. من جهة أخرى، لا أنفي انه أغناني على الصعيد الشخصي والإنساني، ومنحني فهماً لتلك العلاقات الملتبسة في عالمنا العربي بين الثقافة والإعلام. وكما يحلم لاعبو كرة القدم بالاحتراف وعدم الاضطرار لممارسة مهنة أخرى كسباً للعيش، أحلم باحتراف الكتابة.

* لغتك في صلاة الغائب سهلة وبسيطة وكأنك تكتبين يومياتك ، ماهو رأيك بتشابه لغة الشعر العربي؟
- لغة "صلاة الغائب" سهلة لكنها ليست بسيطة. السهولة أو الألفة ناجمة عن استخدام اليوميات لا نقلها، بمعنى إعطاء العاديات معاني أخرى. خذ مثلاً لفظة "الكانتون" إنها لفظة ملتصقة بالحرب اللبنانية والتقسيمات الطائفية، ولم يسبق استخدامها في قصيدة، أو المزج في قصيدة "دوالي" بين الميثولوجيا الدينية والأعمال البيتية التي تمارسها النسوة: "مرة أقسمت أنها رأت الحسين/ ورأيت قميصاً يطير عن حبلها"، أو استخدام عبارات مثل: "أمير العرب" و"روايات عبير"، وصولاً إلى الجمل باللهجة العامية: "ببكي وبروح"، كل هذا كان مقصوداً لتثبيت القصيدة إلى تربتها. تخيّل الكتاب من دون هذه "المسامير" الصغيرة، سيكون هوائياً كلاسيكياً.لقد أفدت من اسم "زينب" الشديد الإيحاء، وأنزلته من قدسية تصنّمه، بهدف وضع اليد على الجرح مباشرة. وأظن أن هذه شجاعة تنقصنا في الكتابة والقول، لأننا نبدأ في كل شيء(حتى وتحديداً في السياسة) من العام إلى الخاص، نريد محاربة إسرائيل ولا نلتفت إلى تصرفاتنا العُصابية تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين، نريد تحقيق الوحدة قبل التنمية إلخ...قد يكون التشابه الذي تحدّثت عنه ناتجاً من مبالغتنا في التجلبب بعباءة الجماعة، وصولاً إلى خنق أي تميّز. يُرجع البعض هذا التكتّل إلى الدين الذي يُطلق صفة "الفرد" على الخالق فقط، أو إلى شعورنا بأننا مستهدفون دائماً، أو إلى العمودية المفروضة لقرون على الشعر العربي. لن أدقق الآن في مدى صحة هذه المقولات. لكن أعتقد أن على الشاعر استنباط لغته الخاصة الأصدق تعبيراً عن رؤاه بوصفات مُحدثة من الأبجدية المعروفة. وهذا ما يحدث منذ تخلّص الشعر من المعوّقات الشكلية، وذهب بعض الشعراء كالشاعر الفرنسي رامبو بعيداً، فقد أنكر اللغة في استخداماتها العقلانية، وحاول إيجاد "مختصر صوتي للعالم". على أي حال، أنت تصف الشاعر بـ"حارس الكلمة"، أظنه أيضاً النحوي الأول الذي يعيد للكلمة قدرتها على الخلق .

*بين الحضور والغياب، مسافة للقول، الكلمة باستطاعتها استحضار الغائب، عندما أريد شيئا اكرر حضورا لغويا في أعماقي فيحضر حالا حضورا ماديا ونفسيا، كتابك هو نشيد لاستحضار الغائب الذي رحل وربما ضاع، كيف ترين العلاقة الشعرية بين الكلمة والشيء ما نفع الكلام في حضور الحياة وغيابها، من الذي تنشدين حضوره: إنسان، زمن ما، حياة مفترضة.
- سؤالك متشابك قليلاً، لكن الفكرة أغوتني: استحضار الغائب. أذكر الآن بعض المعتقدات الشعبية، أحدها يقول: إذا استبدّ بك الشوق، ما عليك سوى إحراق شَعرة من شَعر رأس الغائب، فيعود. هل يشترك الشِعر والشَعر بهذه الوظيفة؟ (ربما). شخصياً لا أميل إلى الاعتقاد بأن وظيفة الكلمة استحضار الشيء البعيد، الغامض والمثير، بل زيادة غموضه. جمال الغائب ينبع من كونه غائباً ومن العيش على أمل تجلّيه الدائم. ثمة ملايين من المؤمنين يعيشون على فكرة ظهور المهدي أو المسيح، فقط لأنهم بحاجة للانتظار. الانتظار من حيث هو "رافعة" للراهن. على الرغم من ذلك، لا أظن أن الكلمة كائن يقبع "بانتظار غودو" كأبطال بيكيت، الكلمة أقوى من الشيء لأنها خالقته وإن بدت ترجمة لغوية له. لنقل إنها رسولة غائب غير موجود خارجها. وفي هذا الإطار، تستوقفني فكرة روّج لها بعض الصوفيين الذين اعتبروا أن الله ضرب من"الكلمة السرية": يُطلق كلمات فعّالة فيخلق الأشياء. من الواضح أن الحدود ملتبسة إذاً، وأن الغائب الذي أنشده موجود في داخلي وفي الكون أجمع. قد يكون رؤيا تدور حول الماكرو أو الميكرو-عالم. وقد يكون أناي المعكوسة، القلقة، الباحثة عن استقرار لا يمكنها احتماله.
لأن مأزق الإنسان الأول هو مع الزمن: يخاف الزوال من جهة، ويسأم الخلود من جهة أخرى. لذلك، يترك البعض بصماتهم على جسد اللغة، والآخرون شرايينهم في هذا الجسد.

* الكلمة تخلق الشيء ، والزمن يزيله، بين الخلق والزوال يعمل الانتظار المتحرك، الانتظار الفاعل، لا أتصور الكائنات بلا انتظار، ما الذي نفعله بلا انتظار، انتظار الحبيبة، انتظار الحلول، انتظار الاكتمال الناقص ، انتظار الغائب ، انتظار الرؤيا لكي نتحرك بعد كل هذا، إذا هذا المكان، وهذا الزمان وأمامنا الطور فأين الرؤيا؟ وأين الرؤية ؟ أنا أول بحث أقوم به في مخابيء الشاعر ( قصائده ) هو البحث عن رؤياه في النص ، فان لم أجد أحاول مرة أخرى، زينب كيف ترين العالم ؟ كيف ترين غموضه ؟ لماذا الموت ؟ ولماذا الحياة؟ لماذا الكراهية؟ ولماذا الحب؟ الشاعر لا يسأل عن الكيفيات، يسأل عن اللماذيات .
- كان يجب أن تجد الرؤيا في شعري (أمزح). تقول إن الشاعر لا يسأل عن الكيفيات بل عن اللماذيات، أعتقد أن سؤال الشعر هو سؤال مفتوح، لا خصخصة فيه، هو سؤال الفلسفة والأديان والله والموت واليوميات، وحتى العلم. حين تقول إن الشعر يسأل عن اللماذيات تكون قد حصرته وجعلت له اختصاصاً، وهذا من حيث المبدأ ضد الشعر.
يقول هنري ميللر:"إن التفكير الذي لا يقودك إلى أي مكان يأخذك إلى كل مكان"، لا أعرف لمَ أظن أن الشعر هو تحديداً هذا التفكير المتفلّت، الذي يتميز بفوضاه الفاتنة بعكس الفلسفة، وهو لا يكشف عن غايته النهائية إلا بعد انتحاره.
طرحت لتوك مجموعة من الأسئلة المقلقة والضخمة عن العالم والموت والحياة والكراهية والحب. تعلم جيداً أن لا إجابة لديّ، لكني سأحاول استخدام ذاكرتي الطفولية لنسبة بعض الصفات إلى هذه الكلمات، العالم: أضيق مما ينبغي لذلك نبحث أمامه وخلفه، الموت: غواية الراحة، الحياة: محطة بين غيابين، الكراهية: نوع من العجز، الحب: تلك الكلمة.

* (تبدو الشاعرة في غاية الجرأة عندما تسمّي بعض الأمور بأسمائها غير متهيّبة أيّ ردّ فعل مهما يكن ). هذه الجملة للناقد عبده وازن في مقاله المنشور في جريدة المستقبل (شاعرة جريئة لا تنظر إلى الوراء ) ماهي ردود الأفعال المتوقعة ؟ ولماذا هذا التوصيف بالجرأة ؟ هل الشاعرة العربية خائفة وتنتظر ردود أفعال الآخرين وسلطتهم ؟
- سُئلت من قبل هذا السؤال، وأجبت أنه قبل محاسبة "الجريء" لابد من محاسبة "الشعري" في الكتاب، لا أريد أن يُصفَّق لي لأني جريئة، أنا أطرح نفسي كشاعرة لا كمصلحة اجتماعية. على أية حال، مجرّد التفكير في دخول "أوكار" الثقافة العربية هو مجازفة كبرى، كيف يمكن لمقاهي الثرثرة أن تستقبل امرأة وافدة، عدا عن كونها شابة؟ وكيف يمكن لهذه المرأة أن تقطع صلاتها بمجتمع وتواصل العيش فيه؟ نعم أنا خائفة، وأشعر بالتهديد في كل لحظة، من يضمن أن متطرّفاً لن يحزّ عنقي غداً تحت صورة قائده؟ ثم أليس من حق آخر ذكر في المحيط الضيّق فرض سلطته على أية أنثى؟ ثمة الكثير من وسائل الإخضاع كما تعرف، وأحياناً تكفي إشاعة واحدة لتدمير حياة امرأة. ببساطة، أنا أرفض الدخول في هذه المبارزة القذرة، لست طرفاً فيها ولن أكون، لأنه لا يحق لأحد سلبي إنسانيتي. أنا أكتب كما أتنفّس ولا أطلب إذناً من أحد.

*ما رأيك في الحركة الشعرية النسوية في لبنان؟ و بالمصطلحين الموجودين في النقد العربي ، ألأدب النسوي، والأدب الرجالي؟
- لا يمكن الحديث عن حركة شعرية نسوية وأخرى ذكورية في لبنان. ثمة تجارب شعرية متفاوتة في قيمتها وعمقها لدى الجنسين، ولو أردنا تعداد الشاعرات المستحقّات لما تجاوز العدد أصابع اليد الواحدة. بشكل عام، لا أؤمن بالفرز بين أدب نسوي وآخر ذكوري، ما هي مميزات هذا الأدب أو ذاك؟ هل يكفي جنس الكاتب(ة) للتحديد؟ ثمة نساء يكتبن بأقلام ذكورية، ويعززن الصورة النمطية المكرّسة، وثمة رجال (وهم قلّة) يحاولون تكريس صورة أكثر إنصافاً. بالطبع، هناك دائماً خطوط عامة واهية تميّز الكتابات النسوية لأن الكاتبات يعانين من الضغط الاجتماعي نفسه.

* تقولين في صلاة الغائب ( أيها الحزن أنا تمرست عليك ) لماذا هذا السواد، ومن أين يجيء حزنك العميق، القصيدة عندك نوع من النشيج والبكاء الا ما ندر؟
- في مرحلة ما من حياتي عشت الحزن كجزء من يومياتي. لا أعرف اليوم إن كنت أنا من سعيت إليه أم أنه هو من لاحقني، ولا أعرف تحديداً هل كان حزني الخاص أم الحزن التاريخي للمحيط الذي ترعرت فيه، لكنني أجيد اليوم تنظيمه. ما أستطيع قوله هو أن حزني الشعري ليس حزناً محضاً بقدر ما هو نقمة.

* الأنا في قصيدتك ( بطلة ) تريد ان تكون بطلة، ولكنها تتحول إلى مجرمة كتابة وأقلامها رصاص طائش .. في صلاة الغائب هل أنت ضحية ام بطلة، اسأل عن الأنا الشعرية في الكتاب؟
- لست ضحية، وبالطبع لست بطلة. أكره ثنائية الخير والشر الساذجة. في النهاية، كل منّا هو قدّيس ووحش، إنه شيطان داخل الجنة كما يقول هنري ميللر. ربما أردت عبر الكتابة أن تصبح أناي مرئية أكثر، ليتاح لي التعامل معها بشكل أفضل. لكني ذهلت بعد قراءة نصي بكمية الحزن المخبوء التي طافت على الورق.

المدى- مارس 2007


إقرأ أيضاً: