كان التنوير الأوروبي قد أكد لأول مرة على كونية العقل والجنس البشري والحقوق البشرية. وهو الذي أطاح باللاهوت المسيحي القروسطي الطائفي(أي الذي ما كان يعترف الا بحقوق الانسان المسيحي أو حتى الكاثوليكي اذا كان البلد ذا أغلبية كاثوليكية، والبروتستانتي اذا كان ذا أغلبية بروتستانتية). وأحلّ محلّه الفلسفة السياسية الحديثة التي تعترف بالانسان كانسان بغض النظر عن مشروطياته العرقية او الدينية او المذهبية. انظر: مونتسكيو،فولتير،روسو،الموسوعيين،كانط، والمنفعيين الانكليز الذين يعتبرون ان معيار أي سلوك وقيمته هو الشيء التالي: خدمة الفرد والمجتمع ككل وليس خدمة الطائفة او العشيرة فقط. ينبغي العلم بأن عصر الأنوار دشن العولمة الأولى كما يقول الفيلسوف الفرنسي لوك فيري في كتابه الممتع الأخير الذي نعتمد على بعض أطروحاته الآن[1].
وهي عولمة كونية متفائلة بمستقبل الانسان والجنس البشري. فالفكر الذي أسسه علماء تلك الفترة وفلاسفتها كان يعتقد بامكانية التحسين البطيء والمتدرج ولكن المحتوم للوضع البشري. وهذا التحسين يتم عن طريق العلم والسياسة في آن معا.فالعلم كما قال ديكارت هو الذي يجعل الانسان سيدا على الطبيعة ومتحكما بها.فهو الذي يؤدي الى اختراع الآلات التكنولوجية التي تخفف من الجهد العضلي للانسان او حتى تلغيه تماما وتعفي الانسان منه ومن تعبه المضني. مع التنوير تجاوز الفكر الاوروبي العصر اللاهوتي المسيحي الذي كان يحصر همه بمصلحة المؤمن المتدين المعتنق للمسيحية.فهو وحده الانسان الكامل المتكامل في المنظور اللاهوتي.
وأصبح يتوجه بالخطاب الى الانسان أينما كان وبغض النظر عن حيثياته الدينية او العرقية او المذهبية.أصبح الانسان العلماني (او المدني كما يقال حاليا) بحد ذاته قيمة ولم تعد القيمة محصورة بالانسان اللاهوتي. بهذا المعنى فان خطاب التنوير كان يخترق كل الاديان والأعراق والطوائف ويتجاوزها تماما. من هنا عالميته او كونيته. ثم مع اكتشاف مبدأ العطالة الذاتية والجاذبية الكونية راحت الثورة العلمية في أوروبا تدشن لأول مرة في تاريخ البشرية خطابا موجها الى البشر كلهم فيما وراء الحدود الفاصلة بينهم. في السابق كان الخطاب موجها الى أبناء ديني او عرقي فقط ولم يكن يشمل الجنس البشري بل ولا يخطر على باله ذلك. بل وحتى داخل الدين الواحد كان الخطاب موجها الى أبناء مذهبي او طائفتي من دون كل المذاهب والطوائف الأخرى. فاذا كنت في بلد ذي أغلبية كاثوليكية فان الانسان الكامل الحقوق هو الانسان الكاثوليكي.واذا كنت في بلد ذي أغلبية بروتستانتية فالعكس هو الصحيح.
وقل الأمر ذاته عن الانسان السني او الانسان الشيعي داخل العالم الاسلامي.أما بعد عصر التنوير فأصبح الخطاب موجها الى البشرية بأسرها. ان اعلان حقوق الانسان والمواطن الذي دشنته الثورة الفرنسية لم يكن موجها الى المسيحيين فقط او الى الكاثوليكيين داخل المسيحية.وانما كان ينطبق على الانسان أيا يكن دينه او مذهبه:مسيحي،مسلم،يهودي،كاثوليكي،بروتستانتي،سني او شيعي،الخ. وقل الأمر ذاته عن الاعلان العالمي الذي أصدرته الأمم المتحدة عام 1948 والذي كان أكثر نضجا واكتمالا. هنا تكمن قطيعة الحداثة الكبرى او قطيعة التنوير.وهي قطيعة لم تحصل بعد في العالم العربي أو الاسلامي. وأكبر دليل على ذلك ما يحصل حاليا في بلداننا.فنحن لا نزال ندعو في خطاباتنا وصلواتنا:اللهم انصر الاسلام والمسلمين،ولا نقول اللهم انصر البشر أجمعين او ارفق بهم..نادرا ما نقول: اللهم انصر المستضعفين المظلومين في الارض أينما كانوا ولأي نحلة او دين انتسبوا.هذا شيء يتجاوز وعينا ويجرح مشاعرنا او يصدم عواطفنا الايمانية التقليدية التي تربينا عليها منذ طفولتنا ونعومة أظفارنا.
ولكن التنوير على الرغم من انجازاته الكبرى راح يتأقلم مع الظاهرة الاستعمارية،ومع الامبريالية الغربية،بل وحتى مع العنصرية أحيانا كما يعترف لوك فيري شخصيا(المصدر السابق.ص 255).او قل انه لم يستطع ان يمنع كل ذلك[2]. لا ريب في ان هناك فلاسفة تنويريين ضد الاستعمار كروسو والأب راينال وديدرو وسواهم..يقول روسو مثلا:
"نظام الرق لاغ ليس فقط لأنه غير شرعي وانما ايضا لأنه عبثي ولا معنى له.لا يمكن لنظام العبودية والقانون ان يجتمعا. انهما متناقضان. لو كنت زعيما لأحد شعوب افريقيا السوداء لنصبت مشنقة على الحدود وعلقت عليها أول أوروبي يتجرأ على دخول البلاد".
ويقول مونتسكيو:
"نظام الرق والعبودية مضاد للقانون الطبيعي الذي بموجبه فان كل الناس أحرار مستقلون.وبالتالي فيحق للعبد الاسود ان يهرب ويربح حريته.ان حرب سبارتكوس هي اكثر الحروب مشروعية في التاريخ".
هذا الكلام الجميل لم يمنع مونتسكيو من احتقار العرق الاسود كمعظم فلاسفة التنوير كما سنرى لاحقا.
ويقول جان جوزيف دو بيشميرجا:
"أي شخص يبرر نظام الرق الشنيع هذا لا يستحق من الفيلسوف الا الاحتقار الشديد،ومن الزنجي الا ضربة خنجر"!
ويقول ديدرو:
"لقد أجبرناهم لا أقول على وضع العبد وانما على وضع الدابة.ثم نزعم بعدئذ بأننا عقلاء وأننا مسيحيون!
ثم يردف قائلا:
ان شراء الزنوج واخضاعهم لوضعية العبد والمتاجرة بهم يشكل انتهاكا لمباديء الدين والأخلاق والقوانين الطبيعية وكل حقوق الكائن البشري[3]".
هذا الموقف المبدئي من نظام الرق يمثل مجد فلاسفة التنوير ومفخرتهم. ولكن المشكلة هي انه لا يعني المساواة بين البيض والسود على الرغم من ادانته لنظام الرق.فهذه فكرة(أي فكرة المساواة بين الابيض والاسود) كانت سابقة لأوانها بل وتمثل اللامفكر فيه بالنسبة لفلاسفة القرن الثامن عشر. فعلى الرغم من ادانة معظمهم لنظام الرق العبودي الا ان بعضهم كان يجد له جوانب ايجابية. لنضرب على ذلك مثلا فولتير ومونتسكيو. صحيح انهما كانا يعتقدان بأن الاستعمار والمتاجرة بالعبيد هما مضادان للعقل والعدالة البشرية.ولكنهما كانا يعتقدان ايضا بأن هذين الشيئين هما سبب التقدم المادي في أوروبا.وهو تقدم أدى الى ازدهار العقل وتراجع العقلية الغيبية الخرافية المسيحية.من هنا الطابع التناقضي للمسألة.
ولكن كان هناك آخرون مع الاستعمار ويبررونه بحجة تحضير الشعوب:اي ادخال الشعوب المتخلفة في الحضارة…ينبغي العلم بأن لامارتين وفيكتور هيغو وجول فيري وكيبلنغ وحتى الاشتراكي ليون بلوم كانوا يشيدون بالرسالة الحضارية لبلدانهم وضرورة ان تقوم بتحضير الشعوب "الهمجية" كما كانوا يقولون آنذاك.وبشكل عام كانوا يعتقدون بأن أوروبا الحضارية المستنيرة سوف تجدد البشرية. وأما جول فيري فقد صرخ قائلا أمام البرلمان الفرنسي: "ينبغي ان نقولها بكل صراحة:الأعراق العليا تقع على كاهلها مسؤولية تجاه الأعراق الدنيا:ان عليها واجب تحضيرها وترقيتها ونقلها من حالة الهمجية الى الحالة الحضارية".. أيا يكن من أمر فان الاستعمار يشكل أكبر خيانة للتنوير في أعلى ذراه انسانية على الأقل.ولكن كما قلنا فان التنوير الأول الذي قضى على التعصب الطائفي ومحاكم التفتيش المسيحية لم يكن قادرا على توسيع نظرته الانسانية المتسامحة لكي تشمل السود مثلا.والآن عندما نستعرض آراء بعض الفلاسفة بهم نجد أشياء تصدمنا وتفاجئنا ولا نتوقعها على الاطلاق.يقول مونتسكيو مثلا:
"هؤلاء الذين نتحدث عنهم سود من أعلى رأسهم الى أخمص قدميهم.وأنفهم أفطس الى درجة انه لا يمكن ان تحزن عليهم او تتعاطف معهم.انه لمن المستحيل ان تعتقد ان أشخاصا من هذا النوع هم بشر"!
وأما فولتير فيقول عنهم ما يلي:
"عيونهم المدورة،وأنفهم الافطس،وشفاههم الغليظة دائما، وآذانهم المختلفة،وصغر دماغهم،كل ذلك يضع بينهم وبين بقية البشر اختلافات ضخمة.وهذا الاختلاف ليس مرده البيئة الافريقية الحارة على عكس ما نتوهم.والدليل على ذلك انه حتى لو نقلنا الزنوج والزنجيات من بيئتهم الأصلية الى بلاد أخرى باردة فانهم يظلون ينجبون حيوانات من أشكالهم!..".
وحتى كانط العاقل الرصين كان يقع أحيانا في مطب الاحكام العنصرية عندما يقول:
"من بين مئات الالاف من الأفارقة الذين نقلوا الى خارج بلدانهم لا يوجد شخص واحد نبغ في أي علم او فن..وذلك على عكس البيض الذين ينبغون حتى ولو نقلوا الى خارج بيئاتهم الأصلية بمسافات بعيدة."..
ومعلوم ان كانط كان يضع السود في أسفل السلم البشري، ويصف اليهود بأنهم مرابون ونصابون وغشاشون..
وأما تلميذه فيخته فكان يمجد العرق الالماني الى أقصى الحدود ويعتبره عصارة العرق الأبيض او جوهره:انه لب اللباب.ومن شدة كرهه لليهود كان يعتقد بأن القديس يوحنا كان يشك في الأصل اليهودي ليسوع المسيح.وهكذا ساهم في خلق أسطورة المسيح الآري او الاوروبي على الأقل.انه مسيح أوروبي أشقر، لا شرقي أسمر!
وأما هيغل فكان يعتبر ان الأعراق السوداء متدنية بطبيعتها وعاجزة عن التطور.وكان يعتقد مثل فيخته بتفوق العرق الآري على العرق السلافي والعرق اللاتيني.وكان يهاجم اليهود بعنف شديد.
أما موسوعة ديدرو ودلامبير فكانت تدعو الى المساواة بين كافة الأعراق البشرية.كما وكانت تدعو الى الغاء الرق والعبودية.وعلى الرغم من ان ديدرو كان يحب منتجات التجارة الاستعمارية كالقهوة والشوكولاتة والسكر الا انه كان يدين المتاجرة بالسود بشكل قاطع.وقد اتخذ موقفا واضحا جدا ضد الاستعمار.
هناك ايضا أحكام عنصرية عنيفة جدا ضد اليهود وبخاصة لدى فولتير.يقول مثلا:
"كيف يمكن ان ينوجد شعب حقير كهذا الشعب على وجه الأرض؟"
أو: "لو قرأنا تاريخ اليهود مكتوبا من قبل مؤرخ ينتمي الى أمة أخرى معادية لهم لما صدقنا كل هذه الفظائع المنسوبة اليهم. بالكاد نستطيع التصديق بأن هذا الشعب قدم من مصر بأمر مباشر من الله لكي يدمر سبع او ثمان أمم صغيرة ما كان يعرفها سابقا. لقد راح يذبح دون أي رحمة او شفقة النساء والأطفال والشيوخ العجائز غير موفر الا الصبايا البالغات من اجل سبيهن. بالكاد نصدق ان هذا الشعب عوقب من قبل الهه لأنه وفر شخصا واحدا من الذبح!عندما نطلع على كل ذلك فاننا لا نكاد نصدق ان شعبا حقيرا كهذا وجد على سطح الارض.سوف نتخيل ان مؤرخا معاديا كتبه لتشويه سمعتهم.ولكن بما ان اليهود أنفسهم يروون كل ذلك في كتبهم المقدسة عن أنفسهم فاننا مضطرون لتصديقهم."!.
أو: "انه شعب الخرافات،جشع لأرزاق الآخرين،همجي".
أو: "اليهود هم أعداء الجنس البشري"
ثم يقارن زعيم التنوير الاوروبي بين العرب واليهود معطيا الأفضلية للعرب:
"اذا كان الاسماعيليون(أي العرب)يشبهون اليهود من حيث الهيجان والتعطش للنهب والسلب الا أنهم يتفوقون عليهم بما لايقاس من حيث الشجاعة والأريحية والكرم وسمو النفس(…) هذا في حين أننا لا نرى في تاريخ الشعب العبراني أي مثل على الكرم والشهامة.فهم لا يعرفون معنى الضيافة ولا السخاء ولا الرأفة ولا التسامح.ذلك ان سعادتهم العظمى تكمن في ممارسة الربا مع الأجانب واستغلالهم الى أقصى حد ممكن. وروح الربا هذه مغروسة في أعماق أعماقهم.وهي كما نعلم أصل كل خسة وجبن ودناءة(…)ان كل أمجادهم تكمن في استباحة القرى التي يستولون عليها بالحديد والنار ذابحين الأطفال والشيوخ غير موفرين الا الصبايا البالغات.انهم يقتلون أسيادهم عندما يكونون عبيدا وتسنح الفرصة لهم.وهم لا يعرفون أبدا الغفران عندما يكونون أقوياء، منتصرين.انهم أعداء الجنس البشري!". الخ.
غني عن القول ان هذا التعميم خاطئ ولا ينطبق الا على متعصبي اليهود والصهاينة الغلاة.فاليهود قدموا للحضارة البشرية الكثير من العباقرة في شتى المجالات.
وهناك أحكام عنصرية او طائفية مسبقة عديدة ضد المسلمين.وهي كليشيهات خاطئة لا تزال سائدة حتى الآن.فمثلا شاتو بريان يقول ما معناه:
"الاسلام يجبرهم على الجهل والجمود مدى الحياة"
واميل زولا يقول:
"المسلمون متعصبون بطبيعتهم وجوهرهم".[4]
وأما ارنست رينان فكان يعتقد بان العرق السامي لم يخلق للحضارة والفلسفة والفكر العقلاني.وكان يقصد بالساميين هنا العرب وليس فقط اليهود. وهذا الاعتقاد كان شائعا في القرن التاسع عشر.فهناك أعراق بشرية خلقت للحضارة وأعراق أخرى لم تخلق لها.وربما انقرضت طبقا لنظرية داروين في الاصطفاء الطبيعي:البقاء للأقوى او للأصلح..فما فائدة أعراق غير حضارية على هذه الارض؟لسنا بعيدين جداعن هتلر هنا..
كان يقول عن الاسلام مثلا:
"الاسلام هو النقيض المطلق لأوروبا الحضارية المبدعة.الاسلام هو التعصب الأعمى.الاسلام هو احتقار العلم والغاء المجتمع المدني.انه يجسد التبسيط الرهيب للروح السامية.انه يقلص الدماغ البشري ويغلقه ضد كل فكرة رقيقة ناعمة،وضد كل عاطفة راقية،وضد كل بحث عقلاني،لكي يضعه أمام لغو أبدي يتمثل في العبارة التالية:الله هو الله[5]".
ثم يقول:
"بالنسبة للعقل البشري فان الاسلام لم يكن الا ضررا.لقد اضطهد الفكر الحر لا أقول اكثر من الأديان الأخرى ولكن بفعالية اكثر.لقد جعل من البلاد التي انتشر فيها مناطق مغلقة على الثقافة العقلانية للروح"
ولكن الغريب العجيب ان رينان الذي يقول هذا الكلام ضد الاسلام يقول ايضا هذه العبارة المعجبة جدا بالاسلام:
"بحياتي كلها لم أدخل الى مسجد الا وانتابتني قشعريرة ايمانية، بل وتأسفت لأني لست مسلما"!
وكان يعترف بعظمة الحضارة الاسلامية في الماضي وأنها أشعت على العالم وأنجبت كبار العلماء والفلاسفة وكانت أستاذة لأوروبا[6].ولكنه في ذات الوقت لا يستطيع التخلص من أسر النظرية العنصرية التي هيمنت على القرن التاسع عشر والتي تقول بأن الجنس الاوروبي هو وحده المبدع فلسفيا وحضاريا!من هنا الطابع التناقضي المحير لفكر ارنست رينان فيما يخص العرب والمسلمين على الأقل..وعلى أي حال هذه نقطة تحتاج الى تعميق أكثر.
ليس غريبا اذن ان يكون هتلر قد وضع العرب واليهود والسود والغجر في مؤخرة تصنيفه للأجناس البشرية التي يقع على رأس هرمها العرق الآري الجرماني.فهل كان تلميذا مباشرا لفيخته؟هذا لا يعني اطلاقا اننا نساوي بين مجرم شهير كهتلر وبين الفلاسفة الكبار المذكورة أسماؤهم بمن فيهم رينان.فلا مجال للمقارنة والعياذ بالله!
يضاف الى ذلك انه ينبغي ان نموضع كل هذه الاستشهادات ضمن سياقها التاريخي قبل مائتي سنة او اكثر لكيلا نسقط على مؤلفيها أفكارنا التحررية اليوم.والا فسوف نظلم بعضا من أهم المفكرين في تاريخ البشرية. هذا من جهة.وأما من جهة أخرى فلم يعد يوجد مفكر أوروبي واحد يتبنى هذه النظرة الاحتقارية للشعب الأسود اللهم الا اذا كان ينتمي الى تيار اليمين المتطرف او النازي.بل وحتى الناس العاديين في أوروبا أصبحوا يستهجنونها فما بالك بالمثقفين؟ وكثيرا ما تجد أوروبية شقراء في أحضان افريقي أسود في شوارع باريس او لندن او بقية العواصم الاوروبية.وهذا الشيء كان مستحيلا في القرن التاسع عشر.لنفكر ولو للحظة ببودلير والفضيحة الكبرى التي أحدثها عندما عشق الزنجية الحسناء جان دوفال وكان يتبختر معها في شوارع باريس لاغاظة البورجوازية الفرنسية والاستماع بحرق أعصابها.شكرا بودلير! ولكن ليس كل الناس مجانين مثل بودلير:أقصد سابقين لأوانهم بكثير.. وهنا نلمس لمس اليد الفرق بين التنوير الاول،والتنوير الثاني.فما كان التنوير الأول عاجزا عن تحقيقه حققه التنوير الثاني الذي مشى في اتجاه التحرر والنزعة الانسانية خطوة اضافية الى الأمام.ولولا التنوير الثاني أصلا لما تمكن شخص أسود كباراك حسين أوباما من اعتلاء عرش البيت الأبيض.
هكذا نجد ان معركة التنوير طويلة،معقدة،لا يمكن حسمها الا على مراحل متتالية..وبالتالي فلا يمكن ان نطالب مجتمعاتنا العربية بتحقيق مباديء التنوير الديني والفلسفي في سنوات معدودات.هذا شيء يتجاوز طاقتها وامكانياتها في الظروف الحالية الشديدة الصعوبة والمعاناة.ويمكن القول بأنه اذا لم تنحل قضية فلسطين بشكل عادل او نصف عادل او حتى ربع عادل فان الايديولوجيا الاصولية ستظل منتصرة على الفلسفة التنويرية الى أجل غير مسمى.وقل الأمر ذاته عن الأمية والفقر المدقع والجهل الذي يصيب شرائح واسعة من السكان.هذا ناهيك عن الحروب الأهلية والعصبيات الطائفية والمذهبية التي تشعلها وتعصف بمعظم بلداننا حاليا او تهدد وحدتها الداخلية.فكلها عوامل سلبية تحول دون انتشار الأفكار التنويرية عن التراث والدين في أعماق الجماهير. ولهذا السبب فان أغلبية الشعب تظل مخلصة لرجال الدين والفضائيات الاصولية التي تبث الأفكار التعصبية والفتاوى الفقهية القديمة على مدار الساعة. قلت "قديمة" ولكنها لم تفقد ذرة من مصداقيتها حتى الآن.على العكس فانها تفرض نفسها على الجماهير وكأنها معصومة والهية.ولو ان التنوير انتصر لزالت هذه العصبيات الطائفية وتلك الفتاوى القروسطية من الوجود او لضعفت كثيرا على الأقل.غني عن القول ان الاستبداد السياسي-البوليسي وحكم الحزب الواحد والجريدة الواحدة يسهمان ايضا في هذا الانسداد التاريخي الذي نعيشه منذ عقود (ان لم يكن منذ قرون!) والذي أدى أخيرا الى هذا الانفجار الكبير..
[1]انظر كتاب لوك فيري الأخير: المثقف اللامتثالي. سيرة ذاتية- فكرية.منشورات دونويل. باريس. 2011ص 254
وهو عبارة عن سلسلة مقابلات متواصلة مع الباحثة أليكسندرا لينييل-لافاستين
Luc Ferry :L’Anticonformiste.Une autobiographie intellectuelle.Entretiens avec Alexandra Laignel-Lavastine.Denoel.2011.p.254
[2] في القرن الثامن عشر كانوا يتصورون مصير البشرية على أساس أنه مسار متقدم تدريجيا الى الأمام.كان الفلاسفة يعتقدون بأن المسار الطويل للبشرية منذ مرحلة الهمجية وحتى مرحلة الحضارة هو مسار صاعد وفقا لايديولوجيا التقدم المتفائلة لعصر الأنوار.ما عادوا ينظرون الى الهمج المتوحشين ككائنات صماء بكماء لا تفقه شيئا وانما كبشر متخلفين قادرين على تعلم بعض المهن والحرف.بالطبع فان الانسان البدائي كان دائما محتقرا سواء من قبل العالم بوفون او من قبل الفيلسوف فولتير. ولكنه لم يكن ميئوسا منه وانما كانوا يعتقدون بامكانية تحسنه. وبالمحصلة فان الخطاب الفلسفي لعصر التنوير كان يشرح كيف يمكن استعمار البدائيين بشكل أفضل وتسيير أمورهم بشكل أحسن بل والسيطرة عليهم.ولكنهم كانوا يدعون الى استعمار اكثر عدالة وانسانية عن طريق احترام القانون.
انظر الفصل الاول من كتاب الباحثة الفرنسية ستيفاني كوديرك-موراندو:الفلسفة الجمهورية والاستعمار.منشورات لارماتان.2008.
Stephanie Couderc-Morandeau :Philosophie republicaine et colonialisme.L’Harmattan.2008
[3] للمزيد من الاطلاع حول الموضوع يمكن استشارة المرجع التالي للباحث ايف بينو الذي أمضى عمره في تفكيك الايديولوجيا الاستعمارية:الأنوار،نظام الرق،الاستعمار.منشورات لاديكوفيرت.2003
Yves Benot :Les Lumieres,l’esclavage,la colonisation.La Decouverte.2003
[4] كل هذه الاستشهادات يمكن للقاريء ان يجدها على الانترنيت بسهولة.فيما يخص فولتير عن اليهود فهي مقتطعة من كتابيه:مقالات عن أخلاق الأمم وروحها،والقاموس الفلسفي.مادة:يهود او يهودي.أما فيما يخص النظرة السلبية المشكلة عن الاسلام والمسلمين فتقتضي منا الأمانة القول بأن كبار مفكري اوروبا وأدبائها كشاتوبريان واميل زولا وسواهما ما كانوا سيئين في جوهرهم.ولكن عندما اكتشف الاوروبيون عالم العرب والاسلام في القرن التاسع عشر كنا قد دخلنا في عصر الانحطاط منذ زمن طويل.وبالتالي فهم لم يعرفوننا عندما كنا أصحاب حضارة عظيمة تشع على العالم وانما بعد ان هجرتنا الحضارة وأصبحنا جامدين وهامدين..وهذا ما يفسر الى حد كبير الأحكام السلبية والكليشيهات النمطية التي شكلوها عنا.
Voltaire :Essais sur les mœurs et l’esprit des nations
Dictionnaire philosophique
[5] انظر خطابه في الكوليج دو فرانس عام 1862
موجود في كتابه:خطابات ومحاضرات.باريس.2010.طبعة جديدة.
Ernest Renan :Discours et Conferences.Paris.2010
[6] انظر محاضرته الشهيرة في السوربون عام 1883 عن الاسلام والعلم والتي رد عليها جمال الدين الافغاني.وقد نشرت مؤخرا في طبعة جديدة مرفقة بمقدمة للباحث فرانسوا زبال
Ernest Renan :L’Islam et la Science.Paris.2005.Preface de Francois Zabbal
الاوان- الأربعاء 12 تشرين الأول (أكتوبر) 2011
أقرأ أيضاً: