ماذا لو أُوِّلت قصيدةٌ بالماء؟ ماذا لو تلبّست أحوالَ اللون؟

ادريس عيسى (المغرب)

ادريس عيسى

يستعيد الفنان التشكيلي المغربي مصطفى النافي تجربة كان دشنها في يناير 1991 مع الكاتب المغربي (ذي اللسان الفرنسي) عبد الحق سرحان. ففيما كان هذا الكاتب يقرأ نصوصه على جمهور في قاعة بالمركز الثقافي الفرنسي بالرباط، كان الفنان يرسم على البديهة لوحة زيتية تجريدية ذات حجم كبير استوحى فيها المقروء الذي كان يتلقاه مع الجمهور في الحال. تلك كانت تجربة رائدة تلتها (واستلهمتها أحيانا في المغرب من غير أن تحيل عليها) تجارب أخرى جمعت بين شعراء وفنانين تشكيليين مغاربة وأجانب، تفاوتت من حيث عمقُها وإبداعيتها وصدقها والقوةُ والوعيُ اللذان أذكيا رغبة أصحابها في عقد ميثاق بين الشعر والتشكيل.

ومنذ أكثر من عامين، انخرط الفنان مصطفى النافي في مشروع آخر أصر على أن يجعله جمعيا متعددا ففتحه ليصاحبه فيه ثلة من الشعراء. كان يريد أن يختبر اختلاف منجزه وتعدده، لا باختلاف مصادره وموضوعاته وأدواته كدأبه هو الذي اختار، في قلة من الفنانين، أن يقرن مقترحه التشكيلي بالبحث في المقترح ومساءلته، بل باختلاف الأصوات وتعددها في النصوص التي يتخذها سندا، فتداعى له شعراء من المغرب وفرنسا وبلجيكا، وبدأ يعمل بالمتن الذي اجتمع لديه من نصوصهم، فأنجز مجموعة " مائيات " (أكواريل، لم يَعرض منها شيئا بعد) تأتّت له من استدعائه لمراتب الصوت لدى إخوته الشواعر والشاعرات، وسيره معهم في مجاهيل المعنى، وإنصاته الطويل إلى تلك النصوص، والتقاطه الإشارات التي توسّم فيها مادة أولى تقبل أن تهجر اللغة وتقيم في اللون والأشكال.

وفي حوارات متتالية بيني وبين الفنان بشأن الشعر والتشكيل ووهن العلاقة بينهما في المغرب وفي العالم العربي بعامة، بالرغم من صداقات الشعراء والفنانين ( بينما مدارس وتيارات أدبية وتشكيلية كثيرة برزت في أوربا محكومة بالقرابة العميقة التي تصل الشعر بالتشكيل)؛ نشأت لدينا هذه الفرضية ـ الأمل وقد غذاها حدس بالطاقة الحية التي يمكن أن يتبادلها الشعر والتشكيل: ستكون التجربة التشكيلية أعمق وأوسع حين عملها بالنص الشعري (اشتغالها معه) واستضافتها إياه باعتباره فاتح معابر سالكة وأخرى ضنك تجعل التمسكَ بالرحابةِ ذاتَه إبداعا ووعدا بإبداع. وكلما استطاعت أن تجتذب روحه الملغزة المتعددة المختلفة المفارقة، وسعت معه إلى أن يبلغا شعريَّتَها هي وتشكيليَّتَه هو، ويحتفيا معا بصحبتهما التي هي مغامرة لا تسعى إلى احتلال بلد غير صقع ناءٍ من أصقاع الحلم، ويتبادلا هذه الهِبَة التي لا يتعهدها سوى الإبداع؛ أن يصير كلاهما الآخرَ في كينونة واحدة واسم واحد.

تلك فرضية كتابة أخرى وتشكيل آخر، يسعى كل منهما إلى رسم " خطوط انفلات " (بالمعنى الذي ابتدعه دولوز). وليست هذه الفرضية بدعة ولا مستحدثة اليوم. ولربما أغرت أمثالها منذ زمن غير بعيد شواعر وشعراء عربا وأكرادا وأمزيغ يكتبون بالعربية بأن يروا نصوصهم يكتبها بعدهم ويؤولها و" ينسخها "بصيغ أخرى رسامات ورسامون يخرجون بها من القول إلى أحوال الصور. والمنجز في هذا السياق يُحسَب بداهة للتشكيل أكثر مما استدعت قراءتُه مساءلة الشعريِّ فيه. لهذا اقترحت على صديقي الفنان مصطفى النافي أن يفتح مشروعه إلى الشعر العربي في تجاربه المتعددة الحالية كي يمضي بهذه الفرضية إلى حدودها حيث تجهر بقوتها أو تهافتها أو فراغها، وأن " نورط " بحب وسبق إصرار وتدبير موقع " جهات " في هذا المشروع كي يتعهده ويتتبع مآلاته وتعريجاته كلما قادته أو حادت به فرضيته تلك، التي هي شرط ولادته، إلى عتبة أو متاه أو طريق أو أقاص بكر أو أسوار. ولقد طلب إلي أن أنوب عنه في أن أنبئ الشاعر الصديق قاسم حداد بهذا الذي دبّرناه معا ل" جهات "، مغمورَيْن بعرفان ومودة صادقين، وأدعوَ شواعر وشعراء أسميهم إلى أن يلاقوه في هذا المنفَلَت الذي نود أن نسكنه جميعا بإنصات مرح، حيث يصاحب الشعر التشكيل ويتحاوران في شؤون الكائن والمعنى والحدود واللانهاية، وحيث يكلم أحدهما الآخر، وينصت كلاهما إلى ذاته مترجِّعا في القرين، وتكون هذه المصاحبة ذاتها احتفاءً باستعادة كلٍّ منهما لممكنه السعيد، ومستحيله المحرج الذي يدفعه إلى المضايق الأشد. أليس الإبداع ذاته فعلا يجترح المسارات والحواجز؟

ومن موقع جهات هذا، باعتباره بلدا يتجاور فيه الشعر والتشكيل بألفة وتحابّ، ويخدمان مشروعَ أُخُوّة مبدِعة يراهن على مرافقة الأصوات التي يتكلم أصحابها من المنتأيات، ومقاسمتها شغفها باللانهائي، أدعو الأخوات الشواعر والإخوة الشعراء (المبينة أسماؤهم أسفله) إلى أن يُؤْتُوا الفنان مصطفى النافي نصا أو اثنين أوجزءا من نص يختارونه هم أنفسهم، ويَكِلوا إليه أن تُؤوله بالماء واللون يداه وحلمه وصمته حين يعبر معهم إلى كلامهم. سيبدأ الشعر الآخر حتما من هنا، معهم، من هذا الفعل البسيط الذي يزكي الهبة، ويؤيد كل أُخُوَّة بهجة غير مشروطة إلا بذاتها. وسيشهدون بهذا على إيمانهم بأن الشعر لن يقيم بيننا في الأرض إلا مغامرا أبدا في رفقة الجميل.

قاسم حداد، سليم بركات، محمد بنيس، رجاء عالم (الروائية شعرا)، أمين صالح، سيف الرحبي، عبد الله الريامي، بوجمعة العوفي، ميسون صقر، بول شاؤول، يوسف أبو لوز، أكرم قطريب، زهير أبو شايب، محمد آدم، زليخة أبو ريشة، آمال موسى، عماد فؤاد، طاهر رياض، منصف الوهايبي، محمد علي اليوسفي.

عنوان الفنان مصطفى النافي: mostafanaffi@gmail.com

إدريس عيسى