(على هامش "خليل حاوي وتطوّر الشعر العربي الحديث" في الأميركية)

زينب عساف
(لبنان)

شاعر ومنتحر. ربما لا يحتاج الى ذريعة، الحديث عن خليل حاوي الذي اختار موته غداة الاحتلال الإسرائيلي لبيروت في العام 1982. وربما لا يربط بين حدثي الموت الشخصي والسقوط العام أكثر من حرف عطف في جملة درج الوسط الثقافي البيروتي والعربي على تردادها مذ شوهدت جثّة الشاعر ملقاة على شرفة منزله في شارع الخالدي مقابل الجامعة الأميركية. وسواء أجاء انتحار حاوي لسبب وجودي كامن، هو الرافض لشهادة تطوّبه بطلاً عاماً بقوله: "فلأمت غير شهيد/بقطع اليد من الوريد إلى الوريد"، أم لأسباب شديدة الالتصاق برحيل الأفكار القومية وسقوط مشاريع الاستنهاض، أم حتى لاجتماع تلك الأسباب جميعها، فإن هذا الانتحار "الشخصي" سيُعتبر دائماً تجسيداً فيزيولوجياً لإفلاسٍ عام، ومفصلاً في حركة الشعر العربي الحديث. لم يكن حاوي بعيداً عن فكرة الشاعر – النبي، ذات الجذور المهجرية، لكن الفارق بينه وبين المهجريين هو الاتجاه، على ما يلاحظ الباحث نديم نعيمة. ففي حين سلك المهجريون في نبوّتهم من الزمني إلى المطلق، أراد حاوي سلوك الطريق المعاكس: من المطلق إلى الزمني، بمعنى رفع الواقع المزري إلى مستوى المثال. هذا المشروع محكوم بالفشل مسبقاً، كما يستخلص نديم نعيمة، مشبّهاً حاوي بشخصية "الأرقش" في "مذكرات الأرقش" لميخائيل نعيمة، الذي تنتهي به الحال منتحراً أيضاً.

مؤتمر "خليل حاوي وتطوّر الشعر العربي الحديث" الذي انعقد في الجامعة الأميركية لمدة أيام ثلاثة، بدعوة من الجامعة ومن المعهد الألماني للأبحاث الشرقية، شكّل مناسبة لإعادة طرح الكثير من الأسئلة ولمحاولة كشف بعض الغموض الذي أحاط بموت حاوي، كما لإعادة قراءة هذا الشاعر وتحليل قصائده من وجهات نظر مختلفة ومتعددة، من خلال استضافته مجموعة كبيرة من النقّاد والباحثين من لبنان والعالم العربي وألمانيا. هذا ما نستنتجه من عناوين الجلسات الأربع التي أضاءت على تجربة حاوي: "النظرة إلى الذات والحضارة في أعمال خليل حاوي"، "اللغة الشعرية، البنية، الصورة"، "الخطاب الفكري والثقافي"، و"أعمال حاوي في سياقها التاريخي".
تناولت يمنى العيد في مشاركتها موضوع "حاوي والقناع"، فأشارت إلى كيفية انتزاع الشاعر للقناع من تاريخه المسرحي لاستخدامه في الشعر، موضحة أن هذا الاستخدام يندرج في حركة الحداثة العربية وهو يتمتّع بوظيفة في الصورة الشعرية للقصيدة، على ما كان حاوي يعتبر. وفصّلت في تناولها قصيدة "وجود السندباد"، دور القناع في تحديث القصيدة ونقلها من غنائيتها إلى بنيتها الدرامية، متحدّثة عن الحلم الذي هو حلم الانبعاث في رموزه التاريخية والأسطورية، ومتوقفة عند التناقض بين الزمني العابر، زمن المعيش، وزمن الرؤيا أو الحلم المحيل على المطلق، ثم وصول الأنا إلى مأزق هذا المطلق الذي سيؤدي إلى نهايتها الدرامية.
أما أسعد خيرالله فأشار في مداخلته إلى أن الرسالة النبوية ارتبطت ارتباطاً وثيقاً لدى حاوي ببعدين هما الأمة الخلاّقة الناهضة والشاعر النبوي المبدع، أي بالتوازي، أو حتى التماهي، بين الحيوية الإبداعية في الشاعر وفي الأمة. "فإذا درسنا شعر حاوي وجدنا أن أكثر الموضوعات تكراراً فيه ترتبط بحيوية الأمة وطاقاتها الإبداعية التي تمكّنها من الانتصار في صراع البقاء. فهو في هذا نيتشوي، جبراني". واعتبر خيرالله أن شعر حاوي راوح بين جدلية الخراب والقيامة، بين البوم والعنقاء، متحدّثاً عن البعد الطقوسي الذي يتيح تمثّل رسالة الشاعر وتحقيقها، بما ينطوي عليه هذا البعد من
من انتظار وترقّب وقلق وتضحية. في حين تناول أرنيم هينمان خصائص اللغة والصورة في شعر حاوي، مشيراً إلى البعد الميثولوجي الواضح في هذا الشعر، كما في "السندباد في رحلته الثامنة"، أو في "العودة إلى سدوم"، حيث بدا حاوي فيها وفي غيرها متأثراً بشخصيات توراتية مثل موسى وأيوب، أو آلهة قديمة مثل أدونيس وبعل.

حاوي ناقداً

عن صورة المرأة في شعر حاوي أشارت بثينة الخالدي إلى وجوه الأنثى الخمسة لديه، مشيرة إلى ابتعاد الشاعر عن الصورة الأنثوية المكرّسة في الشعر الكلاسيكي. أما صبحي البستاني فتحدّث عن "النص والتناص في شعر خليل حاوي"، معتبراً أن التداخل النصي أو التناص يضفي على إنتاج حاوي كل "ديناميكيته النصية"، ويضع تالياً منهجية محددة للقراءة تعطي القارئ دوراً طليعياً في تحقيق النص وإدراك أبعاده. وتوقف البستاني عند أنواع هذا التناص، فهناك "التناص الداخلي" المتمثّل في المقدّمات النثرية المقتضبة، و"الإقتباس الاستهلالي" الذي قد يتعدى الثلاثة في قصيدة واحدة، إضافة إلى "التناص الضمني" أو غير المباشر، حيث تبدو نصوص حاوي كأنها بنيت على قواعد نصوص سابقة.

ضمن جلسة "الخطاب الفكري والثقافي"، تحدّث عدنان حيدر عن موقع الشاعر في الشعر العربي الحديث، ولا سيما من خلال "بيادر الجوع"، مشيراً إلى أن التحديث في الشعر العربي تمّ بناء على مقاربتين، إحداهما قامت على الاستيراد، والأخرى، التي كان حاوي من أمثلتها، قامت على منح التراث جسداً جديداً أكثر انفتاحاً وعصرية. أما ريتا عوض، فأضاءت على تجربة حاوي ناقداً، والذي "تندمج في عمله العلاقات المتحولة ما بين الشعر والنقد، ممارسة الفن ونظريته في آن واحد". وفي هذا المعنى، شرحت عوض ان "النظرية تكون مرتبطة في الضرورة بالتجربة الشعرية والإبداع الشعري للشاعر - الناقد. لهذا فإن ظاهرة الشاعر - الناقد تبرز عند المنعطفات التي تتحوّل فيها الحساسية الفنية ويتجه الشعر فيها إلى التغيير والتجديد". وأشارت عوض إلى أن حاوي لم يترك كتاباً يتناول فيه تجربته الشعرية، لكنه خلّف تراثاً نقدياً وفكرياً حول قضايا الشعر والثقافة والحضارة، على شكل حوارات مع مثقفين وصحافيين، يقول بتهافت المفاهيم النقدية التي كانت سائدة حينذاك مثل الرمزية والسوريالية والرومنطيقية، ليضع تعريفه الخاص للشعر الذي استمدّه من "بداءة الفن الشعري" كما تمثّلت في كل شعر أصيل، على حد تعبيره.

وعن "رموز شعر حاوي وشيفراته"، استهلّ نبيل أيوب دراسته بتعريف الرمز، لاحظاً تقاربه مع الميثولوجيا والشعر، وطارحاً إشكالية علاقة الشعر والرمز بمنظومة القيم والأفكار المتضمّنة في الدلالة الثانية الرمزية. وختم بالتساؤل حول انحياز الشاعر إلى مثال أو نموذج أعلى ربط وجوده ومصير شعبه بتحقيقه.

مهجرية معاكسة

في الجلسة الرابعة المخصصة لأعمال حاوي في سياقها التاريخي، رصد جورج جحا للمرحلة التي تقع بين الحقبة التي كتب فيها حاوي شعراً بالعامية اللبنانية وسمّاه "الشعر الطليق"، وصدور مجموعته الأولى بالفصحى، "نهر الرماد"، فضلاً عن اتجاهه إلى كتابة مسرحية شعرية سماها "سالومي". واعتبر جحا أن القصائد العامية حملت بذور أفكار وسمات تطوّرت في وقت لاحق، حتى ليمكن وصفها بأنها وجدانية وذات طابع "فكري سياسي". وربط جحا بين مسيرة حاوي الشعرية وإعدام أنطون سعادة، ولا سيما في ظل القمع الذي شهدته تلك المرحلة.
وتحدّث نديم نعيمة عن خليل حاوي والمهجريين، الذين تقاطع معهم ابتداء من أواخر الخمسينات مع صدور ديوانه الأول. فحاوي الذي كتب أطروحة الدكتوراه عن جبران خليل جبران كان أغرم بالأخير في صباه وتابع حركة الأدب المهجريّ. وإذا كان حاوي اشترك مع المهجريين في حسّ عروبي بدئي انتهى بهم إلى نظرة عربية إبرهيمية للوجود، وفي مفهوم دور الشاعر، إلا انه اختلف عنهم في كيفية تطبيق هذا الدور على أرض الواقع.

أما محمود شريح فقدّم سيرة وثائقية عن الشاعر الراحل، تميّزت بالدقّة والظرافة، راصداً حياته المكثّفة والشاقة الممتدة من مولده في 31/ 12 / 1919 في قرية الهويّة في حوران حيث كان يعمل أبوه، وصولاً إلى انضمامه في العام 1934 إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، ثم انفصاله عن هذا الحزب في العام 1951 ونشره قصيدة "الذرى البيضاء" في العام 1955، ثم صدور ديوانه الأول في العام 1957، وحتى انتحاره قرابة الساعة العاشرة والنصف مساءً على شرفة منزله المطلّة على ساعة الجامعة الأميركية في 6/6/ 1982.
أما اللقاء الأخير الذي أقيم في "المعهد الألماني للدراسات الشرقية"، فخصص لقراءات شعرية للشاعر الراحل، شارك فيها الشعراء شوقي أبي شقرا وناظم السيد وبانة بيضون.

Zeinab.assaf@annahar.com.lb

13 حزيران 2007-النهار