التي تنجم عن ارتطام روحي بالكون

(لمناسبة صدور ديوانين لها وانشغالها الجديد بالنحت)

التقاها : يحيي القيسي
(الأردن)

زليخا أبو ريشة:تبدو كتابات زليخة أبو ريشة الإبداعية في الشعر والنثر قادمة من مناطق بكر،طازجة، تحتفي باللغة، وتحملها الكثير من الدفقات الشعورية، والرغبات الخامدة، البرية، الجريئة حد المشاغبة، وهي تبدو أيضا كائنة عاشقة، تعلي من الحسي الأرضي، وتعجنه بالروحي السماوي، ومؤخرا أصدرت ديوانين يهجسان بما أشرت إليه إضافة إلي تجاربها الأخرى، ويبدو أنها اختارت حقلا جديدا لتحمله طاقاتها الفائرة، وهو النحت التركيبي حيث تتآلف قطع الرخام والحجارة، والخرز وشظايا الزجاج معا لتشكل عوالم من الإشارات ذات الدلالات التجريدية أو الجلية، ومن الواضح أنها تفكر بصوت مسموع لإنجاز معرضها النحتي الأول في الربيع المقبل في الأردن أو خارجه.
أصدرت أبو ريشة مجموعة قصصية يتيمة هي في الزنزانة وعدة مجاميع شعرية هي: تراشق الخفاء ، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بدعم من وزارة الثقافة الأردنية، و غجر الماء 1999 عن الهيئة المصرية للكتاب، و تراتيل الكاهنة ووصايا الريش 2000 عن وزارة الثقافة السورية، و كلام منحي 2005 عن أمانة عمان الكبرى، و للمزاج العالي عن الوراقات للبحوث والنشر، وكتاباً بحثياً في اللغة الغائبة وعملت في معهد التربية التابع لوكالة الغوث الدولية في الأردن وتابعت دراستها للحصول علي شهادة الدكتوراه في جامعة اكستر ببريطانيا، وهي منقطعة حاليا عنها.
تكتب مقالات وأبحاثاً متفرقة، وتهتم بالأدب النسوي، وما يتعلق به، وهي مشاركة نشطة في المؤتمرات المتخصصة والندوات الدولية، والمهرجانات الشعرية العربية والأجنبية.
هنا حوار مع أبو ريشة حول ديوانيها الجديدين وتجربتها النحتية وهواجسها الأخرى:

* عينا نبدأ من ديوانيك الجديدين فكيف حدث أن أصدرتــــهما معا في فترة متقاربة، ولماذا لم تضــــميهما في كتاب واحد ؟

كلام منحي الذي صدر عن أمانة عمان الكبرى 2005، وليد مزاج وإيقاع وحالة ليس منها للمزاج العالي الذي صدر بعده بشهور عن دار الوراقات، ففي جمعهما إخلال. وقد صدرا في عام واحد ولا توجد قاعدة تمنع ذلك، من جهة، ومن جهة ثانية هو أنني تأخرت في إصدار مجموعاتي الشعرية عموما بسبب انهماكي في الشأن العام الذي منحته من حياتي عددا لا يستهان به من السنوات دون أن ألتفت ولو قليلا إلي نفسي ومتطلباتها وحقوقها علي. وكان سبقها عدد مماثل من السنوات كنت فيها منهمكة بفض الاشتباك بين الروحي والاجتماعي.. أي أنني ككائنة شعرية تتعامل بالأشعة وبالخفة وبين مستنقع الزواج وثقله ولزوجته ـ لاحظ التلاقي بين المادة اللغوية زوج ، والمادة اللغوية ل ز ج !!

* لاحظت انشغالك في للمزاج العالي بتفاصيل الأشياء اليومية الحميمة بلغة سلسة وبسيطة، فيما ذهبت إلي المعني أكثر في كلام منحي بلغة جزلة، مكثفة الدلالة، فهل تمارسين قصدية ما بوعي عال عند كتابة القصيدة؟

كنت ذكرت المزاج والحالة والإيقاع. .. إذ تختلف في كل من الديوانين اختلاف فصل، وهي مسألة ليست بيدي، إذ النص لا يأتي بقرار. إنه يصغي، قبل التخلق، إلي تلك الموسيقي التي تنجم عن ارتطام روحي بالكون، ويلملمها فتكون القصيدة، وعلي ذلك فـ للمزاج العالي اعتناء بشعرية الحياة، انعطاف نحو عالم لطالما مررنا فيه دون أن نأبه للأجنحة الخفية التي تطير بمفرداته.. وإذا كان مزاج كلام منحي لا يبتعد عن ذلك كثيرا، إلا أنه يقدم فسحة لتاليه للمزاج العالي ليتخلق في البساطة التي هي بداية مرحلة، فيما أظن.

* في كلام منحي أيضا انشغال علي متعتين: شهوة الجسد والخمر، رغم ما بدا من دلالات تصوفية في اللغة، وتحليقاتها الروحية، فكيف توازنين كشاعرة في قصائدك ما بين متطلبات الأرض والسماء؟

في كل شعري انشغال علي قطبين: الحس والروح، لا كمتعتين فحسب، بل كأزمتين مستحكمتين تتبديان في وجوه عددا. فإن بشريتي مزيج من حسية قوية، وروحانية نافذة ولا خلاص لي بينهما، حتى الجنس الذي يبدو إفراطا في الحس ليس عندي إلا إفراطا في الفناء في الآخر، الشريك، الحبيب، ووسيلتي إليه. وبينما أن الجنس موت الفاعل و المفعول به معا، يكون تأهبا للخلق ولولادة الحياة. ..إننا فيه ننجب أنفسنا كما ينجبنا الشريك... فأي شيء بالله أكثر قدسية؟ وأكثر جمالا، وأحمل للمعني؟
وعلي ذلك، وإذا كان السماوي هو الروحي، والأرضي هو الحسي، فليس من انفصال بينهما، ففي كل عناصر من الآخر: الدنيوي في السماوي يؤنسنه، والسماوي في الدنيوي، يحرره من أرضيته، ولذا فإن السماوي والدنيوي، الإلهي والبشري، في شعري علي تفاهم حول رقعة النزال، وهما يقفان معا في مواجهة الكائنات الإبليسية المتناسلة في العالم والمختفية خلف أبسط الشكوك وأبرأ الأفعال.

* بالمناسبة لاحظت أنك أصدرت للمزاج العالي عن دار الوراقات، وهي كما يبدو إحدى مشروعاتك الجديدة، فهل تنوين الدخول إلي عالم النشر والــتوزيع ودهاليزه؟

الوراقات مؤسسة أهلية غير حكومية، إحدى منظمات المجتمع المدني في الأردن تعمل علي مجموعة من الأهداف من بينها: إشاعة ثقافة تنويرية متسامحة تتقبل الآخر، وتتسع للاختلاف وتؤسس عليه، وأيضا تعزيز الديموقراطية وحقوق الإنسان في المجتمع، وعلي مستويات عدة كالمؤسسات التربوية، والخطاب الفكري والأدبي والإعلامي واللغوي، والمساهمة في توفير فضاء حر للتفكير والإبداع لكلا الجنسين وحمايته، وكذلك المساهمة في إزالة كل أشكال التمييز ضد البشر وخصوصا النساء، في الإبداع، والنتاج الفكري والإعلامي والسلوك الاجتماعي والسياسي والقوانين، وأخيرا ترسيخ مناهج النقد الفكري والأدبي والفني التي تؤسس علي احترام الإنسان بغض النظر عن الجنس والدين والعقيدة واللون والعرق والوطن والطائفة والإقليم والجهة والشكل والعمر.

* نعرف أيضا أنك علي وشك إصدار ديوانين جديدين هما: أسماؤه الحسنة، والبلبال: أبواب في الوجد والكري، فهل ترين في سنواتك الجديدة انثيالا شعريا خاصا أم هي أشعار كتبت من قبل ونشرت هذه الأيام، ثم هل لك أن تضعينا في أجواء هذين العملين؟

البلبال : أبواب في الوجد والكري مجموعة من النصوص نسلتها من رسائل عشق كتبتها يوما، وهي نصوص تناقش الحب وحرائقه، وفيها جرعة من الحرية غير مبرمجة.
أما أسماؤه الحسنة فهو ديوان يضم نصوصا في التغزل بجسد الرجل من رأسه إلي أخمص قدميه. فقد انشغل التاريخ الشعري بمدح خصال الذكر وأفعاله، واقتداراته الشجاعة، الجود، المروءة، السيادة ، وبقي جسده مهجورا منسيا، فمن تجرؤ من شاعرات العرب علي مقاربة هذا المحرم ؟
وعلي ذلك فـ أسماؤه الحسنة شعر في تمجيد العري والتخلي عن الاقتدارات الزائفة. فيه أنسنة للذكر (الخارق).
لقد كتبت هاتين المجموعتين عام 1995، وبعدهما ثمة مخطوطة (لا تخف... أدخل) وهي قصيدة طويلة واحدة منصرفة إلي فكرة الباب وعبوره، كتبتها عام 2001 في اكستر في بريطانيا.
وفي عام 2005 كتبت أزرق.. تشطره نحلة وإني أعدّ لنشره أيضا، ولا أدري متى... وها أنذا وقد استعدت نشاطي في الكتابة بعد محنتي التي هجرني فيها القلم ما يقارب الثلاث سنوات (2001 ـ 2004) وانقطعت فيها أيضا عن العالمين، أجدني احتاج أن أخرج إلي النور ما كنت كتبت قبل ذلك، وبعد ذلك، وإلي أن يقضي الأمر.

* لننتقل إلي تجربتك الفنية الجديدة في النحت أو التشكيل بالحجارة، والتي لم تعلني عنها بعد، تري هل تنوين الدخول بقوة في حقل النحت وإلي ماذا تستندين من خبرات أو هواجس ؟

النحت تجربة جديدة علي، ولم تخطر ببالي قط. صحيح أنني بدأت الرسم صغيرة، ومارسته علي تباعد، وما أزال، إلا أن التعامل مع الحجر تحديدا كان مفاجأة لي. لقد سافرت كثيرا وزرت متاحف ومعارض للفن لا تعد ولا تحصي، وكتبت في الفن وفي النقد الفني أحيانا، وأتاحت لي قراءاتي ـ كما مشاهداتي وتأملاتي ـ قدرا من إحراز تقدم في بناء مفهومي الخاص للفن. وإني لأظن أن خبرتي بثقافة البصر قد هيجت ما لديّ من تلك الشهوة العميقة للتشكيل بمادة الحجر، شهوة لم أكن علي دراية بوجودها لدي أصلا، ومع ذلك، فإنني كنت دوما أحب أن أتقري لمسا ـ كما البحتري ـ
يغتلي فيهم ارتيابي حتى تتقراهم يداي بلمسِ
تلك المنحوتات التي كنت أقف أمامها مبهورة بإعجاب، منحوتات تايكي، ومعبودة حيان بن نبط، والتي في اللوفر والمتحف البريطاني، ومتاحف العالم، كما منحوتات مني السعودي، حتى لوحات الانطباعيين في اللوفر، ولوحات الفن الحديث في فيينا ومونتريال ولندن وبرلين وعمان ودمشق وبيروت والقاهرة وبغداد وتونس والرباط وكليفلاند لم تنج من لمس المختلس الخطي. كنت دوما أحب الحجارة، وأجمعها من كل أرض زرت وشاطئ وقفت عليه، من الشرق والغرب، ومما وراء البحار. كنت أحمل الحجارة في حقائبي، وأحتفي بها في بيتي الذي بالكاد يتسع للبشر، ثم أرمي بها في حديقتي وعلي أفاريزها... إلى أن أتي يوم عدت إليها لأطالبها بالنطق... فأرجو أنها فعلت.
أعد حاليا لمعرض في الربيع القادم، وأفكر جديا بباريس، وبحدائق كيو غاردنز في لندن بسبب ضخامة بعض الأعمال.

*أخيرا لاحظت أن تجربتك الشعرية رغم تميزها، لم تنل حظها من النقد، والإضاءة محليا وعربيا، فأين تكمن المشكلة، وإلي أي خلل تعزين مثل هذا التجاهل؟

ربما يكون قولك صحيحا. .. وعندئذ فأغلب الظن لأنني لم أنخرط يوما في حزب أو جماعة تحمل نقدة الأيدولوجيا على الاهتمام. هذا، إلي أن شعري متخفف من الخطابات والأيدولوجيا، التي هي السمة الغالبة علي معظم النتاج النقدي العربي. فأنا لم أعالج القضايا الكبرى، بل اتجهت نحو لواعج إنسانية عادية، وانشغلت بالجمال وتجلياته في الخفي الضئيل.
ثم انني لم أعد أشعر بحاجتي إلي جهود دائرة النقد، علي عكس حاجة تاريخ الأدب، وحاجة النقد نفسه إلي أن يكون شاملا ودقيقا ومعبرا عن الإنتاج الأدبي في فترة ما، فالنقد في الصحافة ما لم يلضمه خيط جاد أو يوضع في كتاب، يظل آنيا وفانيا.
إنني كشاعرة أستلهم التجربة العظيمة التي امتلكها شعراء الجاهلية، فلم يكن في عصرهم نقدة، ولا أهل تنظير يصغون إليهم، كانوا جميعا يواجهون مصيرهم الشعري بمغامرة في المجهول من جهة، وبناقد مرهف حاسم في روحهم الشعرية.. فالناقدة التــــي في داخلي ـ علي ذلك ـ لا تخدعني ولا تخذلني ولا تنافق لي، وليس لها من مصلحة معي بل مع ذاتها كضمير فني لا أملك إلا أن أخضع له كما أخضع لضميري الإنساني تماما...ولا أرى ذلك إلا وليد الأزمات والمحن الإنسانية والروحية والفكرية التي عصفـت بحـياتي، وتجاوزتها.
وأعدك أن لدي مشروعات كثيرة في الشعر والنثر والفن والبحث... أرجو أن يتسع العمر لإطلاقها.

القدس العربي
2006/02/18


إقرأ أيضاً: