هو جورج شحاده كما اعتدناه دوماً وبأي لغةٍ قاربناه: عصيٌ مهما بدا سهلاً وفي المتناوَل، يحدس بالوجود حدساً ويعيد ابتكاره برؤيوية مرهفة لا تستقر الا على نشيجٍ من كآبة مزمنة. واذ نقرأه مرة أخرى اليوم ضمن العدد مئة من "كتاب في جريدة"، في ترجمة لأدونيس بعنوان "الاعمال الشعرية، الحالم الممتزج بالهواء"، نلمس اهمية أن يكتشف العالم العربي أخيراً هذا الشاعر الشاعر، ونستعيد تلك الشفافية التي جعلته يطفو يوماً فوق غليان زمنه وقضايا ذاك النصف الثاني من القرن العشرين.
لكن شفافيته تبدو هذه المرة مطبوعة ببصمة أدونيسية لا تحاول البقاء في الظل، بل تبرز هنا بما هو أبعد من الحضور "الترجمي" وحده، لتأخذ شكل "الأنا" الأدونيسية التي تعيد تشكيل العبارة الشعرية ذات الخصوصية الشحادية وفق منظومة فكرية جديدة، فتكون النتيجة: نص ثالث (نأمل ان نجده يوماً في كتاب، مرفقاً بالنص الأصلي بالفرنسية وبمقدّمة مسهبة)، بمكونات شحادية وأدوات أدونيسية، يتموضع بين ثقافتين ومخيلتين وزمنين وشعريتين... وشاعرين. شاعران قد يكونان من حيث التجربة الشعرية على طرفي نقيض، وإن تساوت هذه التجربة من حيث القيمة الشعرية. فالأولى تكاد تكون من طبيعة هوائية، نورانية، أجرؤ على القول، اما الثانية فأكثر ذهنية، ولقاؤهما في مساحة واحدة لا يمكن ان يكون للقارئ الا حقلاً مليئاً بالاكتشافات والمفاجآت.
الا ان ما سمّيناه "مكوّنات شحادية" يلعب دور نقاط الاستدلال التي تمنع القارئ من الشعور بالغربة ازاء النص الذي بين يديه. ثمة دوماً موت وصمت وحب ووحدة وكآبة وذكريات وحنين وأحلام وملائكة وقديسون وأشجار وزهور وصلوات وأكثر...، يظللها كلها ضوء حلمي حزين يكاد يكون حاضراً في كل جملة وفي كل قصيدة، أشبه ما يكون بتيمة واحدة وفق مقاربات متعددة.
"حلمنا لكي نكون نفسينا بشكل أفضل"، يقول شحاده كأنه يمسك بيد قارئه ليدله الى الفضاء الوحيد الذي يمكّنه من الالتحام مع ذاته. في كل مرة، تبرز قدرته على جمع اكثر العناصر تباعداً في كتلة منصهرة، موجداً لها منطقها العاطفي والصدقية التي تكفل تماسكها وحائلاً في الوقت نفسه دون غرقها في سينيكية باردة. لذا تظل جملته، رغم كآبتها وحضور الموت فيها، على شكل زهرة خشخاش أو صمتٍ مريب، بعيدة من السوداوية، لأنها تهرب كل مرة الى الحلم وتجد فيه ملاذها: "من يحلم يمتزج بالهواء"، يقول الشاعر بنبرة قلما انساق اليها، لا تترك مجالاً لأي نوع من التشكيك، كما لو أن الحلم بالنسبة اليه هو اليقين الوحيد، وصولاً الى حد التأكيد: "من يسكن الحلم لا يموت أبداً".
الى الحلم، سوف نجد الصمت حاضراً في القصائد بتواتر ملحوظ لا ينفك يستعيده ويكرره ليصير معه أشبه بشرط من شروط هذا العالم الحلمي الذي يبتدعه: "الاشجار لا تسافر الا بحفيفها/ عندما يكون جميلاً صمت آلاف العصافير"، يقول، تاركاً لقارئه لمس "صمت آلاف العصافير" هذا، وجماليته الفطرية وعلاقته ب"عصر الملائكة" كما يسميه، حيث لا شيء يترك أثراً والغياب "يحرس الابتسامة والكلمة/ وكل شيء يشع من لا شيء".
هنا يكمن مسعاه اذاً، في استمداد جوهر الحياة من انعدامها، واشعاعها من غيابها، مرتفعاً من أجل ذلك على زمنٍ وحياة لا يربطه بهما شيء، وحيث "كل ما نحبه يا حبي/ يهرب كالظل/ كهذه الارض البعيدة حيث يفقد الانسان اسمه/ لا شيء يستبقينا/ كمثل هذا المنحدر من الشربين حيث ينام/ أطفال من الحديد زرقٌ موتى" يقول، قبل ان يضيف ما يؤكد الوعد بعالم آخر وأرض أخرى، لكن خصوصاً بسماء أخرى يبدو الموت وحده بوابة العبور اليها: "يوماً سنمضي نحن أطفال الارض/ مع مناديلنا القرمزية/ نجعل العصفور يفرّ من يدي الحجر/ في بلدان الظلال - هذه النقّالات الحزينة (...) هكذا نمضي لاكتشاف السماء/ مع الظلال - هذه النقالات الحزينة/ بأثقالنا الكثيرة في حياة الغيوم الباردة/ كهؤلاء الذين ينامون في تراب الأبد".
لكن قبل ذلك، نراه يلوذ إما بهذا التوق الى ارض أخرى أو بطفولة يستعيدها على شكل ذكريات دافئة: "كانت أمي تشعل القناديل لكي تبعد عنا الاشباح/ وتعدّ أعمارنا على أصابعها عندما/ ترنّ ساعة الحائط". لكن في الحالتين لا سبيل للإفلات من أسر حزنٍ دفين وكآبة لا سبيل الى التحايل عليها، بل على العكس تكاد أحياناً تكون شرطاً من شروط السعادة. في قصيدة مهداة الى الشاعر جول سوبرفيل نقرأ: "لا سعادة يا جول إن لم تكن كآبة"، وفي أخرى مهداة الى "ناديا ت" يقول: "كانت أكثر شيخوخة من الزمن/ بيديها الشفافتين/ وبحزن الربيع في عينيها"، الى ان يبلغ هذا المنحى ذروته في قوله: "هناك أحزان ليست أحزاننا".
تُختتم المجموعة بقصيدة "حكاية عام الصفر"، ذات تركيب درامي نستعيد فيها جورج شحادة المسرحي الذي عرف أكثر من سواه ان يضخ القدر اللازم من الشعرية في الجملة المسرحية من دون ان يتركها ترزح تحت ثقلها، فنلمس هنا اكثر من اي مكان آخر في الاصدار، هذه الروح التخففية الطفلية لكن المحملة الكثير: "يقال عندما وُلد الطفل/ في اصطبل بائس/ دون زهور وبلا طبيب/ يقال ان الحمار والثور الأريحيين/ نفخا فوقه لأنه كان برداناً./ ليس هذا رأيي/ (ولا رأي طفولتي):/ كان الحمار والثور يرقصان البولكا!/ خطوة هنا/ خطوة هناك/ قرونٌ وحوافر/ ثم ثلجٌ أبيض./ هل يبرد/ الطفل - الملك/ الذي تغطيه الملائكة؟/ الحمار والثور يرقصان البولكا!/ آه يا ليلة الميلاد!.../ أيتها الليلة البيضاء".
sylvana.elkhoury@annahar.com.lb