زهير أبو شايب
(الأردن)

زهير أبوشايبأنا من جيلٍ لم يستطع أن ينجز أيّ شيءٍ. . لم يستطع أن ينجز نفسَه، ولم يستطع أن ينجز تاريخَ نفسِه، لا لأنّه مصابٌ بلعنةٍ ما، ولا لأنّه جيلٌ قاصر، بل لأنّ ثمّة تاريخًا غاشمًا ورثناه، نحن أبناءَ هذا الجيل، وكان علينا أن نتحمّل تبعاته الضخمة، وأن نحصد الهزيمة تلو الهزيمة في حروب خاضها زمانٌ آخر غير زماننا، كما كان علينا أن نقف دائمًا < أمام > الماضي، و< وراء > المستقبل، لكن ليس < في > أيّ حاضرٍ يخصّنا.
نعم !!
أنا من جيلٍ لم ينجز شيئًا. . من جيلٍ عربيّ أطيحَ به تمامًا، ولم يُسمح له بأن يطلّ على مشهد آخر غير الخراب. لقد أصبح أبناء هذا الزمان العربيّ، الّذي يقف جيلي على هاويته الرهيبة، لا يؤرّخون لذاتنا الجمعيّة إلاّ بالنكسات والهزائم، بدءًا من < نكبة > عام 1948م، ومرورًا بالعدوان الثلاثيّ على مصر عام 1956م، فهزيمة حزيران عام 1967م، فاجتياح بيروت عام 1982م، وصولاً إلى سقوط بغداد عام 2003م، ثمّ لا أحد يدري ماذا بعد.
نحن لم نعش لذّة الخمسينات والستّينات، حيث كان العربيّ قادرًا على الحلم. لم نشبع من عبد الناصر. ليس لدينا عبد الحليم حافظ، ولا ناديا لطفي، ولا صوت العرب، ولا بيروت الخمسينات والستّينات. إنّ أحدًا، من غير هذا الجيل، لن يدرك ـ ربّما ـ معنى أن لا يكون ثمّة جمال عبد الناصر أو عبد الحليم حافظ. . لن يدرك ـ ربّما ـ معنى أن تكون على وشك كلّ هؤلاء ـ في لحظة سطوعهم ـ ثمّ فجأةً يتبخّر كلّ شيءٍ، ولا يبقى ( إلاّ وجه الريب الصمد ) كما يقول ابن جيلي الشاعر طاهر رياض.
نحن ولدنا في لحظة الغسق العربيّ، حيث كان كلّ شيءٍ يتأهّب للأفول ؛ ونضجنا ـ إذا كنّا نضجنا حقًّا ـ في هذا العماء المطبق المليء بالكوابيس والانهيارات. ترى، لو أراد شخصٌ ـ مثلي ـ من أبناء هذا الجيل : لم ينجز شيئًا في حياته. لم يحلم. لم يصادف أيّ نجمٍ في طريقه، ولا أيّ شعاعٍ هارب. . ترى، لو أراد أن يكتب مذكّراته أو سيرته الاسترجاعيّة، ما الّذي سيكتبه ؟ وما هو الذاتيّ الّذي سيتحدّث عنه في سيرته ( الذاتيّة ) ؟ وما حجم ( البطل ) الّذي يحمل كالجذع قامتَه الوجدانيّة وتاريخه الشخصيّ وتاريخه العامّ ؟

كان ينبغي لهذا الجيل أن ينجز حربًا ما على الأقلّ، لكي يقول إذا هُزمَ : لقد هُزمت. كان ينبغي أن ينتج الهزيمة لكي تكون هزيمتـَ ( ـه ) ويسمّيها باسمه، ولكي يبحث في مادّتها عن تاريخٍ هو تاريخـ ( ـه ) حتّى وإن كان سلبيًّا. لكنّ هذا الجيل (انسحب) قسريًّا إلى العمل أو الدراسة أو الخواء، وتبعثر خارج التاريخ.
سأكون كاذبًا إذن ـ حين أكتب سيرتي الذاتيّة ـ إذا أوحيت أنّني أنجزت شيئًا أو صنعت تاريخًا، لذا لا بدّ لي من الاعتراف، باسم جيلي كلِّه، بأنّني كنت مجرّد نملةٍ شغّالةٍ ضمن سطرٍ طويلٍ من النمل الممسوح، وأنّ وجودي برمّته معلّق كجسرٍ متخيَّلٍ فوق هاويةٍ تفصل ما بين جيلين : جيلٍ مضى، وجيلٍ لم يأتِ بعد، ولعلّ هذا الاعتراف هو البطولة الوحيدة الّتي يمكن لي أن أنسبها إلى نفسي.
إنّ هذا الخواء الجليل، بحدّ ذاته، هو ملمح فارق لنا. لكنّه لا يكفي لأن نكتب به سيَرًا ذاتيّةً تقليديّة. أليس من الملاحَظ أنّ فنّ السيرة الذاتيّة، في أدبنا العربيّ الراهن، قد أصبح شبه منقرض ؟
إنّ سيرة الذات، بالنسبة لأبناءِ هذا الجيل، ليست سيرة نموّ الذات، بل هي سيرة محوها وتحوّلها التراجيديّ من ( ذاتٍ ) تخصّ ذاتها إلى (موضوع) يخصّ ذواتٍ أخرى. إنّها سيرة ما هو مفقود وما هو متاخم لليأس. تلك هي سيرتنا المعكوسة الّتي تبدأ بالموت ولا تنتهي بالولادة، والّتي تتحوّل فيها الأحلام إلى كوابيس والمتاقات إلى خيبات.
لذا نكتب عن تلاشينا. . عمّا لا نفعله ولا نفعل أنفسَنا به. . عن عطلتِنا الطويلة. . عن موتنا. . عن تجارب لا بطل فيها، ذلك لأنّنا نعيش حالة المفعول أو المنفعل أو المفتعل، لكن ليس الفاعل. هكذا تمامًا سقط نموذج البطل لدينا في الأدب كما في الحياة، وعشنا سقوطه بشكلٍ كامل وحقيقيّ.
نحن الّذين سقَطناه لا سوانا.
ونحن الّذين سقطت أصواتنا في هاويته العظيمة لا سوانا.
نكتب عن اللاشيء الّذي خبرناه جيّدًا، ونكتب لـِ لا أحد، لأنّه ما من غاوين يرغبون في أن يتّبعونا. . إلاّ الّذين آمنوا. لكنّنا نكتب ربّما لنوهم أنفسنا بأنّنا فعلنا شيئًا.


إقرأ أيضاً:-