(في ذكرى النكبة و60 رحيله)

صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

إبراهيم طوقان، حتى أيامنا هذه تعتمد مناهج الأدب العربي لطلاب المرحلة الإعدادية، أو الثانوية، في كثير من الدول العربية، قصيدة بعنوان «الفدائي»، يقول مطلعها:

لا تَسلْ عن سلامتهْ
روحه فوق راحتهْ
بدَّلَتْهُ همومُهُ
كفناً من وسادِتهْ
بين جنبيْهِ خافقٌ
يتلظَّى بغايتِهْ
من رأى فَحْمةَ الدُّجى
أُضْرِمَتْ من شرارتِهْ
حَمَّلَتْهُ جهـنَّمٌ
طَرفَاً من رسالتِه
هـو بالباب واقفُ
والرًّدى منه خائفُ
فاهدأي يا عواصفُ
خجلاً من جراءتِهْ
صامتٌ لوْ تكلَّما
لَفَظَ النَّارَ والدِّما
قُلْ لمن عاب صمتَهُ
خُلِقَ الحزمُ أبكما

ويحدث غالباً أن يترك هذا النصّ الشعري أثراً حماسياً عميقاً في نفوس الطلاب، فيحفظونه عن ظهر قلب، ويرسخ في وعيهم سنوات طويلة بعد الدراسة، حيث تتكفل الحياة بإعفاء الذاكرة من حفظ عشرات النصوص التي كانت أساسية في مقررات مناهج الأدب.
هذه القصيدة هي للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان(1905ـ1941)، الذي تتصادف ذكرى رحيله مع السنة الستين للنكبة، كما اصطلح العرب على تسمية سقوط فلسطين في يد العصابات الصهيونية المسلحة وإقامة دولة إسرائيل. وكان طوقان قد نشر هذه القصيدة بتقديم موجز جاء فيه: «عيّنت الحكومة المنتدبة يهودياً بريطاني الجنسية لوظيفة النائب العام في فلسطين، فأمعن في النكاية والكيد للعرب بالقوانين التعسفية الجائرة التي كان «يطبخها»، ولما ثقلت على العرب وطأته، كمن له أحد الشباب المتحمسين في مدخل دار الحكومة وأطلق النار عليه فجرحه». بمثل هذه القصائد، وبموضوعات تدور حول هموم الإنتداب البريطاني والتهويد والهوية الوطنية لفلسطين ونضالات أبنائها، استحق ابراهيم طوقان مكانة «شاعر فلسطين» الأول في العقود السابقة على حرب 1948 وتأسيس الدولة العبرية.
وكان طوقان جزءاً من حركة شعرية ناشطة، ضمّت أمثال عبد الرحيم محمود، وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وحسن البحيري ومطلق عبد الخالق ومحي الدين عيسى، إلى جانب أمثال الشيخ سليم ابو الأقبال اليعقوبي (الذي لُقّب بـ "حسّان فلسطين") واسكندر الخوري البيتجالي وبرهان الدين العبوشي. وكان الوضع المتفجر في فلسطين، وثورات 1929 و1936، والشهداء الذين كانوا يتساقطون بصفة شبه يومية نتيجة الصدامات مع قوات الإنتداب البريطاني والعصابات الصهيونية، والصفقات الدولية ضد العالم العربي وفلسطين، لا تترك أمام الشعراء خيارات كثيرة أخرى خارج موضوع الهوية، والنضالات الوطنية، وامتداح الشخصية البطولية الفدائية.
ويرسم علي الخليلي ثلاثة مسارات حدّدت مضامين وأغراض الشعر الفلسطيني في تلك الأطوار: 1) "الوعي الوطني المبكر لمقاومة الإستيطان اليهودي والصهيونية في فلسطين، إلى جانب تنامي الحسّ القومي العربي في مواجهة الإستعمار البريطاني"؛ و2) "تبلور الهوية الوطنية الفلسطينية في غمار ثورة فلسطين الكبرى، على امتداد السنوات 1936ـ1939،والبطش البريطاني الإستعماري الدموي بهذه الثورة، ثمّ صدور قرار التقسيم 1947، واشتعال المعارك مع المنظمات الصهيونية المسلحة..."؛ و3) "النكبة ونشوء إسرائيل في العام 1948، وقد عكست القصيدة في هذه المرحلة شخصية اللاجىء والمشرّد، وانتشار المخيمات، والحنين (...) والتصميم على العودة والتحرير، مع إدانة الأنظمة المتخاذلة وحكامها المتقاعسين". (1)
ورغم وجود بعض التيارات التجديدية التي حاولت كسر الشكل الكلاسيكي للبيت الشعري، فإن التيار العام السائد في الشعر العربي آنذاك كان الشكل العمودي الذي يستند على البحور الشعرية التقليدية. وربما كانت الخصائص الإيقاعية العالية لهذا الشكل هي التي خدمت أغراض الشعراء الفلسطينيين قبل عام 1948، لأنها ببساطة كانت تحقّق الغرض الخطابي المباشر، وتسهّل السماع والحفظ والتداول الشفاهي لقصيدة أُريد لها أن تكون تنويعاً على، أو حتى أن تلعب دور، البيان السياسي التحريضي. هذه الخصائص كانت آنذاك، وفي احتساب طبائع الذائقة ووظائف الأدب والوعي الجمالي، الأشدّ قدرة على خدمة شاعر عبد الرحيم محمود (1913ـ1948) حين نطق بلسان الشهيد واعتمد ضمير المتكلم... هو الذي استُشهد فعلاً في معركة الشجرة:

سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسرّ الصديق
وإما ممات يغيظ العدى
لعَمْرُكَ إني أرى مصرعي
ولكن أغذّ إليه الخطى

أو يفلح عبد الكريم الكرمي (1907ـ1980) في إسباغ نفحة رومانسية على غزل وطني، إذا جاز القول، تختلط فيه صورة الحبيبة بأوصاف فلسطين ومحاسنها، أو يحدث أن يغيب الاحتلاط نهائياً لكي تتوحّد الاشواق في تراب الوطن وحده، في القتال من أجله بغية محبّته اكثر:

كلّما حاربتُ من أجلكِ أحببتكِ أكثرْ
أيّ تُرْبٍ غير هذا الترب من مسك وعنبرْ
أيّ أفْقٍ غير هذا الأفق في الدنيا معطّرْ
كلّما دافعتُ عن أرضكِ عودُ العمر يَخْضَرْ
وجناحِي يا فلسطين على القمّة يُنشرْ

ولعلّ انفراد إبراهيم طوقان النسبي عن أقرانه من شعراء تلك الحقبة بدأ من هذه المسألة بالذات: الشكل، واللغة الشعرية، وكتابة قصائد تتناول موضوعات أخرى غير البطولة الوطنية، مثل الغزل والمديح والهجاء.
ومن المدهش أن نعثر، في ذلك الزمن من الثقافة العربية وفي تلك الظروف المشحونة من تاريخ فلسطين، على شاعر يرى أنّ «الشعر نكتة، قد يحسن الشاعر قولها وقد لا يحسن، وقد «يلقطها» القارىء أو السامع أو قد تفوتهما»؛ أو يؤمن أنّ الشعر «عبارات نثرية موزونة لا أثر لكدّ الخاطر عليها، بل اتفق لها هي... أن تكون موزونة»!
هذه الآراء الليبرالية، كما يتوجّب القول، كانت تنبع من حقيقة ميل طوقان إلى لغة الحياة اليومية، وعزوفه عن الإفراط في البلاغة وجزالة التعبير وفخامة الألفاظ، وشهيته الدائمة إلى «تسريب» تعبير عاميّ هنا أو هناك في قصائده، بحيث يكتسب الشعر لمسة وجدانية وإنسانية حتى في ذروة الحماس والخطابية. وقد رأى الدكتور إحسان عباس أنّ حماس طوقان للغة الشعبية ضمن له «شعبية التعبير» وهذه بدورها قرّبته من قلوب الناس: «استطاع إبراهيم من خلال الربط بين قانونه النثري ومبدأ النكتة أن يجعل جانباً كبيراً من شعره غذاء للشعب سواء في لحظات الراحة والمتعة، أو في لحظات الثورة والنضال».
ويتابع عباس: "ربما نسي الشعراء المحدثون أنّ إبراهيم رائد من روادهم، لقد جرأّهم بالتنويع في داخل القصيدة الكبيرة على تنويعات من نوع جديد، ومن خلال البساطة المنفّرة بوضوحها والتي شاءها مجالاً للشعر فتح لهم الباب الى خلق دهاليز الغموض، وعن طريق الإلتزام بقضية وطنه أعطاهم درساً عميقاً في أنّ الارتباط بقضية الشعب لا بدّ أن تتمّ أوّلاً على مستوى التعبير الدارج المؤثر الموحي الذي يعني أنّ الشعر مظهر ضروري لتصفية المبتذل والمألوف".
وقصيدته الشهيرة «الثلاثاء الحمراء» مثال كبير على ذلك. إنها قصيدة مناسبة، كُتبت في امتداح ثلاثة من أشهر شهداء فلسطين (فؤاد حجازي، محمد جمجوم، عطا الزير)، أعدموا عام 1930 بسبب مشاركتهم في انتفاضة 1929، وهدفها الرئيسي هو الرثاء البطولي والتحريض الجماهيري. ولكنّ طوقان اعتمد في كتابتها اسلوبية لافتة بالفعل، إذْ استخدم ثلاثة تنويعات في شكل البيت الشعري، تستجيب لثلاث حالات نفسية، لثلاثة أبطال، على امتداد ثلاثة أيام، وثلاث ساعات! وحماس إحسان عباس لهذه القصيدة يذهب إلى حدّ القول: «في النقلة من نطاق الموشح في حديث الأيام، إلى التباري الخطابي في حديث الساعات، كان إبراهيم يضع نواة مهمة في تطوير الشعر الفلسطيني". (2)
وثمة في هذه القصيدة عشرات الأمثلة على تلك النقلات البارعة من صوت إلى صوت باطن آخر، ومن نبرة عالية إلى أخرى خفيضة، ومن زمن مطلق إلى زمن ملموس، ومن قافية موحّدة إلى أخرى متغايرة، ومن شكل العمود المتعاقب المتراصّ إلى شكل الموشّح الطليق المنسرح...:

لمّا تَعَـرَّضَ نَجْمُك المنحوسُ
وترنَّحت بِعُرى الحِبالِ رؤوسُ
ناح الأّذانُ وأعولَ الناقوسُ
فالليل أكدرُ والنَّهـارُ  عَبوسُ
طَفِقَتْ تثورُ عواصفُ
وعواطفُ
والموت حيناً طائفُ
أو خاطفُ
والمعْولُ الأَبديّ يُمْعِن في الثرى
لِيردَّهمْ في قلبِها المتحجِّر
يومٌ أطلَّ على العصور الخاليَهْ
ودعا أمرَّ على الورى أمثاليَهْ

وضمن انحيازه إلى اللغة الشعبية، اختار طوقان الموضوعات الشعبية أيضاً، فكتب العديد من القصائد التي يصف فيها صراع جسده مع المرض، وتناول المشكلات الإجتماعية والاقتصادية بروح نقدية طريفة، وكتب الكثير في الغزل الرقيق والغزل الحسي، وله «نصوص محرّمة» تستخدم لغة هجائية وجنسية مكشوفة للغاية، لم تُنشر في ديوانه وإن كانت قد اشتهرت في فلسطين والعالم العربي، وتتهامسها الشفاه حتى أيامنا هذه. ومن طرائفه قصيدته الساخرة «الشاعر المعلّم» التي يعارض فيها قصيدة حول الموضوع ذاته لأمير الشعراء أحمد شوقي، القائل: قُمْ للمعلم وفّه التبجيلا/ كاد المعلم أن يكون رسولا. بعض ردّ طوقان جاء هكذا:

شوقي يقول وما درى بمصيبتي
قمْ للمعلّم وفّه التبجيلا
إقعدْ فديتكَ هل يكون مبجلاً
مَن كان للنشءِ الصغار خليلا
ويكاد يفلقني الأمير بقوله:
«قم للمعلم وفّه التبجيلا»
لو جرّب التعليم شوقي ساعة
لقضى الحياة شقاوة وخمولا
يا من يريد الإنتحار وجدته
إن المعلم لا يعيش طويلا

وبمعزل عن طرافة المعارضة، لم يجد طوقان أي حرج لغوي في استخدام التعبير العامي «يفلقني»، ولم يجد حرجاً أخلاقياً في تقويض الصورة الجليلة التي يحظى بها المعلم في بنية الوعي العربي، وأخيراً لم يجد حرجاً أدبياً في السخرية من بيت شعري كتبه أمير الشعراء وذهب آنذاك مذهب الحكمة التي تُقتبس على الدوام كلما اتصل الأمر بالتعليم والمعلّم.
وفي قوله أنّ الشعر نكتة لم يكن إبراهيم طوقان يقصد التخفيف من قيمة القصيدة من حيث علاقات الجدّ والهزل، بل التخفّف ما أمكن من الجزالة والتفخيم والصنعة والإفراط في التفنّن، كما فعل في قصيدة المعلّم، وكذلك في قصيدة أخرى طريفة يمزج فيها حزن العاشق ولوعته بتغزّل من طراز خاصّ ساخر وشاتم وحانٍ وإيروتيكي في آن معاً. والقصيدة تروي رسالة من الحبيبة، تشكو فيها آلام ضرسها، وتبدأ هكذا:

رسالة واهاً لها واها
شَرقتُ بالدمع لفحواها
مِن غادة عذّبني نأيها
ما ضَرَّ لو كنتُ وإيّاها
أَضراسها تؤلِمُها ليتي
أشكو الذي سَبّب شكواها
تلك ثناياها الَّتي نَضدت
عَقدين والمكسور إحداها
آثارها في شَفَتي لم تزلْ
يا ضلَّ مَن يَجهَل معناها
رَشفت منها سَلسلاً بارداً
صادف نيراني فأَطفاها

وليس دون فلسفة جمالية متقدّمة، ومتكاملة على نحو ما، أن يكون صاحب هذه القصيدة، وقبلها تلك الساخرة من حال المعلّم؛  هو نفسه صاحب القصيدى الحماسية الشهيرة "موطني"، النشيد الوطنيّ العراقي اليوم ونشيد الأحرار العرب خلال معظم ثورات التحرّر الوطني ضدّ الإستعمار، وقصيدة الواقف بالباب والردى منه خائف. ولهذا فإنّ الحركة الشعرية التي صنعها إبراهيم طوقان وصحبه، وكان فيها بارزاً مجلّياً، هي الأب الشرعي للحركة الشعرية التي ستُسمّى «شعر المقاومة الفلسطينية»، اولتي ستتبلور منذ أواخر الخمسينات ومطلع الستينيات، وتضم أمثال توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم. ولكن من الواضح أيضاً أن خيارات طوقان (في استخدام لغة الحياة اليومية، وكسر جمود الشكل، وتناول الموضوعات الشعبية) كان لها الأثر الأعمق في تحرّر شعر المقاومة من الشكل التقليدي للبيت، وحيازة معجم لغوي جديد في حرارته ومخزونه الإيحائي، فضلاً عن الفهم الإنساني المختلف للشخصية البطولية.
ومسيرة إبراهيم طوقان الأدبية لم تُدرس بعد بشكل يليق بها، وثمة موضوعات خصبة لبحث العلاقة بين مختلف أطوار شعره وبين مسائل أخرى مثل سلسلة أمراضه (صمم في الأذن اليمنى، وقرحة في المعدة، وفقر الدم) التي أودت بحياته في نوبة نزيف مفاجئة، وكذلك احتكاكه المبكّر بالعالم العربي (دراسته وتدريسه في الجامعة الأمريكية ببيروت، وأسفاره إلى العراق ومصر)، وأثر الأسرة التي نشأ في كنفها (وهي أسرة نابلسية ذات عراقة أدبية، أنجبت أيضاً الشاعرة الكبيرة الراحلة فدوى طوقان، وإنْ كانت من جانب آخر أسرة محافظة ومتدينة)، وسواها من المسائل.
وريثما يفي النقد العربي إبراهيم طوقان حقّه، فإنّ طلاب المدارس في العالم العربي سوف يواصلون ترديد أكثر من بيت شعري راسخ في خزين الذاكرة، من مزيج طوقان الفريد المتعدد: هـو بالباب واقف/ والردى منه خائف؛ و: نستقي من الردى/ ولن نكون للعدى/ كالعبيد/ لا نريد/ ذلّنا المؤبدا/ وعيشنا المنكدا؛ أو...
حَسْب المعلّم غمّة وكآبة/ مرأى الدفاتر بكرة وأصيلا؛ و:إنّ الجمال إذا تجمّع شمله/ فلويل كلّ الويل للشعراءِ!

القدس العربي
13 مايو 2008