(تدريبات صفية على ممارسة القفز من النوافذ وعناق الحلم)

زياد خداش
(فلسطين)

(ناصر مؤنس- العراق)الأطفال والمجانين والأموات هم وحدهم الأحرار تماما، اندهش طلابي لكلامي هذا، وهمسوا: لقد جن أستاذنا، حصتنا هذا اليوم ستكون حصة جنون وحلم وتدمير للعرف التربوي، سنقفز من الوافذة واحدا تلو الأخر سنختار ان نكون أما مجانين او أموات او أطفال،خذ إذنا من احد، أترون تلك البحيرة القذرة هناك، سنذهب اليها ونتحلق حولها ونجرب ان نخرب تقاليد هذا اليوم الدراسي، وان نستبدل هذه التقاليد بتقاليد غريبة بحثا عن الانساني المشوه فينا، عن طاقتنا على الحياة، عن حقنا في التجريب وممارسة الأخطاء،
قال ماجد : سيغضب المدير لأننا لم نأخذ إذنه للخروج
قال رام : ليغضب، نحن نريده ان يغضب السنا نهدف الى التخريب؟
قال فراس:لكن التخريب عمل غير جيد لأنه يؤدي الى خراب المجتمع
قال عمر: لا اتفق معك،هذا يعتمد على ما سنخربه
قال ماهر: انا سأخرج من بوابة المدرسة لأني لا استطيع القفز من النافذة بسبب الم في كاحلي
قال وسام : لتبقى في الصف إذن انت لا تصلح للجنون
قلت انا: الألم ضروري لاكتشاف هنائنا الداخلي، اقفز وتألم مرة أخرى،لأنك ستصل قبلنا الاشراقات الجنون
قال انس: أستاذ انت غريب جدا كيف تنصح شخصا بالألم؟
سمعت احمد يهمس: بالفعل استأذنا مجنون
قلت :او قد أكون طفلا او ميتا، وتعلم دائما ان ترفع صوتك في الحديث،لا تهمس برأيك همسا، يا احمد هناك مساحة هائلة هنا من حرية الرأي، تذكر ذلك، السنا مخربين للوضع الاجتماعي السائد حيث لا يتمكن إنسان بلادنا من إبداء راية في وجه أبيه او معلمه او حاكمه او شيخ الجامع، لقد خربنا هذا التقليد واستبدلناه بتقليد لخر : ان نتحرر من الخوف ونقول ما نحسه تماما.
قال عمرو: الآن عرفت معنى التخريب، انه يعني تحطيم السيئ، وهذا سلوك رائع
ضج الصف بشغب مفاجئ، اشتبك الطلاب مع بعضهم البعض في نقاش عنيف، تخلله صياح واتهامات،
طلبت منهم ان يصمتوا ويستمعوا الى،
تذكروا ان الجنون والتخريب لا يعني الفوضى والصياح والتجريح، تذكروا ان التحرر من السجون التي فينا،هو عمل منظم وواعي وان التخريب الجميل هو عمل انساني وأخلاقي يهدف الى البحث عن النضير والمزدهر والأزرق فينا، لالا فائدة أبدا في كلامنا وإيماننا اذا لم نقرن هذا الكلام بسلوك،
لنبدأ الجنون
ماذا اخترتم ان تكونوا؟
قال القليل منهم: مجانين
قال الكثير منهم أطفالا
طالبان اثنان فقط اختارا ان يكونا ميتين
الصف الثامن يقع في الطابق الثاني، والعلو ليس مرتفعا جدا، قلت لهم : اقفزوا ورائي واحدا تلو الآخر مع صيحة يطلقها كل قافز تعبر عن فرحه بالتحرر من الجدران، قفزت أمامهم،مع صيحة فرح وحشية، قفزوا ورائي، مالئين الدنيا صياحا، ا كثر من نصف الطلاب بقوا في الصف،ا لطلوا برؤوسهم واعتذروا قائلين : لا نستطيع ان نمارس هذا الجنون سيغضب المدير منا ونخاف من آلام القفز، ثم اننا غير مقتنعين بالفكرة،
قلت لهم : رائع ان تختاروا موقفا حتى لو كان معارضا لفكرتي، لكم الحرية في الرفض، مطلق الحرية لكم
مشيت مع الطلاب الخمسة عشر متجهين الى البركة القذرة القريبة من المدرسة، أطلت رؤوس المدرسين والطلاب من الصفوف المختلفة،أطلت ساخرة وغاضبة ومستغربة، سمعنا الفوضى تدب في أنحاء المدرسة، صاح الطلاب : يا مجانين
ابتسم مجانيني، قلت لهم: يا لها من تسمى رائعة، نحن بالفعل مجانين
سمعنا مدرس التاريخ يصيح: يجب ان نضع حدا لهذا الجنون، انت تشجع الطلاب على الفوضى والعبث
صاح مدرس الفيزياء : درست في عشر مدارس، لم اشهد سلوكا مثل هذا في حياتي، يجب ان يوجه لك انذار فوري
سمعنا المدير ينادوا بصوت عال:
ارجع يا أستاذ أرجوك، الى أين انت ذاهب مع الطلاب، انت لم تستشرني، أرجوك هناك ضيوف قادمون من وزارة التربية بعد نصف ساعة،لا تفضحني أرجوك، عد يا أستاذ، عودوا يا طلاب، سأوجه لكم إنذارات
ضحكت مع الطلاب بصوت عال،
قال رام: هذا ما ننتظره صح أستاذ؟
أجبت: طبعا لو لم نر سخريتهم واستغرابهم وتهديداتهم لما نجحت فكرتنا،
سأل أيمن : وما هي فكرتنا يا أستاذ؟
الفكرة ستتوصلون اليها بأنفسكم، فقط وافقوا على التجربة
قالوا بصوت واحد وعال: نحن موافقون
تحلقنا حول البركة كانت بركة قذرة مليئة بالأوراق و الأكياس وبقايا الطعام وحيوانات ميتة، كانت الدنيا مهيأة لمطر غزير، الرؤوس الساخرة ما زالت تطل علينا، التهديدات نسمعها بوضوح، وصياح الطلاب الساخر داخل الصفوف يملا الدنيا،
جاء المدير، توسل الي ان أعود، فهناك ضيوف، بامكاني ان افعل ذالك لاحقا ان أردت، قلت له : عد الى مكتبك أرجوك لا تحرجني انا، نحن نتعلم الآن، انا لم افعل شيئا سيئا او مخالفا لمصالح الطلاب، فقط هي تجربة
قال: لكنك لم تأخذ إذني، قلت : هذا من شروط التجربة، معط المدير شعره غاضبا وشتم تجاربي وصاح : قلت لك هناك ضيوف قادمون، لن يستو عبوا طريقة خروجك الى هنا بالقفز مع الطلاب من النافذة، ولن يفهموا وجود طلاب تحت المطر مع مدرسهم أرجوك عددددددد
لا تتعب نفسك يا مديري، افعل ما تراه مناسبا، قم بصلاحياتك، أعطني إنذارا ولن تمس بسوء من قبل مفتشيك.
انصرف المدير غاضبا ومتوعدا، وحائرا وانصرفنا نحن الى تخريبنا
قلت للطلاب : وكأن السماء تشاطرنا رغبتنا في اكتشاف أنفسنا وفي فحص الاشياء
قال علاء: المطر ضروري لزيادة الجنون
قال راضي: الرياح جدا مطلوبة للتحدي
قلت لنبدأ
قال سمير : أستاذ انا ا خائف من المدير فهو صديق والدي اخشي ان يعاقبني
عاد سمير الى الصف وراح يشارك في السخرية منا مع جوقة الساخرين

تحلقنا نحن الأربعة عشر طالبا ومعلما حول البركة، بدأ المطر يسقط والرياح تعصف بوجوهنا، والدوريات العسكرية الاحتلالية تمر من أمامنا متشككة وخائفة، بدأت الحديث:
لا شك ان الحياة ورطة، نحن متورطون فيها بوجودنا لان الحرية هي نقيض الحياة، الحرية الحقيقية تتواجد فقط في الميت وفي المجنون والطفل، نحن لسنا ميتين ولسنا أطفالا ولا مجانين حتى لو زعمنا ذالك فنحن نكذب لهذا نحن متورطون، ان المدرسة تمثل رمزا واضحا من رموز هذا التورط في شكل مصغر وصادق جدا عن الحياة وشروطها وقيودها، في المدرسة نحن نتحرك حواسا وأذهانا معلمين وطلاب بأمر شيء جهنمي ومروع اسمه الجرس، هذا الجرس هو معادل موضوعي عادل ومنطقي ووفي للحياة، الحياة جرس ضخم معلق في أعناقنا، اذا أحببنا ان نضحك بصوت عال مثلا في قاعة كبيرة يتم فيها تأبين زعيم أمه سابق،يدق الجرس دقة فظيعة وينهرنا معلنا توبيخنا وتهددنا بعقاب كبير، فنمتنع عن الضحك صاغرين،
قال عبد الله: ولكن الضحك حرام في مناسبة كهذه
قلت : أرأيت يا عبد الله الجرس دق عندك الآن، كما سيدق عندي وعند أي بشر آخرين، انها الحياة، نحن لا نقاش أخلاقية الموضوع او عدم أخلاقيته، نحن نناقش دلالته الوجودية والإنسانية، نحن نصف عن بعد وبشكل حيادي جدا
سأل رشيد : وما الحل يا أستاذ هل نموت ؟ أم نجن ؟ أم نصبح أطفال؟
الموت مرفوض لأننا نحب الحياة، نحب ورطتنا، أريتم شخصا يحب ألمه، انه الإنسان
قال زيد: إذن سنختار الجنون او الطفولة
هيا اختاروا، قلت لهم
معظمهم اختار الطفولة وقليل منهم اختار الجنون
انا اخترت الطفولة، قلت لهم
طلبت منهم ان يفتحوا عيونهم ويرفعوا نظراتهم الى الأعلى ضامين حبات المطر الى حدقاتهم، ويحلموا بمدرسة جديدة مفترضة
مدرسة مستحيلة و وبعيدة عن الواقع البشري، مارسوا الحلم الغريب واللامتحقق، فهنا السعادة، ان نحلم بما لا يأتي أبدا، هنا الجمال : ان نمشي باتجاه الحلم الصعب، متعبين ومتحدرين من سلالتنا الهشة والمسكينة، رفع الطلاب نظراتهم الى الأعلى اغتسلت عيونهم بالمطر،
قال هيثم، اريد مدرسة مصنوعة من شجر لا اريد جدران وسقوف اريد ان تلقى دروسي وبجانبي ثمار التوت
قال جمعة: اريد مدرسة في البحر المقاعد فيها زوارق والطباشير زيت السمك
قال خالد: لا اريد بنايات بإمكاننا ان ندرس تحت الشجر او فوق الجبال
قال اسعد: لا نريد سبورات نريد ان نكتب على الجدران
قال عوني: المدرسة التي احلم فيها أريدها بعيدة عن المدينة وتؤدي اليها شوارع خاصة بنا لا سيارات نرى ولا مارة
قال رمزي: أحب المدرسة التي اجلس فيها براحتي أمد رجلي او اجلس على الأرض مثلا
قال هادي: اريد مدرسة فيها مسابح وقاعات واسعة للرياضة وحواسيب كبيرة بحجم المدينة حتى ندخل في الحاسوب ونتحول الى أرقام او صفحات
قال سالم: اريد مدرسة لا أجراس فيها أبدا
قال صالح: اريد مدرسة لا مدير فيها ولا نائب مدير فقط معلمين
سالت الطلاب : الم تشعروا بمتعة في الحلم المستحيل،
أجابوا : نعم نعم
كم هو رائع ان نحلم بأشياء لا تتحقق، لو تحققت هذه الأحلام لفقدت كونها أحلاما، لفقدت جمالها وغرائبيتها الخاصة لأصبحت واقعا مملا نتمنى ان نغيره، لواقع أخر هنا السعادة : في الطريق الى الحلم :نحن محرومون من الحلم المستحيل لأننا نريد ان نغير واقعنا نحو الأفضل ولا نعرف لذة الحلم نفسها،
للتخلص من لعبة الأحلام المتحققة والمتواصلة اقترح ان نتدرب على الحلم الصعب ليس بحثا عن واقع جديد بل بحثا لن لذة الحلم نفسها، لذة التحسر والألم والتأمل في ورطتنا وسجوننا ومحدوديتنا الذهنية،
هذا لا يعني اني اطلب منكم ان لا تحلموا أحلاما تتحقق لتغيروا واقعكم، أبدا انا مع تغيير الواقع دائما ـ ولكن هذا موضوع آخر،
قال رام: سأحلم ان أصبح إلها
ضحك الطلاب
قال رشيد : سأحلم ان يصبح لي ست عيون وأربع عشرة إذنا حتى اسمع موسيقي الحوت الأزرق
قات انا: سأحلم ان أطير فوق العالم و اسمع ثرثرة الفراش
قال خالد: سأحلم ا ان أصبح الهواء لأتجسس على اليهود،
حلم طلابي أحلاما خرافية، وحلمت معهم، راقبت النشوة وهي تقطر من رموشهم مع حبات المطر، كنا خمسة عشر كائنا بشريا نحاول ان نلتف على ورطتنا الوجودية وعلى أجراسنا،( خربنا) التقليد اليومي، دون ان نؤذي أحدا،
هل رأيتم كم هو رائع ان نخرج عن السائد واليومي وان نتعرض للتهديد تهديد الذين لايبشبهوننا،، تهديد الذين لم يصل ذهنهم لمستوى ذهننا، ان تشعر بالتميز عن غيرك فهذا انتصار كبير ولذة عميقة،
قال رشيد، نحن خربنا الخراب إذن
قال رام: نحن متميزون ومرتفعون عن الأرض، نحن نبني بطريقتنا وهم يهدمون ويعتقدون انهم يبنون
قال سالم، سمير تخاذل وهرب
قلت انا : وهكذا هي الحياة هناك متخاذلون وصامدون وهناك مرتبكون ومؤمنون تذكروا ان الجميل غريب دائما
نحن غرباء بالنسبة إليهم لأننا جميل، رقص الطلاب فرحا
نحن جميل، نحن جميل
ماذا تعلمنا من هذه التجربة سألت ا لطلاب ونحن عائدون الى سجوننا
قال عبد الله، انا لا ادري ولكني ادري اني استمتعت
قال خالد: خربنا الخراب، نحن إذن مناضلون ومنتمون
قال رام : تدربنا على الحلم المستحيل
قال سليم عرفنا كم نحن متميزون
قال زيد : غامرنا ولم نخف من التهديدات
قال عمر: عرفنا قيمة ومتعة ان لا نستمع الا لأنفسنا
قال رشيد: قاومنا الخوف من الجرس
قال أيمن: قمنا بما نحن مقتنعون فيه رغم التهديد والوعيد
سألت طلابي: وما دلالة البركة القذرة ؟
الم تتساءلوا عنها ؟
وعن رمزيتها؟
قال رام: هي القبح والظلام والخوف ونحن حولها لنتحداها
قال عبد الله: هي الغموض المثير
قال خالد: هي الضحية التي تشبهنا
قال راضي: هي نحن ونحن نحاول ان نصفي أنفسنا من القاذورات

صحت بصوت عال: كم انتم رائعون نعم نعم كلكم صح لا احد مخطئ أبدا، تعالوا أحضنكم،
عدنا الى الصف- السجن كان صفير الطلاب يتعالى سخرية منا وكان المعلمون يرمقوننا بحنق وحيرة والمدير ينظرنا بإنذاراته وكنا نحن موكب نور ومعرفة يشق طريقه وسط ظلمة مثيرة للشفقة