زياد خداش
(فلسطين)

محمود درويشفي كل مرة أغادر فيها أمسية لمحمود درويش متجها نحو بيتي، اشعر ان الليل ليس هو الليل، وان الهواء ليس هو الهواء، وان الكتابة ليست هي الكتابة، لكن ما حدث معي ليلة أمسية الخميس الماضي6-4 في قصر الثقافة برام الله، لم يكن يشبه ما اعتدت على إحساسه، لقد حدثت أشياء غريبة تلك الليلة، محمود درويش الظاهرة الغريبة التي لا نمل منها، مرض صدره الخفيف <قلت في سري : أيها المرض توزع فينا وابتعد عن محمود>، تعليقاته السريعة والأنيقة بين القصيدة والأخرى، التي تشبه مداخل و هواجس لقصائد جديدة، زيارة الرئيس المفاجئة والتي أسالت الدمع الصامت من عيني، وجود رجل امن شهير في القاعة مبتسما و مصغيا للشعر، الحشود الهادئة التي تدفقت على البوابة نساء ورجالا، وحتى أطفالا، طوابير السيارات التي اصطفت على المدخل، القطة المتوحشة ذات العينين الزرقاوين التي نهشت رتابة روحي في عتمة القصر النحيلة وداعبت خصلاتها عزلة أذني وهي تهمس: زياد خداش: نحن نحبك الموسيقى التي غنت أجسادنا، ورقصت روحنا، جنة العطور النسائية التي غرقت فيها، خلفي وحولي وأمامي،المرأة الشقراء، شديدة الجمال، عنيفة الأنوثة التي كانت تجلس أمامي متحمسة ومنفعلة، كنت قد صادفتها في احد المحال تسأل عن آخر أغنيات نانسي عجرم، عودتي إلى البيت ليلا، مشيا على الأقدام، عبر جبال سردا ووديان الجلزون، مصحوبا بأشباح جنود أو أصوات كلاب أو ظلال أشجار أو بيوت أو لهاث لصوص، ما الذي حدث لي تلك الليلة يا محمود درويش؟ ما الذي فعتله بي؟ في كل مرة اسمع فيها شعرك بصوتك، افرح، افرح فرحا غير عادي، فصوتك يعطي شعرك طابعا سماويا، وطعم تلال منصوبة، بإصرار ومكر في وجه الزمن الذي يريد ان يسوي الأرض بجرافته، صوتك وأنت تتغزل بالنساء الطويلات والقصيرات، يفرح حتى الشهداء في قبورهم، لماذا تصفق بقوة تلك المرأة الشقراء التي أمامي؟، يا سيدة: الست أنت من سألت قبل أيام عن آخر أغنيات نانسي عجرم في المحل الفاخر، نانسي ليست هنا، هي في القاعة المجاورة لا تسمعني المرأة، تبتسم، وسط صخب الأكف المحمومة، تعتقد أني أتغزل بها، وفجأة اسمع صوتا بداخلي يقول : لماذا أنت حانق هكذا، إلا يدل وجود المرأة هنا إلى عظمة شعر درويش الذي يسحب الأذواق الفاسدة، يكررها، يطهرها ويخطفها، يرحلها إلى جمالها الضائع، لم يكن احد يعرف ان الرئيس أبو مازن سوف يأتي، لم يكن احد يتوقع، فأبو مازن مشغول بأوضاع البلد غير المستقرة، ولكن قصيدتك أحضرته يا محمود درويش، جميلا وأنيقا استجاب الرئيس إلى نداء العشب والغيم فيه، مر الرئيس بجانبي بهدوء، يتحسس طريقه بلا حراس، هابطا نحو القصيدة، نحوك يا محمود، وأخيرا يأتـي السياسي، مبتسما لا متشنجا و معترفا بعظمة الثقافي، يجلس مستمعا لصوت الحلم، صوت الخلود، قطة متوحشة بعينين زرقاوين، وشعر اسود وخارج لتوه من معركة حب شرسة مع الماء، تجلس بالقرب مني على درج القصر، يسلم احد علي ذاكرا اسمي، فتندهش القطة: أنت زياد خداش؟ نحن نحبك، فأقول لها شبه غائب عن الوعي بتأثير صوت درويش ووجود الرئيس، ورقص العطور: أنا أحبكم أيضا، لم أكن اعرفها، لكني رأيت فيها الوطن والشعر والأنوثة، هذا الثالوث يسحرني حين يلتقي، وأصبح فجأة طفلا، يبحث عن لعبة ألوان يلطخ بها نظام الأشياء ووجهها، وهكذا كنت في أمسية درويش الأخيرة، كان كل شيء يختلط بكل شيء فيما يشبه كرنفال احتفالي حلمي في رأس نمر متقاعد، النساء والشعر والرئيس والشهداء، والعالم والموت، والقصر والقطط، والعطور، وشهقات الأجساد المتعرقة، والموسيقى. عائدا إلى البيت، أتعثر بالصخور والشوك والظلام، يرن صوت درويش العظيم في روحي وهو يقول: فانتظرها فانتظرها، في الصباح، سوف اذهب إلى المدرسة، وفي الخمس دقائق بين الحصص المخصصة لراحة المعلمين، سوف اركض إلى الأعمال الكاملة لمحمود، زملائي سوف يشربون القهوة ويدخنون متكئين بكآبة فظيعة على حواف النوافذ، ينظرون للبعيد، البعيد عن رتابة الصفوف وتكرار الدروس، أنا لا أدخن ولا اشرب القهوة، غريب هذا المعلم، لا قهوة لا دخان، كيف يعيش،؟؟ سأقول لكم كيف يعيش: صفحة واحدة من شعر محمود درويش كل يوم، أغنية لفيروز، التسبب في ضحكة طفل في الطريق، نص ليلي أنزفه باكيا أو راقصا، شهقة عنق صديقتي بين يدي
هكذا أعيش، لا احتاج القهوة ولا الدخان، فكل أشجار البن في روح درويش، وكل دخان العالم في شعر درويش، محمود ظاهرة غير معتادة، لا يسمح لأحد ان يعتاده، فالعادة تولد النسيان وتشبه الموت، يفاجئنا كل يوم، بطريق التفافية جديدة نحو جمالنا، ورشاقتنا، هو رسول ينابيعنا وروعتنا وفضائحنا الجميلة وأخطائنا الرائعة،

حبيبي محمود، لا استطيع التفريق بينك وبين نشيدنا الوطني، فحين ينشد طلاب مدرستي النشيد الوطني أراك تتحرك راقصا في حناجرهم بوجهك الفلسطيني جدا والكوني جدا، يصعب على جدا ان أفصلك عن فكرة الحرية والاستقلال،
فحين يسقط شهيد، أراك تغني على تلة وجهه، وترسم غيمة، كيف يمكن فصلك عن حدودنا الوطنية، عن مياهنا الإقليمية عن انطلاقة ثورتنا؟؟، عن ألوان علمنا،؟؟ أنت اللون الخامس، أنت اللون الخامس، فكن دائما بخير، كن بخير،

ziadkhadash@hotmail.com