لا أدري كيف خطرت لي هذه الفكرة ، أنا أيضاً فوجئت بها تتلبسني ، لكنها جاءت ضمن سياق رؤية جديدة بدأت أتعامل وفقها مع أذهان طلابي. رؤية خارجة عن القانون وعن السائد والمكرس. رؤية مجنونة تعيد صياغة العالم على ضوء شروط جديدة، شروط قوامها الجمال والتنوع والحب والرشاقة الذهنية والنضارة الروحية والنفسية.
طيلة حياتي المدرسية، لا أتذكر أنني سمعت من استاذي كلمة مدح أو ذم للموسيقى، وكأن هذا العالم الاثيري الشفاف الإنساني الذي يسمونه (الموسيقى) لا يستحق التفاته صغيرة أو تأملاً بسيطاً. كانت حصص الفن تمر في جدول أيام الاسبوع فارغة وطويلة ومملة، يطلب منا المدرس أن نرسم أي شيء . شجرة، عربة، جبلاً. مطر، أي شيء أي شيء. وحين نرسم "الأي". شيء، لا يتكرم علينا المدرس حتى بنظرة فيخرج مسرعاً حين يرن الجرس ونقوم نحن بتمزيق رسوماتنا وإلقائها في سلة القمامة.
في المدارس، هنا في بلادنا القاسية التي نحبها، لا يحبون الموسيقى، هل يخافونها لأنها تأخذهم دون أن يشعرو إلى أعماقهم ؟! هي سفيرتنا إلينا إذن . الموسيقى عالم محير جداً ومتعب رغم حريرة ونعومة ملمسة، الموسيقى هي اللامكان واللازمان، هي الضياع البهيج والتشرد الاعمى، هي الصيد الصعب في براري الروح وأدغال الوقت العادي : في المدارس يحرصون جيداً على ترتيب ذهن الطالب وفق اسس راسخه جداً قائمة على الطاعة العمياء للوصايا والقيم الاجتماعية البالية وعلى ضرورة النظرة الجزئية للاشياء، وعلى تحريم الخوض والتفكير في الاحلام التي حلموها ليلة أمس، الاحلام والتشتت والشعر والموسيقى، والهذيان مفاهيم محرمة وخطيرة على ذهن الطالب، الموسيقى هي أخطر هذه المفاهيم لانها تدرب الذهن على القفز عن اسواره المرسومة له، وتحرض الذاكرة على الاحتفاظ بالنضير والعميق والمحير والمخبوء والمحظور من المشاعر والاشياء، والمشاهد، الموسيقى تطرد الرضى عن النفس والقناعة الزائفة ومطلوب من الذهن أن يكون راضياً عن قدراته قانعاً بحدوده، الموسيقى ضد الحدود، لانها تلغي العداء بين الشعوب بالموسيقى تذوب الفوارق بين الأبيض والأسود ، بين الغني والفقير بين الذكر والأنثى ، بين الشرقي والغربي ، بين الله والإنسان ، بالموسيقى نشتت جحافل الاحقاد بيننا، ونزرع في سمائنا الداخلية عواصف الاسئلة، الموسيقى تحرض على السؤال، لا تحب الاجابات . تقرب الانسان من حواسه وطبيعتة وبهاء أعماقه الاصلية ، ومطلوب من الطلاب عندنا من قبل صائغي وجداننا وساجني الغابة فينا وقامعي البراءة والعفوية أن يحاربوا حواسهم، ويفقدوا ذاكرة أعماقهم، لان الحواس تحض على الرذيلة. وتترك الباب مفتوحاً على مصراعيه امام "الفساد والانحطاط". هم لا يدرون أولئك الذين يخططون ذهن طلابنا ويصيغون وجدان اجيالنا، أن الذهن البشري لا ينمو ولا يتطور بلا حواس الحواس هي أهم الطريق وأنفذها للوصول الى المعرفة ، لاحقاً تعلمت هذه المفاهيم. تدريب على مصافحة النجوم عبر صوت فيروز، اقتربت جداً جداً من المطلق، الابدية، على اجنحة صوت فيروز وهي تحملني الى اللازمان ، اللاشعوب اللادول، اللاقيود، اللاحدود، اللافوضى، اللامسافات.
فيروز هي التي علمتني كيف أثق بانسانيتي واكتشف بكارة اشيائي وحواسي و أتمرد على الحدود سيده اللاتوقف، اللا أسوار هي فيروز. حين كنت اسمع صوتها وانا في الصف العاشر (اهدتني بنت في الصف السابع شريطاً لها) كنت أشعر بزوال هويتي (كعربي وكفلسطيني وكطالب وكلاجىء وكذكر) كنت اشعر بهوية واحدة (الانسانية) هويتي هي: بشريتي بلا تعريفات قومية أو ذكورية أو اكاديمية.
أذكر أن الدنيا كانت تمطر بشدة ، الشوارع خالية من الناس والعربات قليلة ومسرعة ، وأنا وحدي عند النافذة اتكئ على الزجاج المبلول وفيروز خلفي وأمامي وفوقي تغني (رجعت الشتوية) كأنها (فيروز) كانت تغسلني من غبار الواجبات المدرسية الثقيلة ، كأنها كانت تخلق عندي سعادة غريبة غامضة (سعادة أني إنسان) .
الإنسان المحب والمسالم والمكتشف والمندهش . إنسان لا يخوض حرباً ضد أحد ، لا يؤذي عصفوراً بل يبتسم ويطير، ويحب. أول دهشات حياتي ما زلت أذكرها حين سمعت أغنية فيروز (رجعت الشتوية) ، فيروز بهذه الأغنية أهدتني ذهناً جديداً هو ذهن الجبل العالي ذهن النسر المتجول ، ذهن الأفق المتطاول.
الآن وأنا أعمل مدرساً في إحدى المدارس الحكومية أشعر أني أحمل مسؤولية أن أربي طلابي على مصادقة النسور والتحرش بالجبال واللعب مع الأفق الآن وأنا امتهن مهنة التدريس وبدلاً من التباكي على فساد نظامنا التعليمي والتربوي . بدلاً من التذمر اللامجدي من بلادة المنهاج وغبائه، أجد نفسي متمرداً على كل شيء: على المنهاج وعلى المفتش وعلى المدير وعلى نظام الجلسات في الصفوف، وحتى على لون الستارة في الصف وعلى اللوحات المعلقة على جدران الصفوف وعلى قسوة ملامح آذن المدرسة وعلى ضيق ساحة المدرسة وارتفاع أسوارها المبالغ فيه ، وعلى هشاشة طباشير المدرسة وعلى لون رخام المرحاض ، وعلى الرنين المتعجرف للجرس. وعلى حمل المدرسين للعصا، وعلى تجهم ملامح المدير دائماً، وعلى غياب الأنثى عن صفوف المدرسة، وعلى طاعة الطلاب العمياء لوصايا المدرسين.
فجأة وهكذا كما أنا دائماً عصفت برأسي فكرة مجنونة، طلبت من طلابي أن يلحقو بي ، أخذتهم إلى قاعة المكتبة ، هناك أغلقت القاعة بإحكام وأشعلت صوت فيروز طلبت منهم الاصغاء ، فقط الإصغاء ومحاولة فهم الكلمات ومصاحبة اللحن . رأيت التذمر في وجوههم في البداية . رأيت الاستغراب من فيروز هذه لتمضي حصة كاملة نسمعها صامتين ؟؟
طلابي لم يتعودوا على الصمت، الصمت هو عدو الطلاب وعدو كل من يعيش في هذا الوطن القاتل والقتيل . لم يتعودو الإصغاء ، الإصغاء في بلادنا هو الملل هو السطح ، هو الفراغ ، هو اللاشيء. قلت لهم : الإصغاء أيضاً موهبة ، الثرثرة الفارغة والكلام الكثير هو دمار وخراب تعرفوا على الإصغاء ، تعرفوا على الصمت، تذمر الطلاب وتململوا، قلت لهم : هناك صوت للصمت ، انتبهو له وادرسوه تأملوه ، الصمت ليس الفراغ ، كما هو ظاهر ، الصمت لغة أخرى لا يتقنها سوى من يريد لحياته أن تتطور وتتعمق، لمن يريد أن يعرف أكثر الصمت صديق الفراشة والقصيدة والنهر والحلم والظلال والله والحقيقة والطفولة والبراءة .
شيئاً فشيئاً اقنعت طلابي جزئياً بالتدريب على الإصغاء والصمت .
اشتعلت القاعة أغانٍ لفيروز، قلت لهم : فكروا في "شادي" الصبي الذي مات عيشو موته ، عيشوا حزن فيروز غنوا حنينها ، وألبسوا ذاكرتها ، راحوا يرسمون مشاهد أخرى لحكاية شادي :-
شادي كان صبياً خجولاً ورقيقاً وكانت فيروز تحبه .
شادي لم يمت بل اختفى ، سيظهر ذات مساء وستغني فيروز أغنية عودته.
شادي كبر وسافر إلى البرازيل وهناك تحول إلى قاطع طرق وفيروز لا تعرف.
وهكذا عشنا مع فيروز أجمل وأبهى اللحظات، طلبت من طلابي أن يكتبو انطباعاتهم فكانت هذه الكلمات :
الطالب بلال عمر : صوت جبل يخرج من قلب حزين ودافئ . ومن حنجرة رائعة .
الطالب رام زاهر : أسبح واطفو على بحر جائع بحر يريد أن يأكل أغنية فيروز ، فيروز نهر يسحبني إلى الغابة ، يقتل الظلام ويحطم الموت .
الطالب محمد ناصر : أشعر أن قلبي يمتلئ بالأشياء المجنونة .
الطالب عمر وماجد : أغنياتها تجردني من همومي .
الطالب عمر نجاتي : تشع نوراً واختفي بها مع النسيم .
الطالب براء قطيط : أشعر بروحي تغتسل بصوتها
أشعر بالنغمات تقتحمني وتعريني
أشعر بطفولتي
أشعر بضوابط عقلي تطير
أشعر باهتزاز مشاعري
الطالب حجازي فؤاد : صوت جميل جداً ينطلق من مشاعر محرومة ونبيلة ومن خوف قديم .
ذهب الطلاب إلى صفهم ، بقيت وحدي في قاعة المكتبة ، وحدي مع فيروز . فجأة رأية فيروز تتسلل من صوتها ، تمسك بيدي وتهمس : هل أنت جاهز للطيران؟!
سمعتني أجيب همساً : نعم أنا جاهز . نشرت فيروز أجنحتها : لا أدري أي أنا الآن ؟! المكان بلا مواصفات ، غامض وسائل لا أدري كم هي الساعة ، هنا لا زمن، لا صبح لا مساء لا ليل ، لا نهار ، لا شيخوخة . لا أمراض ، لا موت . كينونة بلا قيود ، أحاسيس حرة لا يُتعامل مها وفق "معيار الفضيلة والرذيلة". إذْ لا فضيلة ولا رذيلة هنا ، هنا خير دائم ونور مقيم. هنا في هذا المكان يعيش الله والأنبياء والقديسون، تعيش الحقيقة ، يعشيش الحب والسلام