تضاربت الآراء في الحسين بن منصور الحلاج، وتعددت المواقف إزاء شخصيته ودعوته حتى التناقض. ففيما اعتبره البعض زنديقا مارقا خارجا على الدين، رفعه البعض الآخر إلى مصاف الأولياء ورأوا فيه شاهد الحق وشهيده الأكبر. نجد في بعض المخطوطات الأدبية المزوقة منمنمات تصور مصرع الحلاج، ذلك أن هذا العاشق المهجور قد بقي في الأدب الصوفي بمثابة الولي الأكبر الذي اقتبل الشهادة ليظفر بجوهرة الجمال الإلهي. أقدم ما وصلنا من تلك الصور منمنمة تعود إلى مطلع القرن الرابع عشر تزين نسخة من كتاب "الآثار الباقية عن القرون الخالية" لأبي الريحان البيروني. اللافت أن الحلاج لا يحضر كعلم من أعلام الولاية، بل كواحد من المتنبئين المخادعين الذين ظهروا في هذا العالم، مما يجعل هذه المنمنمة أثرا فريدا لا نجد له مثيلا في ميراث فن الكتاب الإسلامي بروافده المتعددة.
وُلد الحلاج في الطور الواقعة في الشمال الشرقي من البيضاء في مقاطعة فارس، ونشأ في مدينة واسط حيث قرأ طفلا القرآن وصار من الحفّاظ وهو في الثانية عشرة من عمره. تعلم التصوف على يدي سهل التستري وتركه وهو في العشرين ليرتحل إلى البصرة حيث تلقى خرقة الصوفية من يد عمرو المكي. توجه إلى مكة حيث نذر نفسه بالبقاء عاما في حرم البيت في حال دائمة من الصوم والصمت على مثال مريم بنت عمران، وانتقل بعدها إلى الأهواز لينبذ خرقة الصوفية ويتكلم بحرية مع أبناء الدنيا بعيدا عن طريقة الاستسرار. سافر إلى خراسان وعاد منها إلى الأهواز قبل أن ينتقل ليقيم في بغداد ومنها قصد مكة حاجا للمرة الثانية. زار بعدها بلاد الهند والترك، وعاد من نهاوند حاجا إلى مكة للمرة الأخيرة قبل أن يعود إلى بغداد.
أثارت أقواله الجريئة شعور العامة وأضحت مثار الخلاف والجدل في الأوساط المثقفة، وهذا ما دفع الفقيه محمد بن داوود إلى رفع أمره إلى المحكمة، إلا انه اصطدم بمعارضة القاضي الشافعي ابن سريج الذي رأى أن مثل هذا الإلهام الصوفي يبقى خارج اختصاص المحاكم الشرعية. لكن القضية لم تنته هنا. ففي عام 908، أمر الوزير ابن الفرات بالقبض على الحلاج وأتباعه، وبعد ثلاث سنوات، قُبض على الحسين بن منصور في بلدة سوس بالأهواز واقتيد إلى بغداد حيث استغرق البحث والسجال في قضيته زهاء تسع سنوات انتهت بالحكم عليه بالإعدام لكونه مبتدعاً خارجاً على سنّة الدين. ضُرب ألف سوط أمام جمع غفير، وقُطعت يداه ورجلاه، وصُلب حيا قبل أن يُجهَز عليه في صبيحة اليوم التالي.
المشعبذ المتصنع
وضع أبو ريحان البيروني كتابه "الآثار الباقية عن القرون الخالية" في مطلع القرن الحادي عشر الميلادي، و يأتي ذكر الحلاج في باب "القول على تواريخ المتنبئين وأممهم المخدوعين عليهم لعنة رب العالمين" حيث يتبنى العالم الكبير موقف الذين كفّروا هذا المتصوف وعدّوه مارقا وزنديقا. نقرأ في هذا الأثر الموسوعي الذي يجمع بين العلوم والآداب والأديان، سيرة مختصرة للحلاج ونعلم مما أورده لنا المؤلف أن يوم موته أصبح بالنسبة إلى أتباعه بمثابة عصر في دورة الشعائر الدينية.
وبحسب ما جاء في هذه الشهادة، دعا الحلاج إلى المهدي أولا،"وزعم أنه يخرج من الطالقان الذي بالديلم، فأُخذ واُدخل مدينة السلام مُشهرا، وحُبس فاحتال حتى تخلص من السجن. وكان رجلا مشعبذا ومتصنعا مازجا نفسه بكل إنسان على حسب اعتقاده ومذهبه، ثم ادعى حلول روح القدس فيه، وتسمّى بالإله، وصارت له إلى أصحابه رقاع معنونة بهذه الألفاظ من: الهُوَ هو الأزلي الأول النور الساطع اللامع والأصل الأصلي وحجة الحجج ورب الأرباب ومنشئ السحاب ومشكاة النور ورب الطور المتصور في كل صورة إلى عبده فلان. وكان أصحابه يفتتحون كتبه إليه بسبحانك يا ذات الذات ومنتهى غاية اللذات، يا عظيم يا كبير، أشهد أنك البارئ القديم المنير المتصور في كل زمان وأوان، وفي زماننا هذا في صورة الحسين بن منصور عُبيدك ومسكينك وفقيرك والمستجيب بك والمنيب إليك الراجي رحمتك يا علام الغيوب، يقول كذا وكذا. وصنّف كتبا في دعواه مثل كتاب "نور الأصل" وكتاب "جم الأكبر" وكتاب "جم الأصغر"، فعثر عليه المقتدر بالله في سنة إحدى وثلاث مئة للهجرة، وضربه ألف سوط، وقطع يديه ورجليه وضرب عنقه، ثم زرقه بالنفط حتى احترقت جثته، ورمى برماده إلى دجلة، ولم يتكلم بحرف في ما فُعِل، ولم يقطب وجهه ولم يحرك شفته، وبقيت بقية من أتباعه منسوبين إليه يدعون إلى المهدي، وأنه يخرج بالطالقان، وهو الذي ذُكر في كتاب الملاحم أنه يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جورا، وذُكر في بعضها أنه يكون محمد بن عبد الله، وفي بعضها محمد بن علي، حتى أن المختار بن عبيد الثقفي لما دعا إلى محمد ابن الحنيفة، أستشهد بالخبر المأثور، وزعم أنه المهدي المذكور، وإلى زماننا هذا ينتظره بعض الناس ويقولون بحياته وكونه في جبل رضوى وذلك كما ينتظر بنو أمية خروج السفياني المذكور في الملاحم".
الضحية المستكينة
تحتفظ مكتبة أدنبرغ بنسخة من "الآثار الباقية" تعود إلى عام 1307، ومصدرها على الأرجح تبريز. ويحتوي هذا المخطوط على خمس وعشرين منمنمة متعدّدة الموضوع، منها واحدة تمثل مقتل الحلاج، وهي أقدم رسم معروف لهذه الشخصية التي تثير الجدل منذ أكثر من ألف سنة. نرى المتصوف ممددا عاريا على الأرض بين اثنين من جلاديه وسط أربعة شهود. رجلاه المبتورتان مرميتان وراء رأسه، والدم لا يزال ينفر منهما. يمسك أحد الجلادين بشعر الضحية ليثبته على الأرض، فيما يهم الآخر بقطع ذراعه اليسرى بالسكين، أما الشهيد الحي فيبدو مستكينا مستسلما لهما، مشيرا بأصبع من يداه اليمنى إلى ذراعه التي سوف تُقطع. يقف ثلاثة من الشهود خلف الحلاج بينما يظهر الرابع من أمامه. تحيط الهالات الدائرية برؤوس الجلادَين والشهود الأربعة، أما الضحية الملقاة أرضا فتبدو محرومة من هذه الهالة، مع العلم أن هذا العنصر التشكيلي الذي يرمز في الفن المسيحي إلى القداسة يظل تزيينيا صرفا في الفن العباسي. ويبدو أسلوب مدرسة الرافدين جليا في رسم القامات والوجوه كما في تصوير ثنايا الألبسة والعمامات، مما يشهد لاستمرار هذه المدرسة في العقود الأولى التي تلت سقوط بغداد على يد المغول. وحدها السحابة الزرقاء في أعلى التأليف تذكر في تموّجاتها اللولبية بالأثر الصيني الذي سيبرز في فن التصوير الإسلامي في تلك المرحلة.
لا تظهر على وجه الحلاج معالم الألم. يتعرّض السجين لأقصى أنواع التعذيب الجسدي ويبقى محافظاً على سموّه، تماما كما جاء في شهادة البيروني التي تذكّر بأنه "لم يتكلم بحرف فيما فُعِل، ولم يقطب وجهه ولم يحرك شفته". ويتفق مناوئو الحلاج مع مناصريه في وصف حال اللاهوى التي عاشها الحلاج في ساعاته الأخيرة، هو الذي قال:
إن الحبيب الذي يرضيه سفك دمي | |
| دمي حلال له في الحل والحرم |
إن كان سفك دمي أقصى مرادكم | |
| فلا عدت نظرة منكم بسفك دمي |
والله، لو علمت روحي بمن علقت | |
| قامت على رأسها فضلا عن القدم |
يا لائمي لا تلمني في هواه، فلو | |
| عانيت منه الذي عانيت لم تلم |
يطوف بالبيت قوم لا بجارحة | |
| بالله طافوا فأغناهم عن الحرم |
ضحّى الحبيب بنفس يوم عيدهم | |
| والناس ضحّوا بمثل الشاء والنّعم |
للناس حج ولي حج إلى سكني | |
| هدى الأضاحي وأُهدي مهجتي ودمي . |
ملحق " النهار "
العدد 680
الأحد 20 آذار 2005