|
|
|
|
|

قاسم حداد
(1996)

عن قيس

قاسم حدادسَأقُولُ عَنْ قيس
عَنِ الهَوَى يَسْكُنُ النّارَ.
عَنْ شَاعِرٍ صَاغَنِي في هَوَاهُ.
عَنِ اللَّوْنِ والإِسّْمِِ والرَائِحَةْ.
عَنِ الخَتْمِ والفَاِتحَةْ.
كُنْتُ مِثْلَ السَدِيمِ ، اْسَتَوَى فِي يَدَيْهِ.
هَدَانِي إِليْهِ.
بَرِئْتُ مِنَ النَاسِ لَمَّا بَكانِي إِليْهِمْ
زَهَا بِيْ وغَنُّوا الأَغَانِي بأشْعَارِهِ.
فَمَا كانَ لِي أَنْ أُقَدّرَ هَلْ أَشْعَلَنِي أَمْ طَفَانِي.
سَأقُولُ عَنْ قَيس
عَنْ جَنَّةٍ بَينَ عَيْنَيَّ ضَاعَتْ
عَنْ هَوَاءٍ أَسْعَفَ الطَيْرَ واسْتَخَفَّ بِنَا واصْطَفَانَا
عَنْ كُلّمَا هَمَّ بِيْ تُهْتُ فِيهِ
وبَاهَيْتُ كَيْ نَحْتَفِي بالمَزِيجْ
عَنِ العِشقِ تَلتَاعُ فِيهِ الحِجازُ
ويَشّْغَفُ فِي ضِفَّتَيهِ الخَلِيجْ.
سَأقُولُ عَنْ قَيس
عَنْ حُزْنِهِ القُرّْمُزِيِّ
عَنِ اللَّيلِ يَتْبَعْ خُطَاهُ الوَئِيدَهْ
عَنِ الماءِ لَمَّا يَقُولُ القصيدة
بَكى لِي البُكاءَ،
وهَيأَ لِي هَوْدَجَاً
وانْتَحْى يَسْأَلُ الوَحْشَ عَنِي
كَأَنِّي بِهِ لا يَرَى فِي القَوافِلِ غَيْرَ الخُيول الشريدة.

سَأَقُولُ عَنْ قَيس
عَنِ العَامِرِيَّ الذِي أَنْكَرَتْهُ القبيلةُ.
عَنْ دَمِهِ المُسْتَبَاحْ.
عَنِ السَيْفِ لَمَّا انْتَضْاهُ مِنَ القَلْبِ
واجْتازَ بِي أَرْضَ نَجْدٍ لِيَهْزِمَ كُلَّ السِلاحْ.
عَنِ اللذَّةِ النادرة
عَنِ الوَجْدِ والشَوْقِ والشَهْقَةِ الساهرة
عَنِ الخَيْلِ تَصْهَلُ بِي فِي الليالِي
والصَّهْدِ يَغْسِلُنِي فِي الصَبَاحْ.

و يا قَيسُ يا قَيسُ
جَنَّنْتَنِي أَو جُنِنْتَ ،
كِلانَا دَمٌ سَاهِرٌ فِي بَقايَا القَصِيْدَةْ.

***

إنه لا أحد

هُوَ قَيسٌ، وهو مُعاذُ بنُ كُلَيبْ، وهو قَيسُ بنُ مُعاذ العُقَيلِي، وهو البُحْتُري بنُ الجَعْد، وهو الأقْرَعُ بنُ مُعَاذ، وهو المهدي وقِيلَ اسْمُه قَيسُ بنُ الملوَّح مِنْ بَنِي عَامِر. ولما سُئِلتْ عَنْه بُطُونُ بَنِي عَامِرٍ بَطْنَاً بَطْنَاً أنْكَرَتْهُ وقَالتْ (باطِلٌ وهَيْهات)، ثُمَّ قِيلَ إنَّهُ لا أَحَدْ. ذَهَبَ في حَياتِه بِقَلْبٍ مَفْقُودٍ وعَقلٍ مَأْخُوذْ. أخَبَرَنَا الأصفهاني عَنْ أحَدِ الرُاوةِ وكانَ كاذِبَاً فَصَدّقْناه، عَنْ رَجُلٍ يَرَى غَيْبَ النَاسِ قَالَ ?ثَلاثَةٌ لَمْ يَكُونُوا قَطْ ولا عُرِفُوا، ابنُ أبِي العَقِب صَاحِب قَصِيْدة المَلاحِمْ، وإبنُ القِـريَّـةِ، ومَجْنُونُ بَنِي عَامِر. أَمْا نَحْنُ فَقَدْ رَأَيْنا أخْبَارَنا عَنْهُ فِي رُقَعٍ أسْقَطَها الوَرَّاقُون واحْتَفَتْ بِها الأحْلامُ، وكَشَفَتْها لَنَا طَبِيْعَةُ المَحَبّةِ أَكثَرَ مِمَّا كَرَّها الرُواةُ الذينَ أعانُونَا عَلى مَا نُرِيدْ. فَسَمِعْنا مِنْ أَبي بَكْرٍ الوَالِبيِّ الذِي أَحَالَنَا عَلى غَيْرِهْ. ولَذَّ لَنا مَا يَحْلُو مِنَ الأخْذِ عَنْ أبي مَسْكينٍ والشَيْبانيِّ وأَبِي إسْحاقٍ والجَوهَريِّ والرِياشِيِّ وابنُ شَبَّة والمدائِني والمُهَلّبي والأصْمَعِي عن صَاحب الأغَانِي، الذِي أَتَاحَ لِظَنِنَا شَاسِعَ الشَكِّ فَاهْتَبَلْنَاهُ. فَوَََقَعْنا عَلى مَا لاءَمَ مِزاجَنَا. ثُمَّ سَاقَ اللهُ لَنا مَا تَيَسَّرَ مِنْ أصْدَقِ الكَذَبَةِ فِي رُواة عَصْرِنا، فَانْتَخَبْنا مِنْ غِوَايَاتِهِمْ، وتَبَادَلنَا مَعَهُمْ الأنْخَابَ، وزِدْنَا فِي ذَلكَ كَمَا نَهوَى، فَطَابَ لِلمَجْنُونِ ذلكَ واسْتَحْلَيْناهُ.

**

عن ليلى

سَأقُولُ عَنْ ليلى
عَن العَسَل الذِي يَرْتَاحُ فِي غَنَجٍ على الزَنْدِ.
عَنِ الرُمَّانَةِ الكَسْلَى.
عَنِ الفَتْوَى التِي سَرَّتْ لِيَ التَشْبِيهَ بالقَنْدِ.
عَنِ البَدَوِيَةِ العَيْنَينِ والنَارَينِ والخَدِ.
لَها عِنْدِي
مُغَامَرَةٌ تُؤَجِجُ شَهْوَةَ الشُعَراءِ لَوْ غَنُّوا
صَبَا َنجْدٍ مَتَى قَدْ هِضْتَ مِنْ َنجْدِ
عَنِ النَوْمِ الشَفِيفِ يَشِي بِنَا.
عَنْ وَجْدِنَا ، عَنْها.
لِئَلا تَعْرِفَ الصَحْراءُ غَيْرَ العُودِ والرَنْدِ.
سَأقُولُ عَنْ ليلى
عَنِ القَتْلى.
وعَنْ دَمِنا الذِي هَدَرُوا.
عَنِ الوَحْشِ الصَدِيْقِ.
وفِتْنَةِ العُشاقِ
واللَّيلِ الذِي يَسْعى لَهُ السَهَرُ.
عَنِ الطِفلَينِ يَلْتَقِيانِ فِي خَفَرٍ
ولَمّْا يُزْهِر التُفاحُ يَخْتَلِجانِ بِالمِيزانِ
حَتْى يَخْجَلُ الخَفَرُ.
لِليْلى شَهْقَةٌ أَحْلى
إِذا ما لَذّةٌ تَاهَتْ بِنا
وَتَناهَبَتْ أَعْضَاءَنا النِيرانُ.
مُتْنا أَو حَيِينا.
أو يَقولُ الناسُ أخْطَأنا.
سَتَبْكِي حَسْرَةٌ فِينا إذا غَفَرُوا.

سَأقُولُ عَنْ لَيلى
عَنِ المُسَافِرِ عِنْدَمَا يَبْكِي طَوِيْلا
عَنِ السِحْرِ اللَّذِيْذِ إِذا تجَلّى فِي كَلامِ عُيُونِها
عَنْ نِعْمَةٍ تُفْضِي لأنْ أقْضِي رَحِيلا
عَنْ مَراياها مُوَزّعَةً تُخَالِجُ شَهْوَةَ الفِتْيانِ
عَنْ مِيزَانِها مَشْبُوقَةً.
عَنْ عَدْلِهَا فِي الظُلْمِ.
عَنْ سَفَرِي مَعَ الهَذَيَانِ.
عَنْ جِنِيةٍ فِي الأِنْسِ تَنْـتَخِبُ القَتِيلا
لَيْلايَ لَوْ يَدُهَا عَليَّ
ولَوْ يَدِي مَنْذُورَةٌ تَهَبُ الرَسُوْلا
سَأقُولُ عَنْها مَا يُقالُ عَنِ الجُنُونِ إذا جُنِنْتُ
ولِي عُذْرٌ إذا بالَغْتُ فِي مَوْتِي قَلِيلا.

***

البرق الأول

الصَحْيِحُ الذِي هُو شَكٌ خالِصٌ، أنَّ قَيسَاً ولَيلى عَامِرِيانِ، الْتَقَيَا صَغِيرينِ يَرْعَيَانِ في نَجْدِ الجَزِيْرَةِ، بِوادِيَيْنِ يَتَّصِلانِ بَكثِيفِ النَخْلِ مِنْ جَانِبٍ، ووَعْرِ القَفْرِ مِنْ جَانِبْ. هُو كَثِيرُ الشُرُودِ، بَاكِرُ الحُزْنِ، مَيّالٌ لِلّعُزْلَةِ، يَأنَسُ لِرِفْقَةِ البَهْم فِي المَرَاعِي، و يَرْجُزُ فِي قَطِيعِهِ مَوَاجِدَ حَسِبَها النَاسُ كَلامَاً حَفَظَتْهُ سَلِيْقَةُ الصَبِيِّ مِنْ مَسَارِ الرُعَاةِ، ولمْ يَصِحْ لَهُ أَنْ يَزَعَمَ شِعْراً فِي ذلِكَ العُمْرِ لِئَلا يُكَذِّبُوه. وهِي كَثِيرَةُ الأَحْلامِ، غَزِيْرَةُ الخَيْالِ، غَرِيْبَةُ الأَطْوَارِ، رَوَتْ قَرِينَاتٌ لَهَا أَنَّهَا مِنَ الجِنِّ إِلا قَلِيلاً ومِنَ الإِنْسِ بِمقْدارْ، اتَّصَلَتْ بِإبْنِ عَمِّها وبِشَاعِرِيَتِهِ الباكِرَةِ، رَافَقَتْهُ فِي الوادِيَينِ حَيْثُ كانَتْ قَرِينَاً لَهُ فِي اللَّهْوِ البَرِيْء، فيما كان يَشِبُّ ويُشْعِلُ الشِعْرَ بِها. فأُخِذَتْ بِهِ وصَارَتْ تَلِـزُّ بِبَطْنِ الوَادِي، لِيَتَقَابَلا فِي غَدِيرٍ، تَلتَقِي عِنْدَهُ غَنَمُهَما، هُوَ مَعَ إخْوَتِهِ، وهِي فِي قَرِيناتٍ يَتْبَعْنَ القَطِيعَ فَأْتَلَفا. واْزَْدَهَرَ بَيْنَهُما وَلَعٌ، مِثْلَمَا تَلْتَهِبُ الحُمْرَةُ فِي وَرْدَةِ القَلْبِ، وَصَارَ الشِعْرُ مَوْقِدَ المَحَبَّة. ويُرْوى أَنَّ قَيسَاً حَكى فَقَالَ (عِنْدَ غَدِيرِ الوادِيَينِ نُورِدُ الغَنَمَ ونَتَزاحَمُ عَلى المَوْرِدِ بمَرَحٍ صَاخِبٍ، كُلٌ يَأخُذُ بِالماءِ يَرُشُّهُ عَلى الآَخَرِ، فَنَتَدَافَعُ وتَضْطَرِبُ أَجْسَادُنا الغَضَّةُ، فَصَادَفَ أَنْ قَارَبْتُها فَتَلامَسْنا، ومسَّ كَتِفِي صَدْرَها، ولَمْ يَكُنْ بَعْدُ قَدْ أكْعَبَ ولا اسْتَنْهَدَ ولا اسْتَدارْ، لَكِنَّنِي شَعَرْتُ سَاعَتَها بِخَيْطٍ رَهِيفٍ مِنَ البَرْقِ يَجْتَاحُ أَعْضَائِي ورَأيْتُها تَخْتَلِجُ و يَتَصَاعَدُ مِنْها شِبْهُ نَحْيِبٍٍ كَمَنْ مَسَّهُ الهَلَعُ، فَعَرَفْتُ أَنَّها سَمِعَتْ مِنْ رُوحِيَ شِعراً لَمْ يَجْرِ عَلى لِسَانِي بَعْدُ فَرَكضَ كُلٌ مِنْا صَوْبَ غَنَمِهِ يَهُشُها عَائِداً إِلى مَضَارِبِهِ، ولَمْ أَرَهَا بَعْدَ ذلكَ زَمَنَاً حَسِبْتُ فِيهِ أنَّني لَنْ أَرَاها أَبَدَاً، وَكُنْتُ مِنَ الحُلْمِ قَرِيْبا).

***

لم يكونا في مكان

خَالَطَ الشَّكُ سِيْرةَ المَجْنُونِ، لِيَخْتَلِفَ الرُواةُ فِي شِعْرِه، فَرَدَّهُ بَعْضُُهْم إلى شَاعِرٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّة، عَشِقَ زَوْجَةَ أَحَدِ الوِلاةِ وخَشِيَ أَنْ يَشِيعَ خَبَرُهُما، فَأطْلَقَ النَصَّ عَلى إسْمَينِ لَمْ يَكُونَا فِي مَكانٍ، تَناقَلَهُ النَاسُ عَنْ لَيْلى ومَجنُونِها، وزادُوا فِيهِ مِنَ الكَذِبِ مَا يُضَاهِي الصِدْقَ فَصَدَّقْنَاهُ. وقَالَ أَمِينُ صَاحِبُ الحُجْرَةِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ ولا وَثِيْقَةٍ عَنْ شَخْصٍ يُدْعَى رَضْوانُ الجِنِّ، قَالَ إنّ قَيسَاً حَقِيْقَةٌ ولَكِنْ شِعْرَه مَوْضُوعٌ، وإنَّه يَعْرِفُُ خَطَاطَاً اسمُهُ جَمَالُ اللَيلِ الوَرَّاق اشْتَغَلَ عَلى نَسْخِ ذلكَ الشِعرْ، وقَدْ صَنَعَه شَاعِرٌ عَشِقَ فَتَاةً مِنْ بَدْوِ الجَزِيرةِ بَينَ نَجْدٍ والطائِفْ، تَزَوَجَتْ سِواهُ عَلى كُرْهٍ، فَذَهَبَ الشَاعِرُ إلى أَنْ يُشْعِلَ النَارَ فِي القَبَائِل، فَانْطَلَقَ فِي هَواءِ الجَزِيرَةِ خَالِقَاً النَصَّ والخَبَرَ، وقَالَ كُلَّ شيء عَنْ المَجْنُون الَذِي لا حَرَجَ عَلَيِه ولا لَوْمْ. فَطابَ لِكُلِ ذِي رِيْشَةٍ أو قَلَمٍ أَنْ يَفْعَلَ ما لَـذّ لَهُ مِنَ الجُنُون، لِئَلا يُقَالَ أَنَّ ثَمَّةَ زَمَان شَغَرَ مِنْ أصْحَابِ العِشْقِ والَّلوْعَةِ. فَانْهَالَ مَجْنُونُ اللَّونِ عَلى مَجْنُونِ الشِعْرِ بالنِيرَانِ مِنْ كُلِّ جانِبٍ، وبُعِثَتْ الحَرارَةُ فِي ذاكِرةٍٍ مَشْبُوبَةٍ، مِثْلَما تَهُبُّ الرِيْحُ فِي شَهْواتِ الجَمْرِ.

***

الأشياء

غَابَتْ عَنْهُ وهُو فِي انْتِظَارٍ، يَجْلِسُ فِي غُرْفَةِ الطَرِيقِ. أَشْياؤُهُ مَنْثُوْرَةٌ لِلنِّسْيَانِ والتَذَكُّر، والنَاسُ يَعْبُرُونَ مِثْلَ الأثَيِر. ومِنْ نَوافِذِ أَجْسَامِهمْ، يََرى إِليها تَرْكُضُ إِليهِ ولا تَصِلْ، يَركُضُ إِليها ولا يَصِلْ، والنَاسُ يَعْبُرُونَ عَلى أشْيائِه المَنْثُوْرَة (رِيْشَةُ قَطَا مُسْتَدِقَّةُ الرَأْسِ /خَيْطُ حَرِيْرٍ أَخْضَرُ عَقَدَتْهُ أُمُهُ فِي زَنْدِ طُفُولَتِهِ / خَاتَمُ عُرْسٍ مَنْحُوْلٍ مِنْ فَرْطِ الخَلْعِ / حِجَابٌ فِي جِلْدَةِ ضَبْعِ / عُوْدُ سِواكٍ يابِسٍ/ كِسْرَةُ ياقُوتٍ مَعْرُوقٍ بالفَحْمِ / خُرْجٌ ثَقَبَتْهُ الرِيحُ / أشْلاءُ لِجَامٍ تَنْضَحُ مِنْهُ رِيحُ الخَيلِ / وَحْشَةٌ) يَلْتَقِطُونَ مَا يُصَادِفُ أَقَدامَهُمْ. نِسْوةٌ يَجْلِسْنَ إِليِه يَسْتَنْشِدْنَهُ شِعْراً، يَسْأَلُهنَ عَنْ لَيلى. فَيُخْبِرْنَهُ أنْها فِيْهِنَّ وتَتَخَفّى لِئَلا تَفْضَحَها القَبِيْلَةُ. فَيَقُولُ إِنَّها وهِي مَحْجُوبَةٌ تَتَراءى لَهُ أَوْضَحَ مِمَّا لَو كانَتْ مَكْشُوفَةً. فَيَستَنْشِدْنَهُ فَيَرفَعُ صَوتَه لَعَلَها تَرَاهُ. وكانَتْ هُناكَ وهِيَ تَسْمَعُ، يَقُولُ شِعراً يَفُتُّ الجَلامِيْدَ، والنِسْوَةُ يُطْلِقْنَ التَنَهُداتِ وهِي تَسْمَعُ، يَتَفَجَّعُ لَهُنّ بِالفَلذاتِ، وهُنّ يَسْتَزِدْنَ وهِي تَسْمَع . الناسُ يَمُرُونَ بِنَوافِذِ أجْسَامِهم الواسِعَة، يَأخُذُونَ أَشْيَاءَهُ المنْثُوْرَة ( فَصُ فَيرُوزٍ شَائِخ/ حُقٌّ بِثُمَالَةِ العَنْبَرِ / كُوفِيَّةُ طِفْلٍ هَلْهَلَها الرَمْلُ / خُصْلةُ شَعْرٍ غَامِضَةٍ / مَا يَرْجِعُ فِي السَّرْجِ مِنَ الحَرْبِ / قَلَقٌ ) ويَعْبُرُونَ، والنِسْوَةُ يَتَطايَرْنَ فِتْنَةً وإعْجَابَاً. يَقُولُ شِعْراً فَيَتَضَاحَكنَ، و يَبْكي، وهِي تَسْمَع. فَأدْرَكَتْ النِسْوَةُ أَنَّ الأَمْرَ َتَجَاوَزَ طَاقَةَ الشَّخْصِ، وكَادَ يَتْلَفُ مِنْ صَمْتِ المحْبُوبْ. النَاسُ يَعْبُرُونَ وأشْيَاؤُه المنْثُورةُ ( غِمْدٌ فَارِغٌ / آثَارُ دَمٍ فِي خِرقَةٍ / رِتَاجٌ مَكْسُورٌ/ جُزْء (عَـمَّ يَتَسَائَلُونَ فِي صُفْرَةِ الوَرَقْ/ تَعْوِيْذَةُ إِلْفٍ /سِقَاءٌ مُتَقَلِّصٌ / مِخْلَبُ نِسْرٍ / عِرْقُ لُبَانٍ / قِطْعَةُ لَحْمٍ مَقْدُود ) تَكَادُ أَنْ تَنْفدَ، وهِي تَسْمَعُُ. فَقُلْنَ لَه (يا قيس، لَقَدْ ظَلَمَكَ الحَبِيبُ بِلا رَأفَة، وَحَقُكَ أَنْ تُسَيِّبَه لَعَلَهُ لايَسْتَحِقُ). فَصَرُخُ بِهِنّ :
(لا والله، كُلُّ خَشْيَتِي أَنَّنِي لَمْ أَكُنْ جَدِيراً، فَحَقُهَا عَليَّ أَنْ أُبَاهِي بِأَنِيَ الخَيْطُ المُنْسَّلُ فِي ذَيلِ وِشَاحِها، وأَقْبَلُ إِذا هِي قَبِلَتْ.
فَإذا ِبنَشِيجٍ يَصْدُرُ مِنْ جِهَةٍ تَشِفُّ عَنْ رُوْحٍ أَدْرََكَها بُكاءٌ لَمْ تَقْدِرْ عَلى صَدِّهْ، فَالْتَفَتَتْ النِسْوَةُ يَنْظُرَْنَ مَصْدَرَ النَشِيجِ، فَأَشْرَقَتْ شَمْسٌ صَغِيرَةٌ مِنْ مَطْرَحِها وغَابَتْ كَأنَّها تَدْخُلُ إلى خِباءٍ، وتَرَاءى لَهُنَّ أَنَّ لَيلى طَافَتْ وأَخَذَتْ مَا تَبَقَّى مِنْ أشْيَائِهِ المنْثُورَة (ثَالِثَةُ أَثَافٍ مَحْرُوقَة /غُصْنُ أَرَاك / صُوفَةٌ مِنْ وَبَرِ الإبلِ / نوَاةُ تَمْرٍ مَثْقُوبَة بِشَعرَةِ الخَيْلِ/ خُفٌ حائِلُ اللْونِ/ نَوْمٌ قَلِيلٌ/ قَوْسُ قُزَحٍ شَاحِب) وقَيسٌ مَشْدُودٌ، يَكادُ يَخِفُّ إِليْهَا مِنْ مَكانِهِ، اِنْجِذابَاً وهِي تَذْهَبُُ عَنْهُ ذَهَابَ القَمِيصِ مَسْلُوْلاً مِنَ الجَسَدِ. فَأَدْرَكتْ قَيْسَاً رَعْشَةُ رِيحٍ بَارِدَةٍ مَسَّتْ صَدْرَهُ المَكْشُوف بَعْدَ اِنْسِلالِ القَمِيصْ. جَالِسٌ فِي غُرفَةِ الطَرِيقِ، يَسْقِي النِسْوَةَ شِعراً، ويَبكِي عَطَشَاً، وهُنَّ يَتَضَاحَكنَ مِمَّا يُثِيرُهُ الحُبُ فِي كَيَانِهِنَّ الذِي مِنْ مَاءٍ لا تُطْفِئهُ النِيران، يَتَضاحَكْنَ وهُو يَبْكِي. وشَمْسُهُ الصَغِيرَةُ تَذْهَب.

**

قندة الجسد

يُقالُ لِقَيس إنَّ البَادِيَةَ كُلَّها أَضْحَتْ تَعْرِفُ عِشقَكَ لِليلى، وهذا يَكْفِي،
فَيَقُولُ (لكنَّ لَيلى لا تَعْرِف)
ويُقالُ لَه إنَّ نَاسَ البَدْوِ والحَضَرِ كُلهُم، يَتَناقَلُونَ حُبَ لَيلى لَك، وهذا يَكْفِي،
فَيقولُ (لكِنَّ قَيسٌ لا يَعْرِف).

قَالَتْ لَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ :
إِنَّ الذي لَكَ عِنْدِي أكْثَرُ مِنَ الذي لِيَ عِنْدَكْ. وأُعْطِي اللهَ عَهْدَاً مَا جَالَسْتُ بَعْدَ يَوْمِيَ هَذا رَجُلاً سِواكَ حَتْى أَذُوقَ المَوْتَ، إِلا أَنْ أَُكْرَهَ عَلى ذلِكْ).
فَسَمِعَتْ مِنْهُ وبَكَتْ مَعَه ُوهِيَ تَضَعُ بَنانَها فِي زَعْفَرَانَةِ شَعْرِهِ، حَتْى كَادَ الصُبْحُ أَنْ يُسفِر، فَتَنَبَّهَتْ لِنَفْسِها فَإذا هِي سَجِينَة زَنْدِهِ القَوِيَة مِنْ غَيْرِِ عُنْف الصَارِمَة بِغَيْرِ غِلْظَةْ، تَتَمَرّغُ فِي صَدْرِهِ الفَارِهِ، مَحْلُولَةَ الشَعرِ، فَارِطَةً مِنْ كُلِّ قَمِيصٍ، وهو يَمْنَحُها ما مُنِعَتْ عَنْهُ، وما جاءَتْ إِلَيْهِ وما لَمْ تَعْرِفُهُ مِنْ قَبْلْ. وعِنْدَما أَدْرَكَها الوَقْتُ، شَبّتْ مِثْلَ شُعْلَةِ اللَّهَبِ نَاهِضَةً، تَشُدُّ أَرْدِيَتَهَا وهُوَ يَبْحَثُ لَها عَنْ دُرَّاعَتِها وأَوْشِحَتِها ويَعْقدُ مَعَها الدِكَّةَ والزُنّارَ، وهِيَ تَلُمُّ نُثَارَها الذِي غَطّى البُسُطَ ومَنَحَ الخِبَاءَ أَلوانَ اللَّيلِ والنْهَارْ، ثُمَّ وَدَّعَتْهُ وانْصَرَفَتْ. وكَانَ هَذا أَولَ عَهْدِهِ بِالجُنُونِ الذي يُوْرِثُهُ اسْتِذْواقُ قَنْدَةِ الجَسَدْ .

***


ها أنت سمعت .. ها أنت رأيت

رُوِي أَنَّ اليَومَ الذِي حَصَلَ فِيهِ اليَقِينُ، وَقَعَ فِي ثُلَثاءٍ يُوافِقُ العِشْرِينَ مِنْ ذي الحِجَةِ فِي عَامٍ صَادَفَتْ وَقْفَتُه يَومَ جُمْعَة، فَاجْتَمَعَ يَومَها مِنَ الخَلقِ ما لَمْ يَجْتَمِع فِي حَجٍّ مِنْ قَبْلْ. وهُو حَجٌّ جَفَلَ مِنْهُ قَيسٌ عِنْدَمَا أَخَذَهُ والدُه إلى الكَعْبَةِ بِنَصِيحَةٍ مِنْ الناس لَعَلَ اللهَ يَشْفِيهِ مِنْ لَيلى. قِيلَ فَلَمَّا طَلَبَ مِنْهُ والدُه أَنْ يَتَعَلَقَ بِأسْتَارِ الكَعْبَةِ ويَدْعُو الله الفَرَج، وَقَفَ قَيس فِي نَهْدَةٍ مِنَ الأرضِ صَارِخَاً فِي البَيْتِ وأَهْلِهِ (اللهُمَ زِدْنِي لِليلى حُبْاً وبِها كَلَفَاً ولا تُنْسِنِي ذِكرَها أَبَدَاً ولا تُشْغِلْنِي عَنْها).

فَبُوغِتَ أَبُوهُ، والْتَفَتَتْ إِليهِ الجُمُوعُ مُسْتَغْرِبَةً مُسْتَنْفِرَةً، فَمِثْلُ هذا دُعاءٌ لَمْ يَعْهَدْوهُ ولَمْ يَسْمَعُوا بِمِثْلِهِ فِي هذا المَوْقِفْ، فَاسْتَكْبَرَهُ جُمهُورٌ رَأى فِيهِ بَوْحَاً لا يَلِيْقُ واسْتِهْتارَاً لا يُسْكَتُ عَنْه، فَشَخَصُوا حَوْلَ قَيسٍ وتَناهَبُوهُ، وهُو يُرَدِّدُ الدُعاءَ ذَاتَهُ، لا يُغَيّرُ فِيهِ إِذا لَمْ يَزِدْ. وأَبُوهُ يَذُودُ عَنْه مُسْتَرْحِمَاً مُعْتَذِرَاً مُتَعَذِرَاً بِجُنُونٍ أَلَمَّ بِوَلَدِهِ لِفَرْطِ العِشْق. لَكِنَّهُمْ لايَسْمَعُونَ إِليْهِ، حَتْى أَوْشَكُوا عَلَيهِ. وَفِيمَا هُو مَحْمُولٌ يُخْرِجُونَهُ مِنَ الحَرَم، يُنْقِذُونَهُ ودَمُهُ يَغْسِلُ الطَرِيقَ، كانَ يُردّدُ بِصَوْتٍ واهِنٍ، لا يَكادُ يُسْمَع : (ها أَنْتَ سَمِعْت .. ها أَنْت َرَأَيْت).

. ولما رَجَعَ قَيسٌ إلى قَومِهِ، شَاعَ مَا فَعَلُه فِي البَيْت، فَوَصَلَ الخَبَرُ إلى لَيلى، وَشَاقَها أَنْ تَجْتَمِعَ بِهِ، فَأَرْسَلَتْ تَدْعُوه، فَطَارَ إِلَيْها يُرِيْدُ أَنْ يُصَدّقْ. وعِنْدَما دَخَلَ عَلَيْها كانَ مُحْتَقِنَا.

***

حديقة الحصن

لَمْ يَكُنْ جَسَدَاً، حَدِيْقَةَ الحِصْنِ كان.
وكانَتْ الجِراحُ تَتَفَتَّحُ مِثْلَ وَردٍ كُلمَا وَضَعَتْ يَدَها عَلَيهِ.
لِلحَضْنِ هذا الجَسَدُ ولَيْسَ لِلقَصْفِ. لأِصَابِعَ تُحْسِنُ الحُلمَ وتَفْسِيرَهُ. الأهْدابُ لِرَاحَةِ المَسَاءِ والوِسَادةُ لآثَارِ الوَيلْ. لَكَ الكَتِفُ لِتَبكي عَلَيهِ وخَيْطُ الدَمْعِ لِتَسْكَرَ، هَاتِ الأعْضَاءَ والعَنَاصِرَ امْزُجْهُمَا بِمَا يَفِيضُ مِنْ أنْفَاسِي أُرْقِيْكَ بِالكُحْل والسُوَيْداءِ وفَصِّ الهَوْدَجِ لا يَأخُذُونَكَ مِنِي ولا يَأخُذُونَنِي مِنْكْ. نَضَتْ قَمِيصَهُ وراحَتْ تُدَاوِيهِ بِبَلْسَمَينِ، الحُبِ والشِعرِ. وأخَذَتْ تَمُرُّ بِأنَامِلِهَا عَلى جَسَدِه كَمِنْ يَقْرَأ :
( كُلُ هَذِه الجِرَاحُ فِي جَسَدٍ صَغِيرٍ إلى هذا الحَدْ؟)
فَيَقُولُ : ) أَنْتَظِرُ أَكْثَرَ مِنْ هَذا وأقْدِرُ عَلَيهِ لَوْ أنَّكِ تَصْبِرِيْنَ عَليَّ وتُصْغِينَ لِي، لَوْ أنَّكِ لِي(.
فسَمِعَ مِنْها مَا أَوْشَكَ اليَأسُ أَنْ يَمْحُوهُ مِنْ كِتابِه .

**

سترتني فافضحني

قِيلَ لِقَيْس بنِ الملَوَّح (مَا أَعْجَبَ شيء أَصَابَكَ مَعَ لَيلى)
قَالَ (طَرَقَنَا ذَاتَ لَيلَةٍ ضُيُوفٌ ولَمْ يَكُنْ عِنْدَنا شيء نُوْلِمُ بِهِ لَهُمْ، فَبَعَثَنِي أَبِي إلى مَنْزِلِ عَمْي المَهدِي أَطْلُبُ مِنْهُ مَا يُوْلَمُ بِهِ، فَأتَيْتُهُ فَوَقَفْتُ عَلى خَيْمَتِهِ، فَقَالَ : (مَا تَشَاءُ؟), فَسَأَلْتُهُ حَاجَتِي. فَقَال ( يَا لَيلى أَخْرِِجِي لَهُ ذلِكَ المَاعُوْنَ وامْلأي لَهُ إِنَاءَهُ مِنَ السَمْنِ). فَأخْرَجَتْهُ لِي وَجَعَلَتْ تَصُبُّ لِي السَمْنَ ونَحْنُ نَتَحَدَّثُ بِهَمْسٍ مُتَقارِبَينِ وأَيْدِيَنا أَرْبَعٌ فِي أََرْبَعٍ، فَأَخَذَتْنا الغَفْلَةُ حَتْى فَاضَ السَمْنُ وانْصَبَّ فَرَكَعْتُ أرشَفُهُ مِنْ أَصَابِعِها وأصْعَدُ مَعَهُ إلى بَاطِنِ ذِرَاعِها وهِيَ تَدفَعُنِي أَنْ أَكُفّ فَأصْعَدُ بِهِ إلى كَتِفها الذِي تَهَدّلَ عَنْهُ جَيْبُها والسَمْنُ يَقُودُنِي إلى نَحْرِهَا وهِي تَنْتَفِضُ وتَدْفَعُنِي أَنْ أَكُفَّ فَأدُسُّ بِشَفَتَيَّ إِلى مُلْتَقى النَهْدَينِ وقَمِيْصُها يَنْحَسِرُ ويَتَحَدّرُ بِفِعْلِ السَمْنِ وأَنَا أتْبَعُ مَسْراهُ فَتَطْفُرُ فِي وَجْهِيَ الفُهُوْدُ والنُمُورُ وهِي تَقُولُ خُذِ القَمِيْصَ عَنِي فَآخُذُهُ وتَقَولُ خُذْنِي فَآخُذُهَا وتَقُولُ لِي سَتَرْتَنِي فَافْضَحْنِي فَأفْضَحُها فَلا نَعْرِفُ كَيْفَ يَفِيْضُ السَمْنُ بِنا وكَيْفََ يَنْعَقِدُ، وهِي تَقُولُ والله إِنَّ جُنُونَكَ يَزِنُ عَقْلَ بَنِي عَامِرٍ وأَوَلُهُمْ هَذا الذِي يَجْثُمُ فِي خِبائِه، تَقْصِدُ أَبَاهَا.

**

الحب

 

هَاجَ بِه الشَوقُ ذاتَ لَيْلٍ، فَخَرَجَ مُيَمِّمَاً دَارَها، مِثْلَ ذِئْبٍ يَتْبَعُ عِطْرَ قَرِينَتِه، يَجِدُّ في السَّعي ويَلْهَجُ بِاسْمِها ويَتَهَدَّجُ بِآخِرِ ما قالَهُ فِيها مِنَ الشِعرِ، يَتْلُو صَلاةً كَمَنْ يَقْصِدُ الفَجْرَ قَبْلَ أَوانِه، وأَخَذَ يَطُوفُ حَوْلَ خِبائِها حتى اسْتَفْرَدَ بكُوَّةٍ تَفْتَحُها لَهُ كُلَّمَا جُنّتْ إِلَيْهِ، فَدَفَعَ خِرْقَةَ الكُوَّةِ وكانَتْ ذِرَاعَاها فِي لَهْفَة، وهَمَسَ لَها أَنْ تَقُولَ لَهُ الكَلامَ. ارْتَعَشَتْ أَعْضَاؤُها تَنْثُرُ كَبِداً فَرَاهَا العِشقُ وصَعَدَ مِنْها الزَفِيرُ الأَعْظَمُ. امْتَدَتْ لَهُ كالجِسرِ، وسَمِعَ فِي جَسَدِها غَرْغَرَةَ زُجَاجَةٍ تَمْنَحُ مَاءَهَا، فَكَانَ لهَا الإنَاءُ تَسْكُبُ ويَشْرَبُ، وكُلَّمَا قَالَ لَهَا زِيدِي تَزِيدُ وعَرَقُها يَتَفَصَّدُ والخِبَاءُ تَنْداحُ أَسْتَارُهُ وأسْنِحَتُهُ مِثْلَ رِيحٍ وهُو يَقُولُ زِيدي فَتَزِيدُ والعَرَقُ بَيْنَهُمَا يَنْضَحُ وأَوْتَادُ الخِبَاءِ تَتَأَرْجَحُ مِثْلَ إِعْصَارٍ يَتَشَبَّثُ بِالمِزَقِ لِئَلا تَنْهَاُرَ وهُو فِي حَالِ الإناءِ يَفِيْضُ ويَسْتَفِيْضُ والزَبَدُ يُجَلِّلُ أَعْطَافَهُمَا فَتُصِيبُهُمَا الإنْتِحَابَةُ. فَتَكُونُ قَالَتْ لَهُ الكَلامَ كُلَّهُ وقَدْ سَمِعَهُ. ويَكُونُ نَالَ مُتْعَةً يَغْتَرُّ بِها العَاشِقُ وتَاجَاً تَتِيْهُ بِهِ المُلُوكُ. ثُمَّ قَالَتْ لَهُ : (وأَنْتَ، مَا تَقُولُ فِي هذا اللَيل الذي يَطُول ). فَقَالَ لَها (الحُبَ).
وكَانَ أَوَلَ عَاشِقٍ يَكْتَشِفُ هذِهِ الكَلِمَة، وقِيلَ اخْتَرَعَها، وذَهَبَتْ فِي لُغَةِ العَرَبِ دَالَّةً عَلى وَصْفِ مَا لايُوصَفُ مِنْ خَوالِجِ النَاسْ، ولَمْ يُدْرِكُوا كَلِمَةً بَعْدَها عَلَى هذا القَدْرِ مِنَ الجَمَالْ. أَمَّا لَيلى فَإِنَّها بَعْدَ أَنْ سَمِعَتْ الكَلِمَةَ أُغْمِيَ عَلَيهَا، ولَمْ تُفِقْ حَتْى يَوْمِنَا هَذا. ويُرْوَى أَن اسْمَها امْتَزَجَ بِلَيلِ المُحِبِين الذِي يَطُولُ فَتَتَأَجَّجُ فِيْهِ شَهْوَةُ العُشّاقِ ويَتَفَجّرُ جُنُونُهمْ، وقِيلَ إنَّهُ لَيلٌ لا نَهايَةَ لَهُ. فَذَهَبَتْ لَيلى مَثَلاً أَكْثَرَ مِمَّا ذَهَبَ قَيسْ.

***

الذئب

سُئِلَ يَومَاً وهو سَاهِمٌ فِي الوَحْشِ : (مَا أَجْمَلَ مَا رَأَيْتْ؟)
فَقَالَ (لَيلى)
قِيلَ لَهُ : (نُدْرِكُ هَذا، ونَعْنِي غَيرَها؟!)
فَقالَ : أُقْسِمُُ أَنْ لا غَيرها، لَكِنََّ ذِئْباً بَهِّيَ الطَلعَةِ، نَشِيْطَ السَّمْتِ، طَيِّبَ الرِيحِ، صَادَفَنِي ذَاتَ قَفْرٍ وأَنَا أَحْنُو عَلى ظَبيةٍ وأَتَمَسَّحُ بِها وأُخاطِبُها لِفرْطِ شَبَهِها بِلَيلى، فَأَمْهَلَنِي حَتْى أَطْلَقْتُها وإذا هُو يُطارِدُهَا، فَانْطَلَقْتُ خَلْفَهُمَا لِكَيْ أَطْرُدَهُ عَنْها، فَكلَّتْ سَاقَايَ مِنَ الرَكْضِ، حَتى غَابَا عَنِي، وبَعْدَ رَاحَةٍ تَبَعْتُ أَثَرَهُمَا، وإذا بِهِ قَدْ فَتَكَ بِها فَأخَذْتُ سَهْمَاً أَصَبْتُه، وشَقَقْتُ بَطْنَهُ فَأَخْرَجْتُ مَا أَكَلَ فَضَمَمّْتُهُ إلى صَدْرِي، ورُحْتُ أَتَمَسَّحُ بِهِ وأَصْبِغُ بِمَزِيْجِهِ خِرْقَةً كَانَتْ عَلى جَسَدِي وأَدْهَنُ جُمَّةَ شَعْرِي وناصِيَتَهُ، وأَنَا أَشْهَقُ، تَنْتَابُنِي شَهْوَةٌ مَا ذُقْتُ مِثْلَها إلا مَعَ لَيلى. وغَشَيتُ بِفِعلِ اللَذَّةْ. وحِيَن صَحَوتُ مِنْ غَفْوَتِي إذا بِالذِئْبِ يَقُومُ مِنْ ذَبْحَتِهِ كَمَنْ يَنْهَضُ مِنْ نَوْمٍ. وَيتَبَدّى لِي أَكْثَرَ جَمالاً مِمَّا كَانْ، فَاقْتَرَبَ مِنِّي ورَاحَ يَفْركُ رَأَسَهُ فِي كَتِفِي وعَيْناهُ مُغْرَورَقَتَانِ. فَقُمْتُ أَسِيرُ مَعَهُ لِيَأخُذَنِي إِلى المَكانِ. ومِنْ ساعَتِها لَمْ يَعُدْ ذلِكَ الذِئْبُ يُفارِقُنِي، وكَانَ كُلَّمَا سَمِعَ مِنِّي شِعْرَاً أَذْكُرُ فِيهِ لَيلى اغْرَورَقَتْْ عَينَاهُ وأَصْدَرَ عُوَاءً أَجْمَلَ مِنْ نَحِيبِ بَشَرٍ في الحُبْ.

**

ليلة العرس

شِعْرٌ غَزَلَهُ المجْنُونُ فِي لَيلى، صَارَ عِطْرَاً نَافِذَ السِحْر. ذَاعَ فِي بَدْوِ الجَزِيرَةِ وحَضَرِهَا، ليَسْمَعَ بِه شَخْصٌ اسْمُهُ ( وَرْد )، يَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفِ الطَائِفِ،ِ مُتَتَبِعَاً أَخْبَارَ لَيلى مُتَقَصِّياً مَضَارِبَ بَنِي عَامِرٍ، مِنْ طَرَفِ الجَزِيْرَةِ حَتْى قَلْبها. وقِيلَ إنَّ ( وَرْدَاً ) كَانَ يَحْفِظُ كُلَّ أَشْعَارِ قَيس ، حَتى أنَه عِنْدَمَا دَخَلَ عَلى والِدِها خَاطِبَاً، كَانَ يُرَدِدُ شِعرَ المجنُونِ أَكَثَرَ مِمَّا يَقُول كَلامَاً مِنْ عِنْدِهْ، حَتى قِِيل إنًّ ورْداً جَاءَ يَطْلُبُ لَيلى مِنْ أَهْلِها بِشَفِيعٍ واحِدٍ هُو شِعْرُ قَيسٍ فِيها. ورُوِيَ أَنَّ المهْدِيّ والدَ لَيلى وَجَدَ فِي وَرْدٍ الثَرِيِ مِنْ ثَقِيْفِ، شَخْصَاً مِنْ أَهْلِ الجَمْعِ والمَنْعِ، جَدِيْرَ المَنْزِلَةِ، وأَنَّهُ إلى ذلك سَوْفَ يَضَعُ لِقِصَةِ قَيس مَعَ لَيلى حُدُودَ الأَعْرَافِ التِي يُوْجِبُها الزَوَاجْ. أُجْبِرَتْ لَيْلى عَلَى الزَوَاجِ مِنْ وَرد، بَعْدَ تَهْدِيْدٍ بِالتَمْثِيلِ بِها إنّْ رَفَضَتْ. فَوَقَفَتْ لَيْلَةَ العُرْسِ فِي مُنْتَصَفِ الخِبَاءِ قَائِلَةً لِوَرْدٍ : (لقَدْ تَزَوَجْتَنِي لأنَهُم ْ لا لأَنِي، وأَنْتَ تَدْرِِي عَنْ حُبِي لِقَيس وعِشقِهِ لِي، وقَدْ حَذَرْتُكَ مِنْ هَذا، أما وَقَدْ حَصَلَ مَاحَصَلْ ، فإِنَّكَ تَعْرِفُ أنَّ لِقَيسٍ فِي رُوْحِي أَكْثَرَ مِمَّا لَكَ فِي جَسَدِي، فَإِذا كُنْتَ قَبِلْتَ ذلكَ مِنْ قَبْلُ لابُدَ لَكَ أنْ تَقْبَلَ هذا مِنْ بَعْدُ، فَاْعْرِفْ أَنَّ لَهُ عِنْدِي النِصْفَ والثُلْثُينِ وَمَا يَفْضُلُ، وإِنَّ جَمْعَكَ ومَنْعَكَ، اللذَيْنِ جِئْتَ تَشْتَرِينِي بِهِمَا، لا يَجْعَلان لَكَ سُلْطانَاً عَليّ، وهذا الأمْرُ بَيْنَنَا مِنْ هَذِهِ اللَيْلَة، فَإذا قَبِلْتَ فَاعْلَمْ إنَكَ زَ وْجِي أَمْامَ الله والنَاسِ وهَذا حَسْبُك، لَكنَّهُ حَبِيبِي أَمَامَ الجَمِيعِ وهَذا لا يَكْفِينِي ولَنْ يَكْفِيهِ).

قِيلَ فَلمَّا سَمِِعَ وَرْدٌ كَلامَها أَطْرَقَ طَويلاً ثُمَّ نَظَرَ إِلى الوَاقِفَةِ أَمَامَهُ، مِثْلَ حُلُمٍ بَينَ يَدَيهِ، يَرْشَحُ مِنْ أَصَابِعِهِ، ولايَقْوَ عَلى مَنْعِهْ. وقَالَ بَعْضُهُمُ إنَّ (وَرْدَاً)، رُبَّمَا كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ هَذا لابُدَ واقِعٌ، فَأَحَدٌ لا يَعْرِفُ مِقْدارَ مَا بَينَ قَيس ولَيلى مِثْلَمَا يَعْرِفُ وَرْدٌ وَيُدْرِك. لكِنَّ وَلَعَهُ بِلَيلى، هَوَّنَ عَلَيْهِ الخَسَارَةَ كُلَّها. وقِيلَ إنَّ (وَرْدَاً) كَانَ قَدْ اسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهِ مَاهِيَّةُ قَيسٍ، حَتى اسْتَبْطَنَتْهُ وتَقَمَّصَها، وما سَعْيُهُ لِلزَواجِ مِنْ لَيلى، إِلا نُزُوْعَاً لإحتِيَازِ الحُلْمَ الذِي ابْتَكَرَهُ قَيسٌ فِي شِعْرِهِِ، وما كانَ لِورْدٍ أَنْ يُفَرِّطَ فِي هذا، وقَدْ تَيَقَنَ أَنَّهُ لَنْ يَنالَ مِنْ لَيْلى إِلا ما أَرادَتْ .

**

تاج الضحايا

يَسِيْرُ ويُهْمِلُ أشْيَاءَهُ فِي الطرِيْقِ
شاجِنَ الحُنْجَرةْ.
حَدَّثُوهُ عَنِ العُرْسِ،
فَانْقَضَّ فِي جِلْدِهِ.
قَفَّتْ يَدَاهُ عَلى الماءِ حَتى العَطَشْ
أَرَاغنهُ حَجَرٌ صَادِحٌ
والهَوادِجُ تَمْضِي بِلَيلى إلى العُرْسِ
والعُرْسُ يَذْبَحُهُ.
والهَواءُ قَمِيصٌ لِنِيرانِهِ

لَهُ اللهُ
حَبِيبَتُه في السَبايا
يَسِْيرُ ويَحْملُ جثْمَانَه
شَاخِصٌ فِي غُبَارِ القَوافِلِ،
تَحْدُو وتَتْرُكهُ فِي البَقَايَا.

رَأيْنَاكَ يَا قَيسُ
يا قيسُ
يا تَاجَنَا فِي الضَحَايَا.

***

ليلة الوصف

مِمَّا يُسْتَشَفُ مِنْ نُتَفِ الأَخْبَارِ ومُسْتَكْنِهاتِ مُعْظَمِ النُصوصِ وسَواطِِعِ بَعْضِها، أَنَّ قَيسَاً لَمْ يَكُف عَنْ لَيلى بَعْدَ الزَواجِ ولا هِي عَفَّتْ عَنْهُ، فَكَانَتْ تَسْتَقْبِلهُ فِي غِيابِ زَوْجِها حِيْنَاً وتَطِيْرُ إِلَيْهِ فِي القَفْرِ أَو الجَبَلِ حِيْنَاً آخَرْ. وَرُوِيَ عَنْ صَاحِبِ الأغَانِي قَالَ إنَّ زَوْجَ لَيلى وأَباها خَرَجَا إلى مَكةَ، فَأَرْسَلَتْ إلى المجْنُونِ تَدْعُوهُ، فَأَقَامَ عِنْدَها لَيْلَةً لَمْ يَخْرُجْ مِنْها إِلا فِي السَحَرِ مَسْحُورَاً، وقَالَتْ لَهُ : (عُـدْ إليَّ مَا دَامَ القَوْمُ فِي سَفَرٍ).
فَكَانَ عَلى ذلِكَ حَتى قَدِمُوا. ورُوِيَ أَنَّها كَانَتْ مِنَ النَشْوَةِ بَعْدَ اللَّيْلَةِ الأخِيْرَةِ حَتى لَمْ تَقْوَ عَلى كِتْمَانِ حَالِها أَمَامَ (وَرد)، الذِي دَخَلَ عَلَيْها مِنَ السَفَر مُحَمَّلاً بِالهَدايا مُسْتَمِيْلاً ودَّها، فَكانَ كُلَّما أَخْرَجَ لَها هَدِيَةً يَسْأَلُها ( كَيْفَ تَجِدِينَ هذا الخَزَّ وما تَرينَ بِهذا العِطْرِ وهذا العقْدِ وهذِهِ القِلادَةِ). كَانَتْ تَقُولُ لَهُ : (كُلُّ هذا لَيْسَ بِشَيء)
ثُمَّ تُعْرضُ عَنْهُ. فَأَدْرَكَ أَنَّها لَيْسَتْْ فِي شَأْنِهِ، وأن قَيساً قَدْ اسْتَغْرَقَها فِي غِيَابِهِ، فَطَوَى هَدَايَاهُ وَخَرَج. ورُوِيَ عَنْ جارَةٍ لَها سَأَلَتْها عَنْ تِلْكَ اللَّيلَةِ ، فَقالَتْ : (وَالله إِنَّها لَلَيّْلَةٌ تَجِلُّ عَنِ الوَصْف)
فَلَمْا اسْتَزَادَتْها الجَارَةُ زادَتْ :
(لَعَمْرِي مَا اشْتَمَلَت النِسَاءُ عَلى رَجُلٍ مِثْلهِ قَطْ).

***

أفعال الشطح

قِيْلَ إنَّهُ حِينَ يَفِيْضُ بهِ الوَجْدُ وتُدْرِكُهُ التَجَلِيات، يَخْرُجُ فِي المَضَارِب، يَكْشِفُ أَسْتَارَ الكُوَى فِي جَوانِبِ الخِيامِ وخُدُورِ النِسَاءِ، مُنادِيَاً فِي بَنِي عَامِرٍ (يَاغَلَظَةَ الأَكْبَادِ افْتَحُوا كَي يَتَخَلّلَ الحُبُ قُلُوبَكمْ وتَنْتابُكُمْ الرَعْدَةُ البَهِيّة وتَنْثَلِجُ أَوْصَالُكُمْ ويَرِفّ عَلى أَفْئِدَتكم مَلاكُ الجَنَّة والنْارِ، واطْرَحُوا مِنْ أَيْدِيكُمْ الشُغْلَ والتِجارَةَ واتْرُكُوا لأَجْسادِكُمْ حُريَةَ النِزالِ والإنْزال، وسَمّوا كُلَ شَيءٍ بِإسْمِهِ، وقُوْلُوا هُو الحُبُ، لَعَلَكُمْ تَنَالُونَهُ وتَقَعُوْنَ عَلى نِعْمَتِهِ وتَسْتَطْعِمُونَ بَعْضَ مَا أَنا فِيهِ، لِكَي لا يَكُونَ فَكاكٌ لَكُمْ ولا أَنْتُمْ تَبْرَأُون). ثُمَّ يَطُوفُ عَلى مَرَابِطِ الخَيلِ والإِبْلِ، يُطْلِقُ عِقالَها فِي غَفْلَةِ القَومْ، حَتى إِذا ما الْتَفَتُوا لَمْ يَجِدُوا فِي الحَيِّ بَهِيْمَةً فِي رِباطِها. وكانَ ذلِكَ مِنْ أَفْعالِ الشَطْح.

**

الهداية

لا يَيْأَسُ، ويَظَلُ في انْتِظارِهِ مَفْتُونَاً بِوَعْدِها. فَتَتَحَينُ لَيلى غَفْلةَ (وَرْدٍ) فَتَبْعَثُ إِلَيهِ تَدْعُوهُ، فَيَأتِي مِثْلَ الرُوحِ المَأخُوذ، وهِي تَكادُ تَحْتَقِنُ لانْتِظَارِه الذِي لا ينْفدُ، والنَاسُ فِي طَرِيقٍ مُؤَثَثَةٍ بِالأشْيَاءِ المَأخُوذَة. يَدْخُلُ عَلَيْهَا فَتَقَومُ إِلى بَابِ المكَانِ تُغْلِقُ رِتَاجَهُ وتُرْخِي الأسْتَار، وقَيسٌ يَهِيمُ بِهَا ويَهُمُّ مِثلَ طَيفٍ أخَذَ مِنْهُ السِحْرُ وشَحَذَتْهُ النَطْرَةُ. يَجْلِسَانِ مُتَلاصِقَينِ، صَمْتُهمَا أَضْعَافُ الكَلامِ، كُلَّمَا قَالَ لَهَا سَكَبَتْ لَه، أيُّكُمَا سَيُطْفِئُنِي هذِهِ اللَّيلةَ وأيُّكمَا سَيُشْعِلُنِي، وهو لا يَعْرِفُ بأيِّ عِضوٍ يَأخُذُ مَا تُعْطِيهِ، وكَيْفَ يَحْتَفِي بالنِعْمَةِ التِي تَبْذلُها لَه، يقُولُ وتَسْكُبُ وتَنْسَكِبُ عَلَيهِ، وهو لا يَكادُ يَفْرَغُ مِنْ رَشْفَةٍ حَتْى تُدْرِكهُ شَهْقَةٌ، تَشْحَذُ جَسَدَهُ بالرُوحِ، فَيَتَطَايَرُ الشَرَرُ وتَشُبُّ النِيرانُ فِي الثِيابِ، حَتى لا يَجِدانِ مَفَراً مِنَ التَخَفّفِ فَيَرفَعَانِ القُمْصَانَ التِي اكْتَنَزَتْ والصُّرَرَ التِي اسْتَضَاقَتْ والشَرَاشِفَ التِي زَاحَتْ وانْزَلَقَتْ تَتَمَرَّغُ في ثَنَايَاهُ ويَنْدَسُّ في أَرْدَانِها تَتَدَافَعُ بِهِ ويَتَرَنَّحُ مَعَها تَتَهَدَّجُ ويَتَهَجَّدُ ويَخْتَبِلُ ويُصِيْبُهُمَا مِثْلُ الهَذَيَانِ. والسَهْرةُ سُرادِقٌ بِلا سَقْفٍ حَتْى يَمَسّهُمَا صَوْتُ الفَجْرِ. فَيَخْرُجَانِ مِنْ بَعْضِهِمَا كَمَا يَخْرُجُ الحَالِمُ مِنَ الحُلمْ.
وعِنَدمَا يَلتَقِيهِ الذَاهِبُونَ إلى صَلاةِ الفَجْرِ، يَقُولُونَ : (لَعَلَه ُاهْتَدَى)
فَيَقُولُ (اهتَدَيْتُ).
ويَذْهَبُ كُلٌ فِي طَرِيقَينِ لا يَلْتَقِيانِ أَبَداً.

**

هي الشمس

قِيْلَ لَهُ : (إِنْمَا هِيَ واحِدَةٌ مِنَ النِسَاءِ)
قَالَ : (هَلْ فِي النِسَاءِ مِثْلُ هذا؟!)
قِيلَ لَهُ : (وأَكْثَر مِنْ هَذا لَوْ أَرَدْتَ، ويُحِبُونَكَ أَيْضَا).
فَقَالَ : (لَكِنَّنِي لا أُحِبُ غَيْرَ لَيلى فَإِنَّها الوَاحِدَةُ بَيْنَهُنَّ).
وَطَفِقَ مُبْتَعِدَاً عَنْهُمْ مُتَبَرِمَاً : (أَقُولُ لَهُمْ هِيَ الشَمْسُ، لكِنَّهُمْ يَعْمَهُونَ عَنْها ويَخلِطونْ، حَتْى أُوْشِكُ أَنْ أُمَرِّغَ أُنُوفَهُمْ فِي ضَوْئِها، لَعلَّهُمْ يَشْعُرُونَ بِمَا يَفْعَلُ الجَحِيمُ فِي الجَسَد. وكُلَّمَا أَشَرْتُ لَهُمْ أَنْ أُنْظُرُوا إِليْها، رَاحُوا يُحملِقُونَ فِي طَرَفِ الإصْبَعِ ولا يَرونَ شَيْئَاً، ومَا زالُوا فِي طَرَفِ الإصْبَعِ وهُمْ يَفْتَحُونَ أَحْداقَهُمُ عَلى آخِرِها، حَتْى يَعْشَوْنَ وتَذُوبُ مِنْهُمُ المُقَلُ، فَيَفْقِدُونَ النَظَرَ لَعَلَهُمْ لا يُبْصِرُونْ).

**

مرآة الماء

طَرَحَتْ ثِيَابَها لِتَغْتَسِل، ونَظَرَتْ فِي مِرْآةِ الماءِ وسَألَتْها : (وَيْحَهُ، لقَدْ عَلِقَ مِنِّيَ مَا أَهْلَكَهُ مِنْ غَيْرِ أَنَّ أَسْتَحِقَ ذلِكْ، فَنَشَدْتُكِ أللهَ، أَصَدَقَ فِي صِفَتِي أَمْ كَذِبْ؟)
فَسَمِعَتْ (لا واللهِ فَقَدْ صَدَقَ، ولَمْ يَكُنْ مَادِحَاً لكِنَّهُ وَصَفَ مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ عَيْنَاهُ وجَسّتْهُ يَدَاهُ وذَاقَتْهُ حَوْاسُّهُ كُلُّها، فَلا تَثْرِيْبَ عَلَيْهِ إِنْ هُوَ جُنَّ بِكِ وجُنَّ عَلَيْكِ).
فَاسْتَعْذَبَتْ لَيلى هذا، وقَالتْ (وحَقِ هَذا الماء إنَّهُ يَسْتَحِقُ مِنِّي أَكْثَرَ مِنْ ذَلكْ، فَوَاللهِ لأُعْطِيَنَّه حَقَّهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلُومَنِي أَحَد).

***

يغفر الله لي

قِيلَ لَهُ : ( الحُبُ أَوصَلَكَ إلى مَا أَنْتَ فِيه؟)
قَالَ : (وَ سَيَنْتَهِي بِي إِلى مَا هُوَ أَشَدََّ مِمَّا تَرَونْ).
لقَدْ كَانَ يَأسُهُ فِي ذلِكَ أَعْظَمَ مِنْ أَمَلِهِ وأَجْمَلْ. إلا أنَّه كَانَ يَعْرِفُ الطَرِيقَ، وكَانَ يَذْهَبُ فيها. هذا الذِي عِشقُهُ رِيحٌ تَلْعَبُ بالرُوحْ.) قِيلَ لَهُ ( لِمَ لا تُصَلّي فَيُعِينُكَ الّلهُ عَلى ما أَنْتَ فِيْه، قَالَ : ( لَوْ أَنَّنِي أَسْتَغْفِرُهُ بِقَدْرِ مَا أَذْكُرُها لَغَفَرَ لِي مَا تَقَدَمَ مِنْ ذَنْبٍ ومَا تَأَخَرْ، ولكِنْنِي مَا وَقَفْتُ لِصَلاةٍ إلا شَاغَلَتْنِي لَيلى فِي وَقْفَتِي، وعِلْمِيَ أَنَّ اللهَ لا يُحِبُ شَرِيكَاً لَهُ، كَمَا أَنَّها لا تَقْبَلُ شَرِيكَاً هِي الآخْرى، ولا يَصِحُ لِي أَنْ أَكُونَ مُشْرِكاً، وَسَوْفَ يَغْفِرُ اللهُ لِي ماغَفَرَتْ لَيلى).

**

البكاء كله

قِيلَ لَهُ: ( ماذا لَوْ أَنَّ لَيلى لَمْ تَكُنْ ؟)
قالَ : ( لَكُنْتُ بَكيتُ البُكاءَ كُلَّهُ لِكَيْ تَكُونْ).

***

في الحج


نَقَلَتْ لنا الرِواياتُ مَواقِفَ صادَفَها قَيس فِي الحَجِّ، ممَّا يُوحِي أَنَّه قَدْ سَافَرَ غَيرَ مَرةٍ إلى البَيْتِ الحَرامْ. إلا أَنَّ شَيْخَنَا أَبا صَلاحٍ خَلَفُ الغَسانِي رَوى عَنْ أَحَدِ المُجَاوِرِين، نمَتْ إِلَيْهِ طُرَفٌ عَنْ قَيس، قَالَ ( إنَّ قَيسَاً، رُبَمَا ذَهَبَ إلى الحَجِّ مَرَةً واحِدَةْ، وأقُولُ، ذَهَبَ، لِكَي أَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يُسَافِر بِنِيّتِهِ فِي الحَجّ، ولَمْ يُؤَد حَجَّاً بِمَنَاسِكِنَا وشَعْائِرِنَا، تِلكَ هِيَ يَتِيْمَتُهُ التِي ذَهَبَها مَعَ أَبِيْهِ لِلشِّفَاءِ مِنَ الوَلَع، وقَدْ مَنَعَتْهُ حُكُومَةُ الحَجِّ وسَدَنَةُ البَيْتِ مِنْ دُخُولِ الحَرَمِ بَعْدَ شَنِيعَتِهِ. فَقَدْ سَلَكَ طَرِيقَةً وقَالَ شِعْراً ابْتَدَعَ بِهِما بِدْعَةً هِي الهَرْطَقَةُ عَينُها، مِمَّا أَثارَ عَلَيْهِ الخَلْقَ وحَرَّكَ إليهِ أَحْجَارَ البَيْتِ كُلَّها. ويَتَرَاءى لِي أَنَّ قَيسَاً لَمْ يَأتِ مَكةَ لِيُعلِنَ عِشْقَهُ ويُذَيْعَ غَزَلَهُ فِي لَيلى، وهذا مَألُوفٌ فِي وَقْتِهِ، لكِنَّهُ، واللهُ أَعْلَمُ، جاءَ لأمْرِ آَخر. وقَدْ إلتَفَتَ يوْمَها كَثِيرُونَ إلى شِعْرِ ذلكَ المجنُونِ بِدَهْشَةٍ تَسْبِقُ السِحْر، ولَوْلا قدْرَةُ اللهِ لَدَبَّتْ فِي النَاسِ الفِتْنَة).
قَالَ، وقَدْ أَخْبَرَنِي ذَلكَ المُجَاورُ أَنَّهُ لـَمَّا حَضَرُوا بِهِ مَكةَ، بَاتَ لَيْلَةً يُحَدِّثُ نَفْسَه كَالذي فِي النَوْمِ يَهْذِي ويُعَاتبُ امْرَأةً حَاضِرَةً . فَسُئِلَ عَنْ ذلكَ فَحَلَفَ أَنَّ لَيْلى كَانَتْ إلى جانِبِهِ فِي الوَقْتِ وأَنَّها تَجَلّتْ لَه فِي هَيْئَةِ أَتانٍ، تَقُودُ قَطِيعَاً عَظِيمَاً مِنْ بَقَرِ الوَحْش، وتَدُورُ بِهِ حَوْلَ نَبْعِ ماءٍ، يَتَفَجَّرُ ويُصِيبُ القَطِيْعَ فَيَغْسِلَهُ والبَقَرُ يَطُوفُ ويَطْلُبُ مِنَ اللهِ رَحْمَةَ لَيلى ورَفْعَ غَضَبِها، والأتانُ لا يَكُفّ عَنِ السَّعِيَ والدَوَرَانِ حَوْلَ الماءِ. فَسَأَلَ لَيلى لماذا تَأخُذُ طَبِيعَةَ الأتَانِ، قَالَتْ لَهُ إنَّ فِي الأتَانِ شَيئاً مِنْ رَائِحَةِ الأنْبِياءْ).
قِيلَ أيضَاً إنَّه لَمّْا طَلَبَ مِنْهُ أَبوهُ أَنْ يَتَعَلَقَ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ لِيَنْسى، امْتَثَلَ لَهُ، وما أَنّْ لاَمَسَتْ يَداهُ قَطِيْفَةَ الأسّْتارِ، حَتى شَعُرَ بِحَياةٍ غامِضَةٍ تَنْداحُ بَينَ يَدَيْهِ وعَيْنَيْهْ فَاخْتَرَقَتْهُ شَرارَةُ الشَهْوَةِ لِفَرْطِ مَا رَأى فَأَخَذَ يَتَمَرَّغُ فِي الأَسْتارِ كَمَا فِي تَخْتٍ مُتْرَفٍ، وأَطْلَقَ صَرْخَةً عَظِيْمَةً، زَلْزَلَتْ صَحْنَ البَيْتِ كُلَّه، وسَمِعَها مَنْ فِي رُوُؤسِ الجِبالْ (يالِهذِهِ الأَرْدِيَةِ الهائِلَةْ، الكائنُ الصَغِير ورَاءَ قَمِيصٍ بِهذِهِ الرَحابَةِ والهَيْبَةِ، إِنَّها هُنا)
وأَخَذَ يَشْهَقُ ويَتَقَلّصُ ويَنْفَرِجُ ويَنْبَسِطُ ويَشبُّ جَسَدُهُ وتَدُبُّ فيه الحُمّى ثُمَّ يَرْشَحُ بِالعَرَقِ ولا يُدْرِكُ أَحَدٌ أَنَّ هذا يَكْفِيْهْ.
فِي رِوايَةٍ أُخْرى قَالَ عليُّ بنُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كانَ يَسّْعى بَينَ الصَفَا والمَرْوَةِ و إِذا بِمُنَادٍ يُنَادِي مِنْ فَوقِ صَخْرَةٍ كَبِيرَةٍ، والنَاسُ تَنْصَرِفُ عَنِ السَّعْي مُتَحَلِّقَةً حَوْلَهُ، فَاقْتَرَبْتُ لِكَي أََرَى شَخْصَاً عَلِمْتُ فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ المَجْنُونُ يُشِيِّدُ هَيّْكَلَهُ في النَاس. فَمَا إنْ وَصَلَ بناؤه إلى تَقْويضِ البِناءِ الأول، حَتَّى شَعَرْتُ بِأَنَّ أَعْضائِيَ تَفْلِجُ وتَقْصُرُ عَنْ حَمْلِي فَأنْهارَ جِسْمِيَ لِشِدَّةِ ما سَمِعْتُ، فَحَمَلَنِي أَصْحابِي إِلى ناحِيَةٍ يَنْضَحُونَ الماءَ فَوقَ جَسَدِي لِكَيْ أَخْرُجَ مِنْ إغْمائِي. وكانَ ذلكَ آخِرَ عِلْمِي بِذلكَ المجْنُون).

***

شيء غير الجبل

حُجِبَتْ لَيلى عَنْ قَيس وانْقَطَعَتْ أخْبارُها عَنْه وهُوَ الذي اعْتَادَ عَلى وَصْلها، فضَاقَ الفَسِيحُ فِي عَيْنَيْهِ، وَعَلِمَ أَنَّ أهْلَها يُرِيدُونَ إتْلافَهُ بِهذا الحَجْب، فَأَخَذَ يَطُوفُ لَيلَهُ ونَهارَه بَحْثَاً عَنْ مَكانِها. وكُلَّما صَادَفَ شَخْصَاً يَسْألُه عَنْ لَيلى وأَيْنَ غَيّبُوها (لَيْتَهُمْ قَتَلُونِي فَالموتُ أرْوَحُ لِي)
كانَ يَهْجُمُ فِي فَضاءٍ شاسِعٍ وهُمْ يَهْرُبُونَ بِلَيلى عَنْهُ فِي الأرضِ والأرضُ تَتَسِعُ لَهُمْ وتَضِيقُ عَلَيهِ. يَسْأَلُ عَنْها فَلا يَجِدُ فِي الأرضِ غَيْرَ ظِلٍ لِخَطَواتٍ شَارِدَةٍ وبَقَايا طِيب، رَشَّتْهُ لَيلى فَي هَوْدَجِها سَاعَةَ الرَحِيلِ، فَيَشُقُّ ثَوْبَهُ ويُلْصِقُ صَدْرَهُ فِي أَثَرِها يُمَرّغُ خَدَيِهِ ويَبْدأُ فِي كِتابَةِ بُكائِه فِي ذلكَ الصَعِيدِ الطَّرِيِّ . يَرْسُمُ آثارَ أقْدامِهِ المُضْطَرِبَةِ فِي رِمَالِ الجَزِيرةِ، مُجْتَازَاً مَفَازاتِ الأرْجَاءِ، يَصْعَدُ فِي ذاكِرَتِه جَبَلُ التَوْبَادِ، فَيَهُمُّ إليِهِ هائِمَاً مُتَلَبِثَاً بَينَ الوَعْرِ والوِدْيانِ، لَعَلَّ شَيْئَاً مِنَ الحُلمِ يَنْتَفِضُ ويَتَحَقَّقُ. فَيَحْضُنُه الضَياعُ لَيَجِدَ نَفْسَهُ فِي ظاهِر الشَامِ، يَسْألُ الناسَ (أينَ جَبَلُ التَوبادِ مِنْ أرْضِ بَنِي عَامِر)
فَيُقَالُ لَهُ : ( وأَيْنَ أَنْتَ مِنْ أَرْضِ بَنِي عَامرْ ! أَنْتَ بِالشَامِ)
ويَهْدُونَهُ بِالنُجُومِ. فَيَذهَبُ إليْها هَائِمَاً على وَجْهِهِ فِي سَدِيمِ الكَواكِبِ حَتْى َيقَعَ بِأرضِ اليَمَنْ. فَيَرَى بِلاداً مَجْهُولَةً وقَوْمَاً لا يَعْرِفُهمْ، فَيَسْألُهمْ عَنْ التَوبادِ فِي أَرْضِ بَنِي عامِرْ، فَيَقُولُونَ لَه : (وأينَ أنْتَ مِنْ أرْضِ بَنِي عامِرٍ)
ويَهْدُونَه بالكَواكِبِ فَيَتِيْهُ فِي المَجَرَّةِ. ولَيْسَ هذا مِنْ طاقَةِ البَشَرْ، ولا يَزالُ كَذلِكَ حَتْى يَقَعَ عَلى التَوبادِ، فَيَرى شَيْئَاً غَيرَ الجَبَلْ .

***

اسردْ قلبك

تَطِيرُ إليهِ الأخبارُ وهو فِي مَزِيجٍ كَمَنْ تَلْهُو بِهِ الأسْطُورَةُ،لا يَكادُ يُصَدِّقُ مِنْها خَبَراً حَتْى يَصْدِفَهُ خَبَرٌ، ولا يَبِينُ لَهُ مِنْ ذلِكَ يَقِينٌ يَرْكُنُ إليهِ. وجاءَهُ مَنْ يَقُول لَهُ إنَّ لَيلى أُخِذَتْ إلى العِراقِ عُنْوَةً، فَمَرِضَتْ هُناكَ فَأَيْنَكَ مِنْها؟ ثُمَّ قِيلَ له إِنَّها فِي الحِجازِ، وقِيلَ فِي الصِفاحِ، رُواةٌ يَعْبَثُونَ بِالأخْبارِ، كُلٌ عَلى هَواه، فَيَصِيحُ بِهمْ (يا قُساةَ القُلوبِ، يَا فَاسِدِي الضَمَائِرْ. إنَّ هَذا لا يَجُوز، أَصْدِقُونِي فِي أَيِّ أَرْضٍ قَلْبِي، أَسْعِفُونِي، ولا تَلْعَبُوا بالرُوحِ فَقَدْ تَلِفْتُ مِمّا أَنا فِيهِ وأنْتُمْ تَدْفَعُونَ بِي إلى كُلِّ فَجٍّ، ضَارِبَاً عَلى وَجْهِيَ، لا أَلْقَى إلا سَرابَاً، هَلْ مِنْكُمُ مَنْ يَصْدُقُ خَبَراً واحِداً، تَسْعَونَ لِجُنُونِ مَجْنُونٍ مِثْلِي ياتُعْسَكُمْ).
فَاضَ بِهِ العِشقُ وضَاقَتْ بِهِ الدارُ والحَيُّ والبَادِيَةُ فَوَجَدَ فِي العُزْلَةِ التِي نَشَأَ عَلَيها فَضَاءً يَسَعُ حُبَهُ وفِي الوَحْشِ الصَدِيقَ النَبِيْل. عَبَثَ النَاسُ بِهِ فَوَجَدَ فِي الذِئْبِ والوَعْلِ والطَيْرِ والشَجَرِ طَبِيعَةً تَأنَسُ لَها الرُوْحُ ويَرْتاضُ الجَسَدُ. ظِلُهُ يَتْبَعُ الشَمْسَ، وعَيْناهُ مَأسُورَتانِ بِمَا يَمْنَحُ العشْبَ لَوْناً، لا يَسْأَلُ المَاءَ مِنْ أَيْنَ أنْتَ ومَنْ أَنْتَ، يَغْسِلُ أَخْبَارَ قَلبِكَ، يَمْسَحُ عَنْ كَتِفَيكَ غُبَارَ الطَرِيقِ. يُؤَثِّثُ القَفْرُ غُرفَتَهُ بِالهُدُوءِ لِكَي تَأمَنَ أَحَلامُهُ وتَنَامْ. فَمَنْ يَسْكُنُ الوَحْشَ يَمْلِكُه. لا يُرَى إلا وهُوَ فِي قَطِيعٍ مِنَ الذِئابِ تَسِيْرُ مِنْ أمَامِهِ ومِنْ خَلْفِهِ، كَمَنْ يَحْرُسُهُ ويَخْفُرُ خُطَاهُ. فَالعِشقُ أَنْ لا يَطَالَكَ غَيْرُ الهَوى، قَفْرٌ هُوَ الحِصْنُ يَحْمِي ويَحْضُنُ.
كَانَ فِي وَحْشٍ يَسّْحَلُ أعْضاءَهُ فِي نِتُوءِ الجَبَلِ. ضارباً فِي سَفْحِ التَوبادِ مُهَلْهَلَ الحَالِ، طَائِشَ الذِهْنِ، يَقْتَاتُ بِعُشْبِ الصُخُورِ ويَشْرَبُ مَعَ الوَعْلِ. والتَقاهُ الذِئْبُ وجَلَسَ إلَيِهِ يَسْتَهْدِيهِ ويَرْتاضُ بِرُوحِهِ حَتْى اسْتَقَرَ وهَدَأَتْ أخْلاطُه، ثُمَ سَارَ بِه مُسْتَسْلِمَاً لِمَا يُشْبِهُ السِحْرَ، مُيَمِّمَينِ صَوبَ المكانِ، يَدْخُلانه لِتَكُونَ لَيلى هُناكَ. بَهْوٌ مِنَ الحَجِر النَظِيفِ. تَضَعُ قَدَمَكَ عَليهِ، فَتَسْمَعُ لَه وَجِيْبَاً، تَلِيهِ طَنَافِسٌ مِنْ حَشِيْشَةِ البَهْجَةِ، تَقُوُلُ لَكَ هذا لَكَ فَتَشْعُرُ أَنَّهُ لَكْ وتَلْثُمُكَ رِيحٌ خَفِيْفَةٌ، تَأخُذُ يَدَيكَ وتَهْدِيكَ فَلا تَهْتَدِي ولا تَضِيعُ عَيْنَاكَ فِي أُفُقِ البَهْوِ، فِي زُرْقَةٍ فَاتِرَةٍ، تَدْعُوكَ فَتَذْهَبُ فَيَجْهَشُ قَيسٌ ( رَأيْتُ لَيلى فِي هَوْدَجٍ مِثْلِ هذا وجَلَسْتُ إِليها. قُلْ إنَّها هُنا واتْرُكْنِي).
فَقالَ لَهُ الذِئْبُ ( اْمْكُثْ هُنا واْسْرُدْ قَلْبَكَ تَسْمَعُكَ وتَأتِيْك، ولا تَكُونُ وَحْدَكَ أَبداً
فَيَخْرُجُ الذئبُ عَنْهُ وتَكُونُ لَيلى فِي هَيْئَةِ الماءِ والَملاك. وكَانَ كَأَنَّهُ يَرى .

***

النص والخبر

آتِيك ِ، آتِيكِ، لا أنْتِ فِي الشَّكِ ولا أَنَا فِي الغَفْلَةِ. أَمَضَّنِي السَّفَرُ وثَلْجُهْ، الصَمْتُ وجَحِيْمُهْ، أَمَضَّتْنِي القِفَارُ وسِيْرةُ الوَحْشِ. ومَا عَلَيكِ إِلا أَنْ تَظُنِّي بِيَ الظُنُونَ ولا أَخْذِلُها، وتُطْلِقِي خَلْفِيَ الكُتُبَ لِكَي أَخْذِلَكِ. آتِيكِ، فَلا مَفَرّ ولا خَلاص مِمِّا اخْتَرناهُ إلا اختِيارَهُ. آتِيكِ فَأبْذُلِي الوَقْتَ، وبالِغِي فِي الحُبِّ لِنُصَابَ بالبَهْجَةِ، ويُصَابَ النَاسُ بِمَا يُرِيْدُونْ. عَلَيكِ أََنْ تَبْذُلِي رَيْشَ كَتفكِ، لِكَي أَضَعَ عَلَيهِ رَأسِي وأَبْكِي لَكِ البُكَاءَ كُلَّهُ، إلى أَنْ تَحْتَرِقَ كَبِدِي، ويَتَصَاعَدَ مِنْها اللَّهبُ والشَوَاظُ وبُخَارُ اللَّهْفَةِ. وعَلَيْكِ أَ نْ تُصْغِي لِلأَخْطَاءِ المُلَفَّقَةِ كُلِّها. تُصْغِي إليْها بِلا اكْتِراثٍ. فَفِي كَتفكِ يَنْهالُ جَيْشٌ مِنَ الفُرْسَانِ المَهْزُومِينَ يَزْعُمُونَ انْتِصَاراتِهمْ. عَلَيكِ بكَتفكِ الرَهِيفَةِ ورِِيْشِها، عليك أَنّ تَحْتَمِلِي عُوَاءَ الذِئْبِ ونَحِيب الكَبِدِ المَفْدُوحِ. عَلَيْكِ دَيْنٌ لِي أُؤَدِّيهِ عَنْكِ، ولَكِِ دَيْنٌ عِنْدِي تُؤَدِّيْنَهُ لِي. كِلانَا مَسْحُورٌ وكِلانَا لا فَكَاكَ لَهُ مِمَّا هُوَ فِيه. عَلَيْكِ أَنْ تُؤَْمِنِي بِي قَادِمَاً ذاتَ لَيْلٍ، فَازِعَ القَلْبِ مُحْتَقِنَ الأحْدَاقِ مَجْنُون الفُؤَادِ مَحْسُورَ الجَسَدِ، بَاحِثَاً عَنْ صَدْرٍ يَدّخِرُ الجنَّةَ لِي. فَعَلَيكِ أَنْ تَشُقِّي لِيَ القَمِيْصَ عَلى آخِرِهِ كَي أَدْخُلَ أنَّى أَتَيْتُ وأخْرُج أنَّى ذَهَبْت. عَلَيكِ أَنْ لا تَكُفِّي عَنِ السَهَرِ ولا تَأخُذُكِ سِنَةٌ مِنْ النَوم، ولا يَفُوتُكِ الحُلُمْ. وسَاعَةَ أَنْزلُ عَلَيكِ مِثْل مَلَكٍ يَحْملُ النَبَأَ، لا يُخَالِجُكِ شَكٌّ فِي شَخْصٍ لا يُشْرِكُ فِيكِ شَيئَاً ولا تَنَالُهُ المَظَنَّةُ ولا يَْصْدُرُ عَنْ سِواكِ ولا يَذْهَبُ لِسِواكِ ولا يَقُولُ عَنْ سِواكِ ولَيْسَ لَهُ مَآلٌ غَيْرُكْ. عَلَيكِ أَنْ تَجْعَلِي الخِبَاءَ بَهْوَ الكَونِ وسُرادِقَ المجَرّةِ وسَرِيْرَكِ السَديم. عَلَيكِ أَنْ تَجْعَلِي بَابَ الخِبَاءِِ مَتْروكاً بَعْدِي، لِكَيْ تَدْخُلَ البَادِيةُ كُلُّها والحَضَرُ كُلُّهُ، فَيَنْظُرونَ إلَينا ونَحْنُ نَضَعُ أَعْضَاءَنا فِي القَتْلِ والقِتَالِ. تَحْتَّكُ وتَحْتَدِمُ وتَرْتطِمُ ويَتَطَايَرُ مِنْها النُورُ وتَنْدَفِقُ النِيرَانُ. دَعِي لَهُمُ الخِبَاءَ فِي التَّرّْكِ لِكَي يَنْهَالُوا ويَنّْهَلُوا مِمَّا نَفْعَلُ ولا يَعُودُونَ يَشُّكُوْنَ فِي النَّصِّ والخَبَرْ.

***

جنون الفؤاد

(لَوْ حَلَفْتُ أَنَّ مَجنُونَ بَنِي عَامِر لَمْ يَكنْ مَجْنُوناً لَصَدَقْتُ)
قَالَ ذلكَ ابنُ سَلاّم فَصَدّقناهُ. لَيس ِلحِلفَانِه، ولكِنْ لِشَيءٍ فِي النَّفْسِ يَحُضُنا عَلى هذا وشَيءٍ فِي القَلْبِ يَهْدِينا إليِه. رَحْمَةٌ أنْ لا تَتَّفِق الأخْبَارُ عَلَى جُنُونٍ، فَقَدْ وَجَدْنَا فِي مَا قَرَأنَاهُ مِنَ الشِعْرِ مَالا يَسْتَقِيمُ مَعَ الجُنونِ حِينَ يَعْنُونَهُ حَمقَاً أَو خَبَلاً أو انّْحِرَافَاً فِي العَقْلِ. لَقَدْ كَانَ فِي قَوْسَينِ مِنْ تَجَلِياتِ الوَلَعِ وتَصَاعُدِ الإنسِحَارِ بالآخَرِ، وهَذا مِنْ طَبِيْعَةِ الشُعَراءِ في الأَصْلِ، تَضاعَفَ الأمرُ هنا لِحِدُوثِ العِشقِ، ويَشِي الشِعرُ بِمَا نَعْنِي ونَذْهَبُ.
وقَدْ جَرَيْنا فِي أَخبَارِنا عَلى مَا يَرُوقُ هَوانَا ويَشْحَذ خَيَالَنَا بَشَطْحِهِ، ومَايَسْتَقِيْمُ ويَسْلُكُ فِي وَصْلِهِ بَينَ النَّصِّ والخَبَرْ. فَحِينَ يَصْدُرُ القَوْلُ عَنْ مَعْنَى جُنُونِ الفُؤاد أخَذْنا بِه وقَبلناهُ وزِدنَا عَليهِ وبالَغناهُ، وعِنْدَمَا يَنْزَعُ القَوْلُ إلى أَنَّ قَيسَاً كَانَ مَجْنُونَاً عَقْله عَرَضْنا عَنْه وغَفَلْناهْ. عَسَى أَنْ يَطِيْبَ هذا مَعَنا لِصِنْفَينِ مِنَ النَاسْ، الشُعَرَاء والعُشّاقْ، وفِي جَمِيعِنا قَدْرٌ مِنْ هذَيْنْ.

**

تقية الجنون

(لَمْ يَكُنْ مَجْنُونَاً إنَّمَا كانَتْ بِهِ لَوّْْثةٌ)
يَا الله، يُرِيْدُنَا الأصْمَعِيّ أنْ نَعْتَبِرَ اللوّْثَةَ أمْراً غَيْرَ مَسِّ الجُنُون، هَل تَفِيضُ الألفَاظُ بغَيْرِ مَا يَصُبّهُ دَوْرَقُ القَوامِيْسِ، هَلْ الإرثُ مَعنىً آخرَ غير تَرِكَةِ الكَلامِ الأوَلْ، وهَلْ حَكَمَتْ المتُونَ والهَوامِشَ إلاّ شَرُوحُهُمْ. هَلْ الجُنُونُ نَحْنُ وهُمُ اللوْثَةُ. هَلْ نَحْنُ الأقْدَاحُ وَهُمُ الأبَارِيْقُ. أيُّنا الخَمْرةُ و أيُّنَا التَرَنّحُ . لَقَدْ اسْتَطَابَ الجُنُونَ سِتْراً لِمَا لا يُدْرِكُهُ الآخَرُونْ، لِيَسْلُكَ مَايُريدُ مِنْ غَيرِ أَنْ يَمْنَعَهُ عَقلُ النَاسِ. شَاغِلُهُ أَنْ تُدرِكَ لَيلى، وقَدْ أدْرَكَتْ، إنَّمَا الجنُونُ تُقْيةٌ يَتَدَرعَانِ بِها لأجْلِ الخَلوَةِ، لأجْلِ سِرٍ يَسْتَرِقانه وشِعرٍ يَلْبَثَانِ فَيهِ.
ذَهَابٌ غَامِضٌ يَسّْمُتُ كِيانَ قَيسٍ ويَمْنَحُ لَيلى تَكْوِينَها (فَقَدْ جُنَّ مِنْ وَجدِي بِلَيلى جُنُونُها) هِي التِي أسَرَّتْ لِقيسٍ (أنَّ الذي لَكَ عِندي أَكْثَرُ مِنَ الذي لِيَ عِنْدَك)
هَلْ الذي عِنْدَها نَحْسَبُه ضَربَاً مِنَ الجُنُونِ بوَصْفِهِ عِشْقَاً، أو هُو ضَربٌ مِنَ العِشقِ بوصْفِهِ جُنُونَاً. وعَهْدُنَا أنَّ المجْنُونَ لا يَقُولُ ذلك عَنْ نَفْسِهِ، إلا إذا كانَ فِي حِالِ جَبّْهِ النَفِي بِغَرَضِ الإِثْبَاتْ.

**

الطريق الملكية

مَجُنون هُوَ إذا كَانَ ذلكَ يَكْفِيه شَرَّهُمْ. لَكِنَّهُ لم يَكُنْ كَافَّاً ولا كَافِيَاً. فَقَدْ كَانَ العُنْفُ أَكْبَرَ مِنْ ذلكْ. حُجِبَتْ عَنْهُ وأُكرِهَتْ على زَواجٍ عاطِلٍ . حُبِس وعُسِفَ بِه وطُورِدَ مَهدُورَ الدَمِ. وصَارَ الجُنُونُ مَلْجَأ العَقلِ عَمّا يَصِفُونْ. وأكَثَرُ الظَنِّ أنَّ قَيسَاً أسْهَمَ فِي شُيُوعِ جنُونِه فِي غَيرِ مَوْضِع. والذِينَ أرَادُوا سَخّْطَهُ بالجُنُونِ نَقَلُوا عن الكَلْبِيِّ مُحْتَجَّاً بِشِعرٍ فِيِهِ لَـمْحٌ إلى رَدٍ عَلى قَضاءِ الله .

نَقَلَ الأصفهاني خَبَراً مَنْقُوصَاً فَزِدْنَاهُ . عَن رَجُلٍ مِنْ نَجْدٍ يَقْصِدُ الشامَ فَغَسَلَه مَطَرُ الْلَيلِ ذاتَ صَحْرَاء، وصَادَفَ خَيمَةً لَجَأ إلَيها، فَاسْتَقْبَلَهُ رِجَالٌ يَرْعونَ القَافِلَة، بَيْنَهُمْ امْرَأةٌ تَقَدَّمَ بِها العُمْرُ دُونَ أَنْ يَطَالَ حُسْنَها، كَأنَّها تُمْسِكُ بِجَمَالٍ لا يَذْهَبُ بِهِ الوَقْتُ. سَألْتُه عَنْ بَنِي عامِرٍ في نَجْدٍ (أَتَعْرِفُ رَجُلاً فِيهِمْ يُقَالُ لَهُ قَيس ويُلَقَّبُ بِالمَجْنُونْ) قَالَ : (سِرْتُ مَعَ شَخْصٍ رَافَقَهُ فِي شَبَابِه حَتْى أَوقَفَنِي عَلَى مَوْقِعٍ فِي التَوبَادِ أَخْبَرَنِي عَنْ أَبِيهِ أَنَّ قَيسَاً كَانَ يَأنَس الوَحْشَ فِيهِ ولا يَبُوحُ و لا يَصْحُو مِنَ الهَوَى إلا إذا ذُكِرَتْ لَيلى) فبَكَتْ المَرْأةُ حَتْى خَشِيْتُ عَلَيْها. فَقُلتُ (لِـمَ تَبْكِين) قَالَتْ (أنَا لَيلى التِي قَالَ فِيْها قَيسٌ شِعْرَاً عَلَّمَ العَرَبَ العِشقَ) قُلتُ (والجُنونُ؟) قَالَتْ (لَمْ يَكُنْ الجُنُونُ قَط، وإنَّمَا تَمَارَيْتُ فِيهِ عَنِ القَبِيْلَةِ وتَمَاهَى بِه عَنِ السُلطَانْ. جُنُونٌ كَانَ سُنّْدُسُ طَرِيقِنَا المَلَكِيةِ إلى الفَرَادِيسْ. فَمَاذا يَفْعَلُ القَومُ بِنَا ونَحْنُ خَارِجَ المَعْنَى، نَتَلابَسُ مِثْلَ النَصّْلِ والغِمْدِ. بِمِعْزلٍ عَنِ الزَلّةِ والخَلَّةِ. صَوابُهُم يَعْقلُ مَكبُوتَ النَفْسِ وجُنُونُنَا يُطْلِقُ مَكتُوبَ القَلبْ. فَمِنَ النَصِ يَتَبَخّرُ عَسَلُ الغِبْطَةِ كَوَرْدَةِ الجَسَدِ فِي اللَذَّةِ، فَمَا يُضِيْرُ أَنْ يُقَالَ لَكَ مَجْنُونٌ وأَنْتَ فِي حُرِّيَةِ الرُوحْ. جُنِنْتُ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَ ولكنَهُم لا يَعْقِلُونْ. إنَّه والله أَعْقَل مَنْ رَأَيْتُ وأَبْهَى مَنْ اشْتَمَلَتْ عَلَيهِ أنِسيَّةٌ عَلى الأرْضِ أو جِنِيِّةٌ تَحْتَها. فَمَنْ يَقُولُ شِعْراً كَهَذَا لا يَكُونُ والله إلا مَجْنُونَ الفُؤادِ، لكِنَّهُم ذَهَبُوا إلى أبْعَدَ مِنْ ذلِكَ، وقَدْ لَذّ لَنا وأَطابَ مَلْقَانَا مَا ذَهَبُوا وَحْدَهُمْ يَعّمَهُونْ). سَألْتُها (ألا تَزالِينَ عَلَى ذَلكَ الحُب؟) قَالَتْ (كَأنَهُ الآنَ، فَإنَّنِي لَمْ أُصَادِفْ مَنْ يَعْشَقُ مِثْلَهُ ولا مَنْ يُدفِئُ جَسَدِي بِالشِعْرِ مِثْلَمَا كانَ يَفْعَل). قُلْتُ : (والشَّهْوةُ؟)
قَالَتْ : (الشَّهْوةُ مَوجُودَةٌ، لَكِنَّ الآلَةُ مَعْطُوبةْ).

***

قنديل،
يهدي العشيق ويضلل غيره

لَقَدْ شُبِّهَ لَهُمْ، فَثَمَّةَ بَينَ جُنُونِ العَقْلِ وجُنُونِ الفُؤادِ شَسّْعٌ يَسَعُ الشِعْرَ كُلَّهُ والعِشقَ جَمِيْعَهُ. عَقلٌ يَغْلِبُ الذَهبَ، طَارَ يُبَشِّر بِجُنُونِه المَفْؤُدِينَ فِي هَواءِ الجَزيرةِ، يَبَْغَتُ غَلَظَةَ الأكْبَادِ ويُوقِظُ غَفْلَةَ الأفْئِدةِ، يُغَرِّرُ بِالصَبَايَا كَيْ يَكْشِفْنَ قُمْصَانَهُنَّ لِفِتْيانٍ كَادَ الحُبُ أَنْ يَفْتِكَ بِهِمْ وهُمْ يتَدَافَعُونَ بِالمَنَاكِبِ مُوَلَعِينَ في تَهْلكةٍ بِلا رَيْبٍ ولا هَوادَةْ، يَفّْتِنُ النِسَاءَ عَلَى أَزْواجِهِنَّ ويَنْتَصِرُ لِشَرِيْعَةِ العِشْقِ، فَيُصَابُ النَاسُ بِالغِبْطَةِ لِزَفِيرٍ يَْصدُرُ كَبُخَارٍ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ سَاتِرٍ لِيَمْلأَ اللَيلْ، جُنَّ القَومُ وأَخَذَ كُلُّ عاشِقٍ يَقُدُّ قَمِيْصَ اْمْرَأتِهِ مِنْ كُلِّ جانِبٍ ورَاحَتْ كُلُّ امْرأةٍ تَقُودُ النَخْبَ نَحْوَ فَجِّهَا العَمِيقِ مُؤَرْجِحَةً قِنْدِيْلاً مِنَ الزَبَرْجَدِ يَهْدِي العَشِيقَ وَيُضَلِلُ غَيرَه. فَلَمْ يَكُنْ الجُنُونُ. كانَتْ امْرَأةٌ اسْمُها لَيلى، قِيلَ إنَّها جَمِيعُ النِّسَاءِ وقِيلَ عَنْها مَلِكَةٌ من الجِنِّ تَراءَتْ لِشَخْصٍ أَعْطَتْهُ فَأخَذَها. ثُمَ رَاحَ يَتَقَمّصُ القَاطِنَ والمُسَافِرَ، ويَفْضَحُ كُلَّ جَبَانٍ يُخْفِي عشْقَهُ عَنِ امْرَأَتِهِ، وكُلَّ خَاشِيَةٍٍ تَكْتُمُ وَلَعَها بِغَيرِ زَوجِها. صَارَ قَيسٌ فَضِيحَةَ المكانِ، فَطارَ دَمُهُ فِي الأمْصَارِ مَهْدُورَاً تَسْعَى إليهِ السُيُوفُ لِتَفْتِكَ بِه، وَمَا أَنْ تُدْرِكَهُ حتْى تَتَضَرّعَ لَهُ لِئلا يَكُفّ عَنْ ذلكَ ، فَلا يَكُفّ.

***

الفتنة

رَوَى أَبُو الفَرَجٍ الأصفهاني في أغانِيهِ وهُو أَغْزَرُ مَنْ نَقَلَ أخْبَارَ المجْنُونِ،
وأكْثَرُهُمْ نَسْجَاً ونَقْضَاً، كُلَّ مَا يَشْكُلُ عَلَى مَنْ يَسْعَى لِخَبَرٍ كامِلٍ
وحَدَثٍ تامٍّ ونَصٍّ غَير مُضْطَرِبٍ ومَوْقِفٍ يَحُوطُهُ اليَقِينُ،
وفِي هذا دالَّةٌ عَلى أنَّ الرِوَايَةَ لَمْ تَكُنْ تَذْهَبُ إِلى
الخَبَرِ لَكِنْ إِلى النَّصْ، وأنَّ الحَقِيقَةَ فِي
هَذا المَوْقِفِ لَيْسَتْ بِشَيءْ،
فَالرُواةُ يَعْبَثُونَ بِالسِّيرَةِ،
و الأخْبَارُ تَلْهُو بِنَا،
ويَفْتِنُنا الشِعْرُ .

***

إليها من كل مذهب

رُوِيَ عَنْ نَاسٍ نَزَلُوا البِيمَارِسْتَانَاتْ، حَكَوا أنَّ قَيسَاً أُنْزِلَ مَعَهمْ زَمَناً، وكَانَ أَرجَحَهُمْ عَقْلاً وأَصْفَاهُمْ حُجَّةً فِي حَضْرةِ النَطّاسِين. قَالُوا عَنْ سِرٍ أَفْشَاهُ لَهُمْ واسْتَحْلَفَهُمْ أَنْ لا يَبُوحُوا بِه قَبلَ مَوْتِه. فَقَدْ وَجَدَ فِي ثَوبِ الجُنُونِ أجْمَلَ الحُلَلِ وأنْجَاهَا لِكَيْ يَظْفرَ بِلَيْلى، وأَنَّ خَبَرَ الجُنُونِ الذِي شَاعَ عَنْهُ اخْتَلَقَتْهُ القِصَةُ الأولى لِتَمْويهِ شِعْرٍ هَازِلٍ قَالَهُ فِي المَهْدِي والدِ لَيلى فِي الصِبَا. قَالَ (اشْتَكانِي عِنْدَ مَروان بن الحَكَمْ، فَلَفّقَ لِي القِصَةَ شَخْصٌ يَشْتَغِلُ فِي الأدَبِ يُقَالُ لَهُ الأصْمَعِيّ وَراوَقَ فِيها فَأَسْعَفَنِي مِنْ عِقَابِ السُلطَانْ. لكِنَّ المَهْدِي لَمْ يَغْفِرْ لِي ذلكَ. وكانَ الأصْمَعِيُّ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنْ خَبَرِي نَفَى جُنُونِي بِِصيغَةٍ تَنْطَوِي عَلى تَأكِيدٍ نَاجِزٍ، فَأَحْسَنَ إشَاعَتَهُ إلى يَومِنَا هَذا. وظَنِّي أَنَّ جُلَّ مَنْ جَاءَ مِنْ رُواةِ الأخْبَارِ بَعْدَهُ لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَ الجُنُونِ مِنْ دُونِ الأخْبَارِ كُلِها وشَهادةُ الشِعْرِ بَينَ يَدَيْهِ. ولكِنَّهُم وَجَدُوا فِي الجُنُونِ طَبِيعَةً تُخْفِي أَكْثَرَ مِمَّا تُفْصِحْ. وعِندَهُمْ كُلمَا غَمُضَتْ الأخبَارُ زادَ شُيُوعُها وانْسِحَارُ النَاسِ بِها، وَيَقِينِي أَنَّ الأصفهاني نَفْسَّهُ قَدْ اسْتَوثَقَ فِي الأغَانِي مِنْ بُطْلانِ خَبَر الجنُونِ ولكِنَّه أَبْطَنََ ذلكَ لِئَلا يَسْتَهِينَ اللاّْحِقُونَ بِمَا وَضَعَهُ مِنْ تَصَانِيْفْ). ولَمْ يَلْتَفِتْ الرُواةُ لِلتّثبُتِ مِنْ كَلامِ أَهْلِ البِيمارستاناتْ، حَتْى جَاءَ شَيخٌ غامِضُ الزَمَانِ مَجْهُولُ المَكَان يُقالُ لَهُ عبدُالرحمن صَاحِبُ المُلُوكْ واسْتَوْثَقَ مِنَ الأمرْ.

أخْبَرَنا طَيّبُ العُودِ عَنْ ذَبِيحِ الجُنْدِ قَالَ حَدَثَنِي صَاحبُ المُلُوكِ قَالَ كَانَ الرُواةُ، مِنْ حَيْثُ لا يُدْرِكُونْ، يَنْقُضُونَ مَا يَنْسِجُونَهُ مِنْ أَخْبَارِ قَيس بِمَا يَنْقُلُونَهُ مِنْ أَشْعَارِهِ. فَهَذا شِعْرٌ لا يَصْدُرُ عَنْ عَقلٍ فَارِطٍ، بَلْ يَنُمّ عَنْ سَلِيْقَةٍ صَافِيَةٍ وذِهْنٍ مُتَيَقِظٍٍ وذائِقَةٍ مُتَرَقِيَةٍ ويَشِفُ عَنْ مخَيلَةٍ غَايَة فِي الجَمَالِ والطَرافَةِ، فَلَيسَ فِي النَّصِّ اخْتِلاطٌ ولا هُلاَسٌ مِمّا يَطْبَعُ سُلُوكَ فَارِطِي العَقْلِ. وهَذا مَا يُرَجِّحُ بِأنَّ الجُنُونَ الذي نُسِبَ إلى قَيسٍ رُبَمَا كانَ ضَرْبَاً مِنْ مِيزَانٍ تَضْطَرِبُ فِيه الصِلَةُ بَينَ أَخْبَارٍ مُتَناقِضَةٍ تُعْرِضُ عَنْها بَدِيْهَةُ النَاسِ، وتَصْوِيرٍ واضِحٍ صَقِيلٍ يَسْتَحْوِذُ عَلى خَيالِهمْ بِشِعْرٍ يَفْتنُهمْ. وسَوفَ يَزْدَادُ الخَبَرُ خَلَلاً ويَتَهاوَى ويَسْقُطُ عِنْدَمَا نَتَأمَلُ نَقِيضَةً تَظْهَرُ لَنا بَينَ القَوْلِ بِهَدْرِ دَم قَيسٍ وبَينَ خَبَرِ الجُنُونِ هذا، فَالمَعْلُومُ أنَّ هَدْرَ الدَمِ لا يَجْرِي إلا عَلى الأسْوِيَاء الخَارِجِينَ عَنِ العُرْفِ مِنَ المُجْرِمِين وقُطّاعِ الطُرُقِ الذِيْنَ هُمُ فِي الأَغْلَبِ شَارِدونَ مُطَارَدونَ يَطْلُبُهُم القَانُونُ ويَسْعَى إِلَيْهِمْ صَاحِبُ الثَأْرِ وصَائِدُ الجَوائِزْ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ قَيسٌ مَهْدُورَ الدَمِ وهُو فِي حَالٍ لا تُؤَهِلُهُ لِوَعْي مَا يَفْعَلُ وَتحَمُّلهِ. وظَنِّي أَنَّ الأسْطُورَةَ التِي أَرَادَ الرُواةُ إنْفاذَهَا فِي قَصَصِ العَرَبِ عَنْ قَيسٍ لَمْ تَلْبَثْ أَنْ خَرَجَتْ عَنْ سَطْوَتِهمْ واتَّخَذَتْ مِنَ المَسَارَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الحِسْبَانِ، لِيُصْبِحَ قَيسٌ حُرّاً بِجُنُونِهِ، لَيسَ مِنْ سَطْوَةِ السُلْطَانِ والقَبِيلَةِ فَحَسْبْ، ولَكِنْ خُصُوْصَاً مِنَ الحُدُودِ التِي اخْتَلَقَها لَهُ الرُواةُ. وإِنَّنَا نَرَاهُ مَايَزالُ يُمْعِنُ فِي هَذا الخُرُوجِ والتَّفَلُّتِ.

وإِذا كَانَ قَيسٌ يَنْشُزُ فِي سُلُوكِه ويُوحِشُ ويَبْدُو عَلَى شَيءٍ مِنَ الغَرَابَةِ، فَهَذَا مِنْ طَبِيعَة الشُعَراءِ والعُشَاقْ، فَيُقْبَلُ مِنْهُم بِإعْتِبَارِهِمْ يَتْبَعُونَ مَا تُمْلِيهِ عَلَيهِمْ مُخَيلَتُهُم فَيَشْطَحُونَ ويَذْهَبُونَ إلى الفِتْنَةِ كَلَّ مَذْهَبْ.

***

الحب أبواب

الحب أبوابٌ ، عَبَرَها قَيسٌ كُلَّها، ونَحْنُ فِي العَتَبَةْ.
بابُ المَوَدّة : قَمِيصُكَ الأثَيرُ كُلَّمَا تَهَيَّأتَ لِلعِيدْ. فَرّْوُ الهَواءِ يَلْثُمُكَ فَتَأْلَفْ. كَأنَّها الطُفُولَةُ عَنْ كَثَبٍ. تَشّْخَصُ إِليهِ كُلَّما لَمَحْت ظِلَهُ. وتَأنَسْ.

بابُ الشَوقْ : يَلِجُ بِكَ مَوْجَ اللَيلِ مِثْلَ قَارِبٍ غَرِيبْ. تُحْسِنُ العَوْمَ فَتَغْرَقْ. شُغْلٌ عَنْ السِوَى. وَحْدَهُ لَكَ . وَرْدَةُ الجَمْرِ تَزْدَهِرُ كُلَّما هَبّتْ الرِيحُ.

بابُ الوَلَعْ : زَفِيرُ الجَنَّةِ . وَقْتٌ مِنَ السِحْرِ فِي الرُوحِ. لَيْسَ إلاّ هُوَ. نَوْمٌ مُهَلْهَلٌ وَحُلمٌ نِصْفُ مَوْجُودْ. تَطِيرُ فِي الرِيشِ والجَنَاحِ ولا تَهْجَعْ.

بابُ الهَيامْ : يَمُضُّكَ فَتَصّْفُو مِثْلَ نَيلَجٍ وَتَشُفُّ. عَقْلٌ رَقِيقٌ وَجُنُونٌ شَاهِقْ. وَحْدَكَ لَهُ. تَتَذَكَّرُ وتَنْسَى ولا تَعُودْ . تَتّْرَفُ فِي بَهْجَةِ الحَواسْ.

بابُ الشَّهْوَةْ : عُرْسُ أخْلاطٍ. هَلَعٌ فِي العَناصِرِ. جَحيمٌ وجَنَّةٌ ومابَيْنَهُما. وَحْدَكُما. تَخْتَلِجُ فِي الغِيَابِ والحَضْرَةِ . داءٌ بِلا دَوَاءْ. كُلُّه ولا يَكْفِي.

**

المشبوقة

رُوِيَ عَنْ أَبِي أَنْمَارٍ ابراهيمُ بن عبدالله أنَّهُ وَقَعَ عَلى أَبْيَاتٍ لِقَيسٍ عَدَّها وَصْفاً صَرِيحَاً بَائِحَاً لِكُنْهِ تِلكَ العِلاقَةِ الحَمِيمَةِ، حَتى أَنَّ أبا أنمار الذِي عُرِفَ بِذائِقَةٍ رَهِيفَةٍ فِي قِراءَةِ ذَلكَ الشِعْر بِوَهْجِ الشَهْوَةِ وسَبْرِهِ بِمِثْقَالِ القَلبْ، اعتَبَرَ هذِهِ الأبْيَات مِنْ الأَجْمَلِ مِمْا صُوِّرَ في الحُبْ
(فان كان فيكم بعل ليلى فإنني
وذي العرش قد قبلت فاها ثمانيا
و أشهد عند الله أني رأيتها
وعشرون منها إصبعا من ورائيا)

وأَسْهَبَ أبو أنمار عَلى غَيرِ عَادَتِهْ قَال ْ (وَمَا عَلَيْنَا إِلا أَنْ نَتَخَيَلَ العِشْرِيْنَ إصْبَعَاً مِنْ لَيلى مُشْتَبِكَةً فِي ظَهْرِ قَيسٍ وهِِي مُتَعَلِّقَةٌ بِه قُبْلاً فِي حَضْنِها، لِنُدْرِكَ أَنَّهُمِا ما كانا يُزْجِيَانَ الوَقْتَ فِي البُكاءِ والعَوِيلِ كُلَّمَا سَنَحَتْ الفُرْصَةُ، مِثْلَمَا تُحَاوِلُ الرُوايَاتُ المُتَواتِرَةُ أَنْ تَزْعُمَ لَنا). اسْتَنْكَرَ بَعْضُهُمْ الذَهَابَ إلى هَذَا المَعْنَى، واعْتَبَرُوهُ مَسَّاً بالمحَرَّمِ وتباعُداً عَمَّـا يَشِيعُ فِي شِعْرِ المَجْنُونْ. وحِينَ يُقالُ لَهُمْ (ومَا المَقْصُودُ بالمحَرَّمِ يا سَادَةْ) يَحْتَجُونَ بِمَا ذَكَرَهُ إبْنُ الجَوْزِيِّةِ فِي أَخْبَارِهِ عَنِ النِسْاء حَيْثُ ( زَعَمَ بَعْضُهُم أَنَّ لِلعَشِيقِ مِنْ جَسَدِ العَشِيقَةِ نِصْفَها الأَعَلَى مِنْ سُرَّتِها فَمَا فَوقْ يَنَالُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ مِنْ ضَمٍِّ وتَقْبِيْلٍ ورَشّْفٍ، عَلى أََنْ يَكُوْنَ النِصْفُ الأخَرُ لِلزَّوْجِ) وهذا مِمَّا تَعَارَفَ عَلَيِه عَرَبٌ سَبَقُوا الإسْلام. وقِيلَ إِنَّ جَارَاتٍ لِلَيلى حَلّفْنَها أَنْ تَقُولَ لَهُنَّ عَنْ شَأنِها مَعَ قَيس، ومَا إِذا كَانَ يَقِفُ عِندَ النِصْفِ. فَقالَتْ لَهُنَّ ( أَلَمْ تُسَمّينَهُ المجنُون، إنَّكُنَّ لا تَعْرِفْنَّ العُشْرَ مِمّا خَبَرْتُه، إلا إذا كانَ ثَمَةَ مَجَانِينَ آخَرينَ عَلى شَاكِلَتِهِ).
واسْتَزَدْنَها فَزادَتْ (فِي تِلكَ السَاعَةِ تَفْلِتُ الأَزِمَّةُ والأَعِنَّةُ ولا تَكُونُ القِيَادَةُ مَحْصُورَةً فِي واحِدٍ ولا يَقْدِرُ علَيها إثْنَانِ ولا يَعُودُ لِلحُدِودِ مَعنَىً فَالغَيمُ نَازِلٌ يَمْسَحُ العَلامَاتِ والملامِحَ ولا يُسْعِفُ البَصَرُ ولا البَصِيرَةُ وتَبْدَأُ حَواسٌ لا حَصْرَ لَها فِي الشُغُلِ حَيثُ لا نَكادُ نَعْرِفُ هَلْ نَحْنُ فِي حُلُمٍ أمْ إنَّنَا الحُلمُ الخالِصُ والذِينَ وَضَعُوا أَسْطِرْلابَاً لِوَقتِ الحُبِ وشَكْلِه فَاتَهُمْ أََنْ يُفّْصِحُوا لَنا أَيَّ النِصْفَينِ يَكُونُ حَلاَلاً مُبَاحَاً لِلْحَبِيبَة فِي جَسَدِ الحَبِيْبِ فَفِي تِلكَ السَاعَةِ لا نَعْرِفُ أَيَّنا يُشْعِلُ جَسَدَ الأخَرَ وأيَّنا يُطْفِئُهُ، أيَّنَا الجَمْرُ وأيَّنَا الهَواءْ.

***

كلام بن وحش

يُرْوى أَنَّ قَيسَاً كانَ يَخْتَلِفُ إلى فَقِيهٍ يُقَالُ لَهُ (كَلامٌ بنُ وَحْش) ، يَسْتَفْتِيهِ فِي مَا يَأخُذُ النَاسُ عَليهِ. فَعِنْدَما كَثُرَتْ الأقَاوِيلُ عَنْ صِلَتِه بِليلى، وَقَفَ عَلى (كَلامٍ)
واسْتَفْتاهُ فِي مَا يَزْعَمُونَ بِأنَّ عِلاقَتَهُما ضَرْبٌ مِنَ الزِنَى، فَقَالَ لَهُ (الزِنَى هُو بَذلُ جَسَدِكَ لِمَنْ لا تُحِبْ، أَمَّا إِذا العِشْقُ حَصَل والشَوْقُ اتْصَلْ فَلا زِنَى فِيمَا قَدَّرَ اللهُ).
وقِيلَ إَنَّ (كَلامَاً) مَالَ عَلى قَيسٍ وأسَرَّ لَهُ (يَا بُنَيَّ، إِعْشَقْ ما تَيَسَّرَ لَكَ وتَمَتّعْ بِمَا تَسَنّى ولا تُطْفِئ جَذْوَةَ العِشّقِ بِالعُرْسِ مَا اسْتَطَعْت). قِيلَ فَلَمْ يَفْعَلْ المجنونُ غَيرَ ذلِك.

**

الضحك

رُويَ عن شَيخٍ يُدْعَى عَبدُالقَدِيرِ بنُ صَالِح بنُ عَقِيلْ وهُوَ مُوْلَعٌ باسْتِنْشاءِ أَخْبَارِ مَنْ جُنُّوا عِشْقَاً أَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُالحَمِيدِ قَائِدُ التَراجِمِ وهُو غَيرُ ذِي ثِقَةٍ عن شيخنا أَبي صَلاحٍ خَلَف الغَسّانِيِّ أَنَّهُ قَالَ عَنْ أَبي أَنْمارِ إبْراهِيمُ بنُ عَبدُاللهِ نَزِيلِ البِيمارسْتَان، حَدّثَ قَالَ عَنْ شَخْصٍ لَمْ يُفْصِحْ لَنا عَنْ اسْمِه فَلَمْ نَهْتَمّ، قَالَ (صَـدَفَ أَنْ مَرَرْتُ عَلى مَوْقِعٍ بَينَ خِيامِ قَيس ونَخْلٍ لأهلِ لَيلى، وكُنْتُ فِي لَيلٍ مِنَ الصَيْفِ، فَإذا بِي أَسْمَعُ ضَحِكَاً عَلى مَبْعَدَةٍ، وكُنْتُ كُلَّمَا حَثَثْتُ سَيْرِيَ اتَّضَحَ الضَحِكُ وخَالَطَهُ نَشِيجٌ يَسْتَوْقِفُ السَامِعَ. وحِينَ قَارَبْتُ المَوْرِد شَفَّ فِي الضَحِكِ مُجُوْنٌ. فَمَا أدْرَكتُ المَكَانَ حَتْى رَأَيْتُ أَنَّ الضَاحِكَ هُوَ قَيسٌ بنُ الملوّحِ مِنْ بَنِي عَامِر، وكَانَ وَحْدَهُ جَالِسَاً عَلى الأرْضِ وهُوَ يَغْرَقُ فِي قَهْقَهْاتٍ مُتَواصِلَةٍ مَا إنْ تَنْتَهِي دَفْقَةٌ وَيَسْتَرِدَ أَنْفَاسَهُ نَاشِجَاً شَاهِقَاً لابِطَاً بِذِراعَيْهِ وساقَيْهِ فِي الرَمْلِ حَتْى تَتَخْطَّفُهُ انْدِفَاقَةٌ أُخْرَى. فَلَمْ أُصَدِّقَ النَظَرَ لِوَهْلَةٍ ، فَلَيسَ قَيْسٌ الذِي يَفْعَلُ ذَلكْ، وهُو الذِي لَمْ نَرَهُ مُبْتَسِمَاً قَطْ. فَدَنَوْتُ مِنْهُ أُحَدِّقُ فِيهِ وهُوَ عَنِيَ مَشْغُولْ، وكُلَّما هَدَأَ لَحْظَةً بَدَا كَمَنْ يَتَأمَّلُ شَيْئَاً فِي ذَهْنِهِ سُرّْعَانَ مَاتجْتَاحُه نَوْبَةٌ جَدِيْدَةٌ مِنَ الضَحِكِ الماجِنِ المُجَلْجِلِ الذي جَعَلَهُ لا يَعْبَأُ بِمَا حَوْلَه. فَشَكَكْتُ أَنَّ مَجْنُونَ بَنِي عَامِرٍ قَدْ جُنَّ، ثُمَّ اسْتَدْرَكْت (لكنْ كَيْفَ ذلكْ، فَهُوَ مَجْنُونٌ في الأًصْل؟) ومَكَثْتُ بُرْهَةً أتَثَبْتُ مِنْ أَمْرِي لِئَلا أَكُونَ فِي ضَغْثِ الأحْلامِ أَو خَيالاتِ الدُرُوبِ المُوحِشَةْ، إلا أَنَّ قَيسَاً لَمْ يَمْلكْ مَا أَطْلُبُ (أَجِبْنِي يَا رَجُلْ، هَلْ أنْتَ قَيسُ بنُ الملوحِ صَاحِبُ لَيلى العَامِرّيِةْ؟) فَشَِرقَ بِنَوْبَةِ ضَحِكٍ تَغَرْغَرَ بِها وهُوَ يَتَأرْجَحُ ويَتَطَوَّحُ عَلى الرَمْلِ مُحَاوِلاً إِدْرَاكَ نَفْسِهُ مُلْتَفِتَاً إليَّ بِغَيرِ هِمَّةٍ (عَسَى أَنْ أَكُونَ كَذلكَ واللهُ أَعْلَمْ) ولَمْ يُكْمِلْ لأنَّ نَوْبَةً جَدِيدَةً قَدْ خَطَفَتْهُ مِنْ نَفْسِهِ فَهَبَّ عَلى قَدَمَيهِ مُبْتَعِدَاً وضَحِكَاتُهُ نَواقِيس تُصَدِّعُ اللَيل ولم يَكْتَرِث بِسُؤالى لَهُ عَمّا يَدْفَعَهُ لِكُلِ هذا الضَحِكْ. فَتَرَكَنِي فِي ذُهُولِِ مَنْ لا يُصَدِّقُ مَا يَراهُ رَأيَ العَينْ، فَأمْسَكْتُ بِأَطْرافِي ورَكَضْتُ دَاعِيَاً الخِيامَ (قُومُوا انْظُرُوا مَا حَلّ بِقَيس مِنَ العَجَبِ، فَقَدْ ضَحِكَ).
قَالَ فَلَمْ يَصدقْنِي أَحَدٌ. وتَجَمَّعُوا حَوْلِيَ يَهْرُجُونَ، وفِيمَا كُنْتُ أُقْسِمُ لَهُمْ بِالغَلِيظِ عَلى مَارَأَيتُه، إذا بِأصْداء الضَحِكاتِ ذاتِها تَتَناهَى إلى الجَمْع، واقْتَرَبَ الشَخْصُ فَإذا هو قَيسُ بن الملوّح ما غَيْرُه. فَأحاطُوا بِه يَسْتَفْصِحُوَنَ حالَهُ وهو في الشطح (والله لا أعْرِفُ كَيْفَ أنَّنِي لَمْ أفْعَلْ هذا عَلى هذا مِنْ قَبْلُ وَمَا يَحْدُثُ يَحْدُثُ مُنْذُ أنْ تَوَلْعَتُُ بِها وتَدَلّهْتُ، ياألله ياألله أَدِمْ هذا عَلى هذا إلى يَومِ الدِينْ)
ثُمَ ابْتَعَدَ دُونَ أنْ يَنْجَلِي أمْرُهْ. واخْتَلَفَ الرُواةُ فِي تَفْسِير ذلكَ. رَوَى أَحَدُهُمْ أَنَّه جَلَسَ إِلى المجْنُونِ فِي غَفْلَةٍ مِنْ غَفَلاتِهِ وعَرفَ مِنْهُ سَبَبَ الواقِعَةِ، وهو أَنَّ قَيسَاً كانَ يَسّْهَرُ مَعَ ليلى في خِبَائِها، وبَعْدَ أَنْ فَرَغَا خَرَجَ مُتَوَجِهاً إلى قَوْمِهِ فِي الجِهَةِ الأخْرى مِنَ الوادِي، وما أَنْ دَخَلَََ خَيمَتَهُ حَتْى رَأى مَا أذْهَلَهُ، فَقَدْ كانَتْ لَيلى جَالِسَةً عَلى بِسَاطِهِ. قَالَ (فَخَرَجْتُ عَائِداً مِثْلَ المجْنُونِ إلى خِبَاءِ لَيلى واقْتَحَمْتُه مِثْلَ الإعْصَارِ لِكَيْ أَتَيَقَّنَ مِمّْا رَأيْتُ هُناكَ ويَا أعْجَبَ مَا رَأيْتُ فَقَدْ كانَتْ لَيلى هُنا فِي خِبائِها لَمْ تَزَلْ تُصْلِحُ مِنْ شَأنِها بَعْدَ خلوَتِنا وقَفَلْتُ بِلا إِبْطاءٍ عائِداً إِلى خيمتي وإذا لَيلى هُناك أيْضَاً وعُدْتُ رَاجِعَاً إلى خِبَاءِ لَيلى فَإذا هِيَ هُنا وعُدْتُ إلى خيمتي فَإذا لَيلى هُناك ولَمْ أَزَلْ عَلى هذا الحَالِ مِنْ هُنا إلى هُناكَ أكْثَرَ مِنْ تِسْع مَرّْاتٍ ولَيلى فِي المَكَانَينِ حَتْى أوْشَكْتُ أنْ أخْتَبِلَ بَينَ مُصَدِّقٍ مَارَأيْتُ وبَينَ مُكذّبٍ مَا تَمَنَيْتُ واحْتَرْتُ مَا أَحْسَبُ هذا الذي أراهُ فَمَا وَجَدْتُ نَفْسِي إلا وأنَا أسْتَغْرِقُ فِي حَالٍ لَمْ أُصَادِفْهُ مِنْ قَبْلْ فَقَدْ تَفَجّرَتْ الأجْراسُ مِنْ أشْداقِي كعَين مَاءٍ مَكْسُورَةِ الخَتْمِ تَوّْاً وَوََعَيْتُ بَعْدَ حِينٍ عَلَى صَوْتٍ آدَمِيٍّ يَسْألُ : (لماذا تَضْحَكُ؟) وعَرِفْتُ سَاعَتَها أنَّها الحَالُ التِي انْتابَتْنِي ولَمْ يَنْقُلْها الرُواةُ عَنِي فِي مُجْمَلِ أَخْبَارِهِم. ولا أُخْفِيْكَ فَقَدْ كانَ وُقُوعِي فِي الضَحِكِ أجْمَلَ شَيْئٍ أَحْبَبْتُهُ بَعدَ عُشْقِي لِلَيلى. قِيلَ، فَلَمّا سَمِعَ رُواةُ أخْبَارِ المجنُونِ خَبَرَ الضَحِكِ أنْكَرُوهُ، وحُجَّتُهُمْ فِي ذلِكَ أَنَّ صُوْرَةَ قَيسٍ فِي الأخْبَارِ جَمِيعِها واحِدَةٌ لا تَتَغَيْرُ ولَيْسَ لَها أَنْ تَتَغَيْرْ، فَالعِشْقُ الذي أَصَابَ قَيسَاً لا يُتِيْحُ لِمِثْلهُ أنْ يَعْرِفَ الإبتِسَامَ، فَكَيْفَ لَهُ أَنْ يَضْحَكَ ويُقَهْقِهَ ويَمْجُنَ هَكَذا. وأَوَشَكَ هؤُلاءُ أَنْ يَعْتَبِرُوا تِلكَ الحادِثَةَ دَسَّاً فِي سِيْرَةِ المَجْنُونِ وخَدْشَاً لِصَوْرَتِه الرَزِيْنَةِ الكَئِيبَةِ التِي عَرَفَهُ بِها الناسُ. وأجْمَعَ الرُواةُ المُقَلَدَونَ ومَعَهُمْ المُقَلِّدِونَ عَلى أنَّ القَولَ بِوُقُوْعِ قَيسٍ فِي الضَحِكِ ضَرْبٌ مِنَ الخِفَّةِ والتَخْلِيطْ، وإذا كَانَ أَبوأنْمارٍ هذا قَدْ زَعمَ الواقِعَةَ، فَإنَّ نُزُوله البِيمارستان يُفَسّرُ لَنا مَا يَهْرِف بِه. أَمَا نَحْنُ فَقَدْ وَجَدْنَا فِي رِوايَاتِ هذِه الكَوْكَبِةِ شَيْئَاً نَثِقُ فِيهِ دُونَ تَلَبّثٍ، بِرُغْم غَلَبَة الشَّك فِيه حَد الكَذِبْ، تَيَمُّنًا بِما قالَ قيسٌ ذاتَ شِعرٍ (إذ بَعْضُ المُحْبِينِ يَكْذُبُ) فَفِي هذِه الكَوْكَبَةِ مِنَ النَصِّ أكثَرُ مِمّا فِيها مِنَ الخَبَرْ.

***

الحجة

قِيلَ لَهُ يا قَيس أَِفقْ فَقَدْ أفاقَ العَاشِقُونَ (لَكِنَّه لمْ يَفْعَلْ) وسَكَنَتْ نَارُ قُلُوبِهم (لَكِنَّه لَمْ يَفْعَلْ) وهَدَأَ جَزَعُ المُحِبِينَ (لَكِنَّه لَمْ يَفْعَلْ) وأَوْشَكَ مَنْ انْشَغَلَ بِالنِساءِ عَلى السَّأمِ (لَكِنَّه لَمْ يَفْعَلْ) ورَجعَ الذِينَ أفْرَطُوا فِي الوَلَعِ (لَكِنَّه لَمْ يَفْعَلْ) وسَلا المُتَيَمُوْنَ (لَكِنَّه لَمْ يَفْعَلْ) وانْثَنى المُوْغِلُونَ فِي غَيِّهِمْ (لَكِنَّه لَمْ يَفْعَلْ) وتَابَ المُخْطِئُونَ (لَكِنَّه لَمْ يَفْعَلْ). وحَسَناً فعَلْ. فَلَو فَعَلَ شَيْئَاً مِنْ ذلِكَ لَمْ يَبْقَ لَنا عُذْرٌ نَحْتَجُّ بِهِ عَلى مَنْ يَلُومُنا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.

***

قنديل الشك

وقِيلَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي عَامِر (هَلْ تَعْرِفُونَ فِيْكُمُ المجْنُونَ الذي قَتَلَهُ العِشْقُ) فَقالَ : (هذا بَاطِلٌ ،إِنَما يَقْتُلُ العِشْقُ ضِعَافَ القُلوب وإِذا صَحَّ أَنَّ قَيسَاً قَدْ قَضى قَتِيلاً فَلَيسَ الحُبُ هُو الذي فَعَلَ، فَثَمَّة مَنْ فَعَلَ ذلِكَ) واسْتِنْكارُ العَامِرِيِّ هذا هُو قِنْدِيلُنَا فِي شَكٍّ يُخالِطُ أَفْئِدَتَنا، فَمَا تَعَرَّضَ لَهُ قَيسٌ هو عَسْفٌ بَيِّنٌ يُؤدِي إلى القَتْلِ العَمْدْ. فقَدْ كانَ قَيس مَرْصُوداً مِنْ كُلِّ فَجٍّ، ولَهُ مِنَ الأعْداءِ َما يَكْفُونَهُ عَنِ انْتِظَار قَضَاءِ اللهِ طَوِيْلاً. و رَوَى صَاحِبُ الأغْانِي أَنَّ لِقَيسٍ أَخَوَينِ مِنْ أَبِيهِ، وهُو اشْتُهِرَ مِنْ بَينِهمْ بِالعِشْقِ والشِعْرِ وحُسْنِ السِيرَةِ. وكَانَ أَصْغَرَهُمْ عُمْراً وأَعْلاهُمْ هِمّةً وأَرْفَعَهُمْ قَدْراً. تَطِيْبُ لَه العُزْلَةُ، أَنِسَ إِلى الوَحْشِ بَعْدَ أَنْ فَقَدَ الأُنْسَ فِي النَاسْ. ورُوِيَ عَنْ أَبِيه قَالَ (واللهَ إنَّهُ كانَ آثَرَ عِندِي مِنْ أخوَيه) فَهُوَ بَينَ الفِتيانِ (أجْمَلُهُمْ طَلْعَةً وأَفْتَاهُم وأَفْصَحُهُمْ وأَظَرَفُهُم وأَرْواهُم لأشْعارِ العَرَبْ. يَفِيضُونَ فِي الحَدِيثِ فَيكُونُ أَحْسَنَهُم إِفاضَةً، بَاهَيْتُ بِه ولَمْ أَزَلْ). وقَدْ أوْرَثَتْ هذِه الأثَرةُ فِي أخوَيه حَسَداً تَحَوَّلَ حِقداً بَعْدَ ذِيُوعِ شِعْره وعِشقِه. فَراحُوا يَكِيْدُونَ لَه مَعَ مُخَاصِمِيهِ ويَسْتَعْدُونَ السُلطَانَ عَلَيه، أَمَّا الذِي كانَ مِنْ أَصْلِ جَهامَةَ قَومِ لَيلى فِي شَأنِ قَيس، أَنَّهم كانُوا لا يَرَوْنَ فِيهِ ما يَرْقَى لأَنْ يَنَالَ مِنْهُمْ بِزَواجِهِ مِنْ ابْنَتِهِمْ وهُمُ مَنْ هُمْ، فَقَدْ كانُوا مِنْ أَصْحَابِ الجَمْعِ والمَنْعِ فِي القَومْ، وهذا مَا لَمْ يَعْبَأ بِهِ قَيسٌ ولَمْ يَكْتَرِثْ، وهو يُمْعِنُ لَهْواً مَعَ لَيلى فِي الطُفُولَةِ وشَغَفَاً بِها فِي الصِبَا والتَغَزُلَ بِها مُنْذُ أشْتَهَتْ واشْتَعَلَ الحُبُ في الدَمْ، الأمْرُ الذِي أَوْرَثَ فِي كَيَانِهمْ الخُرُوقَ وهَلهَلَ صِيتَهُمْ فِي البَادِيَةْ. وقِيل أَنَّ قَيسَاً لما تَمَكَنَ مِنْه العِشّقُ وعَظُمَ رَفْضُ المهدِي لَه، كانَ يَخْرُجُ في القَبائِلِ مُعْلِنَاً حُبَهُ مُسْتَثِيرَاً النَاسَ عَلى الظَلَمَةِ الذِينَ لا يُقِيْمُونَ لِلحُبِ قَدْرَاً ولا يُقَدِمُونَهُ عَلى تِجَارَتِهمْ مَنْزِلَةً، فَضَجّ بِهِ المهْديُّ ورَهْطُه وسَعُوا إلى إثارِة سُلطَةِ الدِينِ عَليْه طَاعِنِينَ فِي إسْلامِهْ.

**

أبداً .. أو يموت

ويَرْوِي صَاحِبُ الأغَانِي أَنَّ قَيسَاً (تَرَكَ الصَلاة، فَإذا قِيلَ لَهُ مَا لَكَ لا تُصَلِّي؟ لَمْ يَردَّ حَرْفَاً، وكُنا نَحْبِسُه ونُقَيِّدُهُ، فَيَعُضُ لِسانَهُ وشَفَتيَه، حَتْى خَشِينا عَلَيهِ فَخَلْينا سَبِيلَه يَهِيمْ). وبَعْضُهُمْ احْتَجَّ عَلَيه فِي دِينِه بِشِعْرٍ لَهُ. فَنُودِيَ فِيهِ (أَنْتَ المُتَسَخِّطُ لِقَضَاء الله والمُعْتَرِضُ فِي أَحْكامِه). وأَخَذُوا عَليهِ ما فَعَلَه فِي الكَعْبَةِ مِنْ دُعَاءِ العِشقِ وتَفْضِيله نَسِيمَ الصَبَا وهُوَ فِي حَضْرَةِ قَبرِ الرسولْ. ويُضِيفُ صَاحِبُ الأغَاني، إلى مَا نُرِيدْ، أَنَّ أَهْلَ لَيلى أَعْلَنُوا بَألا يَدْخُل المجْنُونُ مَنَازِلَهمْ أَبدَاً أَو يَمُوتْ فَقَدْ أَهْدَرَ لَهُمْ السُلطانُ دَمَهُ. وتَخْتَلِطُ مَقَالَةُ الوُشَاةِ ووَعِيدُ الأمِيرِ بِرَغَباتٍ شَتى فِي إتْلافِ قَيسٍ إِتْلافَاً بِحُجَةِ الخُرُوجِ عَنِ العُرْفِ تَارَةً والطَعْنِ فِي الدِينِ تَارَةً وعَلاقَتِهِ بِلَيلى أَكْثَرَ الأحْيانْ. فَاجْتَمَعُوا عَلَيهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، يَحْبِسُونَ لَيلى فِي زَوجِها مِنْ جِهَةٍ ويُضَيِّقُونَ عَلَيهِ خِنَاقَ العَزْلِ فِي الوَحْشِ مِنْ جِهَةٍ . واسْتطَالَ بِهِ المُقامُ فِي الوَحْشِ هَرَبَاً مِنْ بَطْشِ السُلْطانِ وتَخَفِّيَاً بِلَيلى التَي كانَتْ تَسْرِي إِلَيهِ فِي الغَفْلَةِ بَينَ وَقْتٍ وآَخَر. قِيلَ ثُمَّ انْقَطَعَتْ أَخْبارُهُ أَيَامَاَ، وإِذا بِأَحَدِهِمْ يَتَعَثَّرُ بِجُثَّتِهِ فِي وادٍ غَيرِ ذِي زَرْعٍ كَثِيرِ الحِجَارَةِ، وهُوَ مَيِّتٌ بَينَ الأحْجَارِ مَشْدُوخُ الرَأْسِ دِماغُهُ مَنْتَثِر مِنْ حَوْلِهِ مَضْرُوبُ الأعْضَاءِ مَحْزُوزُ النَّحْرِ و دَمُهُ كانَ لا يَزَالُ يَنْزِفُ مِثْلَ غَدِيرٍ صَغِيرٍ تَقِفُ عَلَيهِ ظَبْيَةٌ تَنْهَلُ مِنْ قُرْمُزِهِ وتُظَلِلُ جَسَدَهُ مِنْ هَجِيرِ الشَمْسْ.
قِيْلَ ولَمْ تَبْقَ فَتاةٌ فِي البَوادِي والحَضَرِ إِلا وخَرَجَتْ حَاسِرَةًَ صَارِخَةً نَادِبَةً، واجْتَمَعَ الفِتْيانُ يَبْكُونَ ويَنْشِجُونْ، وحَضَرَ آَهْلُ لَيلى مُعَزِّينَ مَعَهُمْ المهدي جَزِعَاً (لَقَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ، ولا ذَنْبَ لِي فِيْمَا أَصَابَهُ، اللّهُمَ لا غُفْرانَ لِمَنْ دَفَعَ بِنَا إلى هَذِهِ الخاتِمَةْ).
قِيلَ فَما رُوئِيَ يَومٌ كَانَ أَكْثَرَ بَاكِيَةً وبَاكِيَاً عَلى مَيِّت مثل ذلك اليوم .

**

قل هو الحب

قُلْ هُوَ الحُبُ
هَوَاءٌ سَيِّدٌ ، و زُجَاجٌ يَفْضَحُ الرُوحَ وتَرْتِيلُ يَمَامْ.
قُلْ هُوَ الحُبُ
ولا تُصْغِي لِغَيرِ القَلْبِ،
لا تَأخُذُكَ الغَفْلَةُ،
لا يَنْتابُكَ الخَوْفُ عَلى مَاءِ الكَلامْ.
قُلْ لَهُمْ فِي بُرْهَةٍ
بَينَ كِتابِ اللهِ والشَّهْوَةِ
تَنْسَابُ وَصَايَاكَ
ويَنْهالُ سَدِيمُ الخَلْقِ فِي نَارِ الخِيامْ.
قُلْ لَهُمْ،
فِيْمَا يَنَامُوْنَ عَلى أَحْلامِهمْ،
سَتَرى فِي نَرْجِسِ الصَحْراءِ
فِي تَرْنِيْمَةِ العُوْدِ وغَيمِ الشِعرِ سَرْدَاً وانْهِدَامْ.

قُلْ هُوَ الحُبُ
و مَا يَنْهارُ يَنْهارُ، فَمَا بَعْدَ العَرَارْ
غَيْرُ مَجْهُوْلِ الصَحَارَى وتَفاصِيلِ الفَرَارْ.
غَيرُ تَاجِ الرَمْلِ مَخْلُوْعَاً عَلى أَقْدَامِنَا،
والذِي يَبْقَى لَنَا تَقْرؤُهُ عَينُ الغُبَارْ.
والذِي لا يَنْتَهِي ،لا يَنْتَهِي.
مثلَ سرّ الموتِ
والبَاقِي لَنَا مَحْضُ انْتِحَارْ.

قُلْ هُوَ الحُبُ
طَرِيْقٌ مَلَكٌ نَبْكِي لَهُ ، نَبْكِي عَلَيهْ.
لَوْ لَنا فِي جَنَّةِ الأرْضِ رُواقٌ واحِدٌ.
لَوْ لَنا تُفْاحَةُ اللهِ جَثَوْنَا فِي يَدَيهْ.
كُلَّمَا أَفْضَى لَنَا سِراً أَلفْنَاهُ
ومَجَّدْنَا لَهُ الحُبَّ
و أَسْرَيْنا إِليهْ،

قُلْ هُوَ الحُبُ
كَأَنَّ اللهَ لا يَحْنُوْ عَلى غَيْرِكَ
لا يَسْمَعُ إِلاَّكَ،
ولا فِي الكَوْنِ مَجْنُونٌ سِوَاكْ.
لَكَأَنَّ اللهَ مَوجُودٌ لِكَيْ يَمْسَحَ حُزْنَ النَاسِ فِي قَلْبِكَ،
يَفّْدِيْكَ بِمَا يَجْعَلُ أَسْرَارَكَ فِي تَاجِ المَلاَكْ.
قُلْ هُوَ الحُبُ
الذِي أَسْرَى بِلَيلى
وهَدَى قَيْسَاً إلى مَاءِ الهَلاَكْ.
قُلْ هُوَ الحُب ُ يَـرَاكْ.

*********