للمرة الثانية يهديني مسرح القصبة في رام الله، عملا فنيا كاد يخرجني عن طوري ووقاري كرجل يزعم انه كائن اجتماعي مستقر وهادئ ويعرف ما يريد من هذا العالم، أنا لست ناقدا مسرحيا ولا احلم ان أكون كذلك لكني لا استطيع ان أقاوم متعة البوح والكلام حين يتعرض وجداني لتحرش جمالي من أي نوع كان، العمل الجمالي هنا هو : مينودراما - امراة سعيدة-، أخرجها بشعرية فائقة الفنان كامل الباشا، وأدتها الفنانة الجليلية نسرين فاعور وهي نص معرب للكاتب المسرحي الايطالي داريو فو، عنوانه الأصلي- امراة وحيدة - أما العمل الاول فقد كان فلم - العطش- لوائل أبو توفيق والذي عرض قبل أشهر، في عطش وائل لم تتوقف ركبتاي عن الاصطكاك توترا جميلا وخوفا منتجا، وأنا أشاهد بوضوح شديد أزماتنا الاجتماعية، وهي تشرح بجمالية خاصة بواسطة مبضع رائع وصادق وجريء، هو مبضع الفن، في- امراة سعيدة - أقفلت فمي بيدي، منعا لصيحات انفعال وقفت متحفزة وقلقة على الحواف، فقد اعتقلت- بلا رحمة - نسرين فاعور ذاكراتنا بطاقتيها الداخلية و الجسدية العاليتين، وبذوبانها المدهش في شخصية ماريا، وأعارتنا ذاكرة جديدة هي ذاكرة القهر الإنساني الفظيع، على مدى ساعة كاملة من الزمن، لم تتعب ماريا - نسرين فاعور من اللهث خلف خلاص من تحرشات أخ زوجها المقعد ومن رقابة زوجها الذي يهاتفها دائما، متهما إياها بالخيانة ومدينا ا تصرفاتها ومهددا بضربها، اومحاصرا حياتها بالشك والسؤال، ومن خنزير الهاتف الذي يتصل بها أكثر من مرة في اليوم بحثا عن عروض جنسية عبر النافذة، وحدها المرأة السعيدة تركض مرعوبة من زاوية الى اخرى في غرف بيتها مدافعة عن نفسها بالتوسل والخوف والحزن وأحيانا بالرضوح والاستسلام، بيت هذه السيدة الفقير والشاحب لم يتلاءم مع زخم الحركة والحيوية والصوت المعزول الضاج بالألم، فلم نر سوى كرسيين وطاولتين، شعر مستعار وإبريق ماء وكاسات بلاستيك هشة، ومعطفان وقطع ملابس قليلة وحجر، وفي الخلفية ستارة سوداء، جماليات التقشف المكاني هنا عمقت المشاهد وأغنتها، وأضفت في الجو المسرحي طابعا كابوسيا خانقا، وحفرت في ذهن المشاهد دلالات مروعة حول التناقض الكبير بين فقر الأشياء وفراغ المكان من جهة وبين امتلاء فضاء المسرح بطاقة مكان داخلية خفية كبيرة، تستمد نسغها و ودمها من قوة حضور الممثلة وغنى الشخصية المؤداة، وعمق دلالات ورؤية النص وانفتاحه المتسامح على تأويلات مختلفة، ولعل أجمل جوانب نجاح هذا العمل هو انه في ظاهره عمل يحمل رؤية نسوية، لكن الغريب هو انه خال تماما من أي شكاو نسوة عاطفية مجانية وفارغة، وهو محمل بطاقة إنسانية حاشدة بعيدة عن الشعار والخطابة، والصراخ لم يكن هناك قطبا صراع: رجل وامرأة، كما قد يتوقع البعض من ظاهر العمل، كان هناك روح مقهورة مستلبة مسروقة مسجونة كان هناك إنسان يقهر أنسانا، روح فاسدة تطارد روحا قديسة ومع ذلك نحن بإمكاننا ان شئنا ان نقرأ العذاب النسوي الخاص بالمرأة العربية وغير العربية، ومع ان ماريا - نسرين صرخت طوال المسرحية وهزت بصراخها المقهور الستائر والجدران، وقلوب المتفرجين الا ان هذا الصراخ كان اقرب الى الهمس والأنين، اقرب الى مواء قطة متشردة مليئة باليأس والخوف في ليل المدينة العربية القاسي الفظ، لم نسمع تنظيرا ضد الرجولة القاتلة ولم تشتم ماريا أحدا تلك الشتيمة السهلة، المبتذلة، كل خطوة تخطوها ماريا - نسرين تجاه زاوية ما في غرفتها، كانت ترسل إشارة وتحكي حكاية، وكل نفس وكل تنهيدة وكل انحناءة جسد تصدر عنها كانت تبث إحساسا او صورة او حالة، دون بلاغة مدوية او حكمة جاهزة او إطلاق كلمات كبيرة، لغة المسرحية كانت بالفصحى الخفيفة المطعمة ببعض العامية، وذلك حتى يتذكر المتفرج ان ثمة بعد عربي شرقي في هذا العمل المكتوب بالايطالية، و ان ثمة قهرا واحدا في العالم، وان تنوع في أشكاله، أما الغناء بالايطالي والموسيقى الايطالية، فكان إشارة وتذكيرا بأن أجواء هذا النص كتبت تحت إيقاع الحياة الايطالية، وان نسرين فاعور العربية تقوم بتقمص دور امراة ايطالية هي ماريا، وهكذا يسافر بنا المبدعان كامل الباشا ونسرين فاعور بين : هنا وهناك، هنا العروبة الكسيحة والمسكينة العاجزة، وهناك الغرب المتدهور أخلاقيا وحضاريا وإنسانيا، لم استطع ان افهم سحر دلالة الضوء و العتمة في المشهد الأخير، حين هبطت نسرين - ماريا درج المسرح هادئة وبطيئة لتفتح الباب لزوجها الذي يقف خلف الباب، بيدها حجرا كأنه سراج او شهابا، كانت تتجه نحو ضوء ساطع، وكلما تقدمت منه خبا شيئا فشيئا، لماذا كان يخبو الضوء أمام خطوات المرأة السعيدة ؟؟ وما هو هذا الضوء ان لم يكن ضوء رجالها التافهين الخادع؟؟؟
هل كانت ماريا - نسرين، تطفي ضوء رجالها الثلاث االقبيحين، بعينيها المسددتين بقوة وإصرار نحو الباب، نحو الجريمة - الخلاص، قتلت ماريا - نسرين زوجها، حطمت رأسه بحجر، كما حطمت رأس أخيه المقعد الشهواني المستهتر، ولم تنس ولم تعجز عن تحطيم رأس خنزير الهاتف، وهكذا ابتلعت العتمة ماريا - نسرين، وغابت المرأة السعيدة فيها، غابت تماما يا الهي أين ذهبت ؟؟، ولكن من قال انها عتمة تقليدية تلك التي قبرتها، ومن قال انها ماتت او انتهت ؟؟ هي لم تنته، فهي تعيش الآن في قصر نور خفي، هناك في أعلى أعلى قمم روحها الباقية وإلا فلماذا سميت بالمرأة السعيدة ؟؟، من يجرؤ منكم أيها الفارغون على تسلق هذه القمم،؟؟ من من؟ ؟؟ من أنت أيها العتمة التي ابتلعت ماريا ؟؟ لم لا تكوني ضوءا داخليا تتنكرين في هيئة عتمة، خوفا من رجال جدد، يبزغون بسرعة من كل الجهات، كلما شموا رائحة امراة، رائحة فراشة،
لا اصدق لو قيل لي ان كامل الباشا مخرج هذا العمل، لم يكتب شعرا في إحدى مراحل حياته وانه لا يحتفظ بدفتر قديم في درج خزانته العتيقة في بيته العتيق في القدس العتيقة، الرؤية الإخراجية في -امراة سعيدة- مصاغة بطريقة شاعرية ساحرة، وعذبة، ولكن كيف يتلازم القهر والكابوس والموت مع الشاعرية ؟ وهل هناك نوع غريب من العذوبة في الإذلال و البكاء والقتل والهرب والحصار؟؟ نعم هناك، أتريدون مثالا، حسنا، إليكم المثال، حين خرجت من مسرح القصبة، وهمت على وجهي في عتمات رام الله الخفيفة، أتاني هذا الإحساس بهذا النوع الغريب من العذوبة المؤلمة، شيء يشبه ان تلتذ باكتشاف وجعك بعد طول خدر وعماء، شيء يشبه ان تشكو زمنا طويلا من الم في الظهر وفجأة تكتشف ان السرير الذي تنام عليه مقوس و غير متماسك، هل وصلت الفكرة ؟ هل وصل الإحساس ؟؟ إذا لم يصل فهذه مشكلتي، سامحوني،
ما هو سر نجاح هذا العمل ؟؟، ان لم يكن عمق نص داريو فو و طاقة نسرين فاعور الجسدية والروحية والذهنية،و شاعرية وذكاء رؤية المخرج وجرأته، هذه المينودراما لن تختفي بسهولة من ذاكرتي، وهذا الخارق الذي اسمه مسرح سيظل نابش وجعي وزارع نشوتي ومكتشف ذاتي ومعيني على كشف ذاتي وكشف العالم، وما هو هدف وجود الانسان ان لم يكن اكتشاف العالم واكتشاف ذاته؟؟
شكرا لمسرح القصبة، شكرا لرام الله الفنانة والشاعرة،