راح مقلم الزهور يوثق الباقة بشريط الساتان الوردي الناعم، وراح الساتان يلف سيقان الزهرات الوردية والبيضاء ويدفعها إلي بث عبيرها في ذاك الليل البارد، بينما الفتاة تحار بيديها ولا تعرف أين تذهب بهما.
ماذا تفعل بهما أثناء انتظارهما لاحتضان الباقة وشريط الساتان؟
... وتحار أيضاً بعينيها.
كيف تضبط إيقاع ترميشهما؟ كيف تتحكم برجفة جفنيهما؟
وأخيراً أتي صوت مقلم الزهور لينقذها.
تفضلي .
أمسكت الباقة ونقدته ضعف المبلغ الذي طلبه. وانطلقت سعيدة تحتضن الباقة الى صدرها وتلمس أوراقها بين حين وآخر ثم تلمس طويلاً خيط الساتان الذي ذكرها بحكاية بياض الثلج والأقزام السبعة ، والشريط المسحور الذي طوق خصر الأميرة العذراء الطيبة وراح يضيق ويضيق حتى قضي عليها.
كعب الكندرة الدقيق ينقر الدرجات ويملأ وقعه الأروقة المقفرة العالية السقف. لم يبد لتلك الأروقة الخلفية سقف أو قرار. يختفي صوت الكعب الرفيع العالي في زغب الموكيت ليعود ويرتفع مجدداً فوق بلاط المسرح الساكن في انتظار رفع الستارة.
كم هي مخيفة حياة المسرح الخلفية! تفكر الفتاة.
لكن لا. هي ترى الأشياء مخيفة لسبب في نفسها وليس لأن هذه هي حقيقة الأشياء.
تتابع خطواتها السريعة اللاحقة بخطوات الصبي الذي يقودها داخل أروقة المسرح الغريبة.
تتابع. تعلم أن شيئاً لن يسندها إن تهاوت. تعرف أن الصبي الذي يسبقها منعطفاً متقدماً مرتقياً الدرجات مهمهماً بين انعطافة وأخري بما يعني سنصل قريباً ، تعرف أنه لن يراها تقع إلا بعد وقوعها.
لا تحار بيديها. اليمني تضم الباقة كمحفظة أول الشهر واليسرى تمسك الشال الذي يرتخي فوق صدرها، وينزلق، من وقع الخطوات العصبية، عن كتفيها الأملسين أكثر وأكثر...
خطوة بعد أخري يتعري الكتفان وينكشف الديكولتيه الدخيل علي ليلة كانونية باردة.
وصلنا... تفضلي...إنه في الداخل .
تدخل. يقف الرجل وقد بدا أنحل بكثير مما توقعت. يمد يده ليسلم عليها بابتسامة فرح تدفق من عينين مجهدتين. لكن الفتاة تتجاهل اليد وتنسي المسافات التي قطعتها لتصل إلي هنا والحيل التي حاكتها وتنسي السنوات الست عشرة التي عاش خلالها الحلم بهذا اللقاء... تأتيها القوة من ثقب ما لم تعلم بوجوده، فتندفع نحو صاحب اليد الممدودة وتضمه كما تضم ست عشرة سنة مبعثرة. توثق يديها فوق ظهره كي تحتفظ بالسنوات الفارة.
تبتعد قليلاً. تتذكر الباقة. تقدمها له وهي تراقب شريط الساتان المعقود علي شكل فراشة ويبادرها شعور بفك العقدة كي لا تتألم الزهور.
لا تسمح الثواني القليلة قبل رفع الستارة بأكثر من تبادل النظرات والابتسامات. وهذه الابتسامات كانت ترسم حول عينيه وطرفي شفتيه تجاعيد بارزة لا ينجح الماكياج بإخفائها.
اذاً لقد مضت السنوات الست عشرة عليه وتركت آثارها. بينما الفتاة تظن أن الزمن وقف متجمداً في انتظار هذه اللحظة، كان العكس هو ما يحدث، وكانت هي التي تقف متجمدة وترفض أن تنظر الى نفسها في المرآة... لم تعد فتاة مراهقة، لقد صارت امرأة.
استأذن الرجل لثوان كي يدخل الحمام. تحين الفرصة أحد مرافقيه واقترب من الفتاة مقدماً لها بطاقته الشخصية معرفاً عن نفسه مركزاً بصره المرتبك علي صدرها الناهد، سائلاً بصوت هامس: هل أنت مرتبطة بموعد الليلة؟ .
نزل السؤال الهامس عليها كصرخة! ومن دون أن تدري وجدت نفسها في القاعة تجلس مع المتفرجين وتنتظر رفع الستارة. تصفق للمغني العذب الصوت وتستعيد مع أغانيه سنوات عمرها وتقنع نفسها بما رفضت دوماً تصديقه وهو أنها لم تعد تلك الفتاة التي عشقت صاحب هذه الأغاني وخططت كي تلتقيه وتحبه بالفعل..
انتهت الحفلة ووجدت المرأة نفسها في الشارع تطلب التاكسي. تناهي الى سمعها صوت الشاب المكتنز يعرض أن يقلها، أخفت صدرها تحت الشال والتفتت نحوه لتكتشف فجأة أنه أكثر وسامة مما بدا لها ولتجيبه: نعم كنت مرتبطة بموعد الليلة، موعد كان لا بد أن يحصل كي ينتهي، وها قد انتهي، هل تقلني إلي أي مكان بعيد؟ .
جلست الى جانبه في السيارة وشعرت كأن خصرها تحرر من شريط كاد يخنقه.
القدس العربي
2005/11/17