حاورته: عناية جابر

زهير غانملزهير غانم الشاعر السوري المقيم في لبنان إحدى عشرة مجموعة شعرية، كما أقام معارض تشكيلية في لبنان وسوريا تجاوز عددها الأربعة. عن شعره وإصداره الجديد (شمس منتصف الليل)، وعن المشهد الشعري في العالم العربي والعالم، وعن الرسم وشارع الحمراء الذي يشكل جزءاً لا يتجزأ من ضمير المثقفين، التقيناه، وكان هذا الحوار.

* هذه مجموعتك الشعرية الحادية عشرة (شمس منتصف الليل) آخرها (زهريات وقبريات) وما زالت لغتك على استرسالها ودفقها. هل تعني لك شيئا القصيدة المقتضبة. القصيدة في كثافتها، وفي أقل الكلمات الممكنة؟

اللغة هي مادة الشعر، شئنا أم أبينا. ولا أدري لماذا ينظر الى الاسترسال والدفق اللغوي في الشعر على انه سلبية. لماذا لا نبحث عن الشعرية في الشعر، ثم عن الأدوات والعناصر التي تغذي هذه الشعرية؟ ثم لماذا تعتبر البلاغة هي الإيجاز فقط. وماذا نقول عن المعلقات، والشعر العربي الكلاسيكي، وشعر السياب في (الأسلحة والأطفال) و(المومس العمياء)، وغيرهما، وماذا نقول في نيرون مطران، وفي قصائد ادونيس. لا أدري لماذا يصرف النقد من طاقته، ويستسهل الآراء. هناك استرسال وسردية، وتدفق لغوي في القصيدة، وبذلك هي ضعيفة. هل قصيدة الدردارة لحسن عبد الله وقصائد درويش ضعيفة. ثم أليس هناك أساليب شعرية للشعراء، حتى لو كانت المطولات والكتب الشعرية المتكاملة ليست قصائد بمقياس سوزان برنار لقصيدة النثر، فهي نصوص شعرية وربما من مكاسب الشعر من الرواية. تلك السردية، والشعر الحديث الذي دفعته المدرسة السوريالية الى الأمام، اعتمدت الآلية والتداعي الحر والمونولوغ الطويل، أما مقياس القصيدة المقتضبة، القصيدة في كثافتها، كقصائد الهايكو فذلك شأن آخر. في الشعر رباعيات وخماسيات، وموشحات، وبيت القصيد وقصيدة النثر القصير، وهذا أسلوب وشيء مختلف ودائما أختلف في أن الشعر في غالبيته لغة، وما زلت أذكر معارك قصيدة البياض، والردود عليها، من لم يملك لغة، فلماذا يكتب الشعر وقد كانت القصيدة التشكيلية، والقصيدة البلاستيكية في تندر وليد إخلاصي عليها.
لست ممن يحتبسون الشعر في سياقات وأساليب، وأرى الى حرية الشاعر وطاقته على التعبير هي ما يعول عليه، ويعول على اختباراته، وعلى الشعرية لديه أكثر فأكثر، وحين تختلط الحدود تصل الكتابة الى النصوص، ودواعي الحلم الشعري، وكأن القصيدة المقتضبة، قد أباحت الحدود الشعرية، وسمحت للدخلاء بما لا يقاس في امتهان حدائق الشعر.
نعود الى القصيدة المقتضبة، وإشكالية اتباعها للشعر المترجم، واختلاط مفهوم الحداثة لدينا، وكأن الشعر الحديث، وقصيدة النثر، تشكّل كاذباً على شعر المركز الأوروبي وهذا ما لم آخذ به، عند مراجعتي دواوين الشعر الحديث، وكأنني كتبت عن الشعر النثري، أكثر مما كتبت عن التفعيلة، واحتفيت بأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا، وعباس بيضون، واسكندر وعناية وغيرهم الكثير. لذلك أرى أن الشعر تجربة شخصية ذاتية، تمتلك أسلوبها. في قصيدة طويلة، نص، أو في قصيدة نثر قصيرة، مقتضبة مكثفة، وهذا اللعب على الأساليب هو ما يعطي التجارب الشعرية نكهاتها وسماتها المتعددة المتنوعة، واختلافاتها ضمن فن الشعر، غير المحصورة بأسلوب واحد، ينسد أو يموت فيه.

* في قصائدك يوميات بيروتية، تتنقل فيها في أمكنة شارع الحمراء، ومقاهيه، الى أي درجة تبدو حياتك مستقرة في بيروت...؟

إنه القلق، جرح القلق هو الذي يهيم بي في شارع الحمراء، تضيق الحياة، بعد الحرب، ويتقدم العمر الحزب الذي نخرته الحرب، ونخره العنف والدم والموت، وشارع الحمراء تحول ولم يعد أحمر. لقد قيل لي أن تراب رأس بيروت مع الشارع كان أحمر وما زال، الآن هذا الامتداد الطويل للبناء، والمحال، والواجهات، البشر والسيارات، لا يفضي الى شيء، إذا لم ننحدر الى البحر. ربما هذه ميزة شارع الحمراء الذي يفضي الى البحر وكنت دائما أجوس المكان بخطى مرتبكة، وجسد متضور ضار وحمى بكائية مغمدة، لان مقاهي الرصيف شحت، أغلق الاكسبرس، إنها حيواتنا بالأمتار، لكن أفكارنا بالسنوات الضوئية، وأتساءل ما الذي أحلمه في شارع الحمراء، فسحة للرماد، في جمر الجسد، وهيولى بصرية نادرا ما أتمايزها وأتميزها وأنا أسير سادرا هائما، باتجاه اللا اتجاه، باتجاه المقهى.
إن شارع الحمراء ليس شارع نساء، ولا شارع حياة، ولا شارع شعر، إنه ببساطة شارع كل هؤلاء، وأكثر، انه شارع طقوس وأسرار وعواطف وسحر، انه شارع الحمراء، علامة هبوب واندلاع وطيران...!

* نعرف انك في الشعر تقول شيئا من روحك. وفي الرسم تقول شيئا آخر من روحك، فإلى جانب مجموعاتك الشعرية، ثمة معارضك الفردية التي ناهزت الأربعة بين بيروت ودمشق، هل نسأل السؤال التقليدي. أين تتحقق فنيتك أكثر؟

بالتأكيد الفن شعراً ورسماً تعبير عن روح الإنسان، لكن المسألة تأخذ مسارات متنوعة، حسب وسيلة التعبير، فيمكن للشاعر أن يكون مسرحياً، والمسرح بدأ شعراً كما نعرف. ثم يمكن له أن يكون روائياً، وقاصاً... طالما هو يستخدم مادة التعبير الواحدة اللغة، ويمكن أن ينجز في ذلك ما شاء، لكن في عصر الاختصاص كما يقال، يجب أن يختص الكائن بفن واحد يلائم ممكناته واحتمالاته، وألا يمد يده الى فنون أخرى ليست من اختصاصه. الحقيقة أنا بدأت بهواية الرسم قبل الأدب، وإن كانت ميولي الأدبية موازية للرسم، لكنني لم أمارس الأدب، لقد خرجت من الثانوي وأنا شاطر في موضوعات التعبير الأدبي، وحافظ جيد للشعر.
في الجامعة التي انتسبت فيها الى قسم اللغة العربية وآدابها، تطور الأمر الى ممارسة الفن الأدبي الأرقى الذي هو الشعر. بين مجموعة من أقراني، حفزوني على ذلك، حيث تابعت ممارسة الرسم حتى في الجامعة، لكن الالتباس ظل حاصلا رغم أن أسلوبي الفني أخذ ينحو منحى سورياليا، والسوريالية نزعة أدبية، تعنى بالأحلام وتصوراتها، أي أن الموضوع مهم في اللوحة المرسومة، والشعر بلغته رمزي وتجريدي، كما الموسيقى، لكن ذلك لم يمنعني من المراوحة بين الشعر والرسم.
اختلت المعادلة في تجربة بيروت منذ أكثر من عشرين عاما، حيث في الحرب والاضطراب من الصعوبة ممارسة الرسم الذي بحاجة لبعض الهدوء والاستقرار، فكان أن مارست الرسم الصحافي جزئيا في جريدة الحقيقة، ونشرت في بعض الصحف بالقلم فقط، وكنت أتسلى عندما يكون لي الفراغ بلوحة ما، حتى قيض لي خلال خمسة عشر عاما إقامة معرض بلوحات سنوات مديدة، وأساليب مختلفة، كنت خلالها قد أنجزت حوالي ثماني مجموعات شعرية، لان أدوات الشعر بسيطة نسبة الى ورشة الرسم، لكن الرؤية الفنية لم تبارحني، وطالما تمنيت أن أكون رساما، حيث أرجعت الرسم الى الهواية، وتقدمت في الشعر، لا أدري الى أين، لكن الكتابة غدت حرفة ومهنة، شعراً ونثراً، حيث أنني لا مبال بعض الشيء بكليهما، فأنا لست في وارد الإعلام عني كشاعر من خلال علاقاتي، ولا كرسام من خلال معارضي...!

* بالعودة الى قصائدك في (شمس منتصف الليل)، نرى فيها انك عاشق بامتياز، لما تتضمنه من بوح ورصد لأحوالك وأحوال الحبيبة. ربما بالعاطفة التي فاقت أي مجموعة سابقة لك. هل هي شؤون قلبك خلف هذا الإصدار، أم هو استدعاء الحب الذي يتلاءم مع الشعر؟

لا أدري لماذا هذا السؤال، سؤال الحب في الشعر، ومن أقدر من الحب على تحفيز الشعر. لقد كانت وصية جدنا جرير بذلك، وتبع جرير الشعراء العذريون. لا ننسى أن لدينا مدرسة شعرية في الحب، داخل الشعر العربي، من المقدمات الطللية، الى العذريين، الى عمر بن أبي ربيعة، ثم الى نزار قباني، ودرويش وحسب الشيخ جعفر وشوقي بزيع، وربما إيلويار وأراغون، وقبلهم شعراء التروبادور، حتى منذ نشيد الإنشاد، وغير ذلك من تراث الصوفيين. فكيف لا تتجلى العاطفة في الشعر. وفي مجموعتي هذه تمركزت على الحب، لأن الحب والشعر صنوان متشابهان وغير متشابهين. لذلك آثرت العشق وأحواله الواقعية والحلمية الخيالية، ومارست فيها الفيض والجران، ليس على الطريقة التقليدية، بل ربطت الحب بالموت، وكأنني أتعازف ضفتي الحياة في الوجود والعدم، خاصة أن العشق يبري الجسد والروح، ويبري اللغة التي تعبر عنه أيضا.
الحب معادلنا الذاتي والموضوعي في الحياة، لذلك لا نفرق منه ونستغرق فيه ونستشعره ونشعرنه معا، حتى نتأكد من وجودنا. ما من شيء يجعلنا عظماء مثل حب عظيم، أنا أحب إذن أنا موجود. أليس الحب موسيقى الوجود، وتناغم المجرات وتوقها في التجاذب والتنابذ. وكذلك الأجساد، والأرواح. ما تكاثف منها وما تلاطف. وتراث الحب العربي في طوق الحمامة أنموذج ومثال، على عراقة هذا الموضوع في الشعر. لذلك سعيت الى ارتكابه، والارتباك فيه. وكان علي التأكد من وجودي، ففي زمن ما خرجت من السجن، وكتبت رسائل لنفسي، وبعثتها كي أتأكد من عنواني..!

* نريد بانوراما سريعة لأحوال الشعر في العالم العربي ولبنان. وهل الأصوات الشعرية الجديدة هي امتداد لأصوات الرواد القريبين؟ أم ثمة قطع وتجديد مع الأصوات الراهنة؟

يا للهول. في هذا السؤال عبء كبير، ومسؤولية، لا أتحملها إلا من قريب أو ما يقع تحت اليد. لست ناقدا ألمعيا، جامعا مانعا، حتى أتعرف أحوال الشعر في العالم العربي ولبنان. ربما في لبنان أجل، الشعر بخير، بين الجيل الوسيط، بعد أدونيس والحاج والماغوط، وبين الشباب الذين أرى فيهم مستقبل الشعر على غير ما عرفناه، دائما على غير ما عرفناه. تعلمين تلمسي للتجارب الشابة وتشجيعها دائما، من باب القناعة بها، ولم أكن رافضا لها في يوم من الأيام ولن أكون. فأنا في معادلة الصراع بين القدماء والمحدثين، منذ أيام طه حسين والى الآن مع المحدثين، وكنت منحازا للأخطل الصغير في إمارة الشعر أكثر من شوقي، وأحببت حتى خليل مطران كثيرا، لكن الرابطة القلمية في المهجر، وجبران ونعيمة، وآخرين أغنوا التجربة الشعرية، ومهدوا للحداثة، السياب، الملائكة، البياتي، الحيدري، وغيرهم.
سوى أن تجربة مجلة (شعر) هي الأعمق والأكثر جذرية، على صعيد الحداثة من مجلة (الآداب). لذلك انحزت الى شعرائها، حتى لو لم أتقلدهم في الكتابة. أي أنني انحزت دائما للتجديد، ضد التقليد، فأنا أؤمن على صعيد الفن بأن الذات كشافة خبيرة مستبصرة. في عالم بحاجة دائما للكشف. ومن مغالاتي، عشقت من يكتبون بالفرنسية، أمثال ناديا تويني، جورج شحادة، صلاح ستيتية، فينوس غاتا وحتى ايتيل عدنان. وكنت على تماس مع هذه التجارب وقراءتها، كما كنت مع أدونيس ودرويش، الحاج وأبي شقرا والماغوط، ومن بعدهم أيضا. ومنذ زمن طويل تعلقت بشاعر حب عراقي خرافي اسمه حسب الشيخ جعفر، وهو من المجددين على صعيد الشعر الحديث.
في لبنان معارك وهمية من دون أسس حول القديم والجديد. وأنا أضم رأيي الى رأي أدونيس، من حيث الشعرية في القصائد والنصوص، هي المقياس مع أدواتها وعناصرها الحداثية. يجب تلغيم الشعر بالوجود، والمكان، وجلبه من خلف الغيوم، ومصاقبته للحياة، كما تصاقب الألفاظ المعاني. وهكذا كان الشباب يحفرون المكان والوجود، دون ادعاءات البطولة والنبوة، والبعث والخلاص، وأسطرة الواقع وغير ذلك.

السفير
2004/10/05