(ظبية خميس - الإمارات)

عهد فاضل

ظبية خميسلم تحسم التجارب الشعرية الجديدة الجدل الذي طال مسألتي الشكل واللغة، منذ منتصف القرن الماضي إلى الآن. وضرورة الحسم لا تتأتى من كونها ضرورة معيارية بل لأنها تسهم في الاقتراح الشعري الذي يميز جيلاً من جيل. في هذه النقطة ليس الحسم مسألة انتصار للنموذج وإقصاء لآخر، بل هي الإضافة أو التعديلات الطفيفة التي يمكن أن تجترحها حساسية وهي في طريقها إلى المعايرة. إذا قرئ أدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط ومحمود درويش، وسواهم، في المعنى المشار إليه، نفهم كيف أن الحسم لا يعبِّر عن لا نهائية المعيار بل يعبّر عن قابليته التلقائية لتدمير نموذجه الذاتي.
ولكن ما يحدث في التجارب الشعرية الجديدة أن الجدل، ذاك، لم يعد موضوعاً من داخل النص، بل أقصي، وكأن الأمور تسير في شكل جيد ولا حاجة، بعد، إلى قلق الشكل. صار في القصيدة ما يشبه التعبيرية الحادة واتجاهها السريع إلى القول والتوضيح. عندما يختفي قلق الشكل، وهو المعاصرة بأكثر معانيها، بنيوياً، ينفتح المجال، بقوة، للتعبير، ولا يعود الصوغ ممتلكاً سحره الذي صار، على ما يبدو، كلاسيكياً.
في كتاب الشاعرة الإماراتية ظبية خميس "درجة حميمية"، الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر، نجد الكثير مما يمكن قوله في مسألة الصوغ. ففي الكتاب تأرجح عنيف بين مستويين، مستوى تعبيري حاد، ومستوى كتابي فني يعتمد الاختزال والإيقاع الداخلي. في المستوى الأول تتفوق الحكاية، وفي الثاني يتجسد الانخطاف. بين هذا وذاك تتجلى، في معنى ما، أزمة الكتابة الشعرية الشابة. لكن الأزمة (وهذا ما نضطر إلى إيضاحه دائماً) التي تعكس المختبر والأسئلة، وليس الأزمة بالمعنى التشخيصي "الطبي" للمسألة.
المستوى الأول الذي أشرنا اليه، التعبيري، تتجلى فيه طاقة التوصيل والشرح وما يتضمنه من جمل خبرية واسمية، وهذا ما يمهّد الطريق للروي، إذ فتِحت كل الحدود ولم يعد هناك من موانع تقنية معينة:

"كادت الرحلة تتوه منا
ولم تكن الطائرة نفس الطائرة
هكذا بالكاد وجدنا الكراسي
وحين وجدناها كانت مبعثرة
أربعة منا
كل منهم جلس في كرسي بعيد بمفرده".

ثم يأتي المقطع الثاني، في الصفحة التالية، ويتتابع السرد:

"حين حطت الطائرة
تحدثنا قليلاً مرة ثانية
واحد منا عاد إلى زوجته
واحد منا أكمل رحلته
في آخر الليل مضى كل منا
إلى النوم بمفرده".

قد ينتمي مثل هذا المقطع إلى الملاحظات التي يمكن أن يسجلها الروائي لتضمينها في كيان سردي يبررها، أما تركها كما هي، وفي حالتها هذه، فهو، ولا شك، سيضعها في موقف يبعدها عن شعريتها، هذا إذا اتفقنا على أن الشعرية موضوع لغوي في المقام الأول، وليس تعبيرياً صرفاً كما في المقطع المشار اليه. وما يجب التأكيد عليه أن الحركات الأدبية العربية، أو المجلات، بدءاً من مجلة الديوان وأبولو وانتهاء بـ"شعر" اللبنانية، وسواها، ليست هي أول من أشار إلى موضوعة الشكل والصوغ أو ذلك الفارق بين القول واللغة، بل ان لهذه الحركات موروثاً قوياً تجلى في النقد الأدبي عند العرب والذي أسس للشكل والكيفية أكثر من التعبير، كالأصمعي وابن سلام الجمحي والمبرد وابن طباطبا وابن قتيبة وقدامة بن جعفر وسواهم. أي أن إمكانية المعايرة، مبدئياً، يمكن أن تتحقق من داخل ثقافة هذه اللغة. من أجل هذا فإن الخبريات والاسميات والحكائيات تسقط في الفحص الاوتوماتيكي الذي تجريه مختبرات اللغة العربية النقدية. لكن، والحق يقال، إن حركات التجديد المعاصرة في الشعر العربي أعادت إحياء هذا المختبر المجسد للقلق الشكلي ونعرف نتائجه ويعرفه القارئ وتوقف هذا المختبر هو الذي سهّل الحكائيات والتعبير على حساب الصوغ.
مثل هذه النثرية المفرطة والقائمة على الخبري والاسمي تتكرر في أكثر من مكان، فنراها في قصيدة "عملية تجميل صغيرة" وقصيدة "عروسة الخشب" وقصيدة "يحدث في مكان آخر". ولكي ندلل على هذا الإفراط نقرأ مقطعاً من الأخيرة:

"في الطريق إلى البيت ومنه
أشياء كثيرة تحدث
وصدف ليست بالتحديد
سعيدة
كأن أرى جثة ملقاة على قارعة الطريق
لا أحد يعبأ بها
أو شاحنة تحاول جهدها أن
تخبطني...."،

وهكذا في تتابع يتحرر من انضباط شكلي لمصلحة الإفراط في التعبير والنثرية. ولكننا وقبل الدخول في المستوى الثاني الذي يتضح في الكتاب على هيئة صوغ نشير إلى أن التأرجح في هذين المستويين قد يكون تابعاً أيضاً لتحرير الكتاب المشار اليه، فلربما لو حرر في شكل يمنحه الاتساق والتنقيح لما تحصلنا فقط على غياب النثرية والتعبير بل لكنا تحصلنا على كتاب خالٍ من المشكلات الإملائية واللغوية الواضحة.
وكما ابتدأنا فإن موضوعة الحسم لا تعني إقصاء معيار مقابل تعزيز آخر، بل هو نوع من الاشتغال على اللغة يجعل من الاهتمام بالكيفية أمراً أساساً والتعبير فرعاً. ولأن الشاعرة ظبية جزء من التيار الجديد، في الكتابة الشعرية، وصدر لها الكثير من الكتب الشعرية، فهي تعكس شيئاً من قلق الشكل، أو العلاقة بين الشكل واللغة (الشكل هو من عناصر التمهيد والتنامي). لهذا نقرأ عندها التكثيف بعد أن قرأنا الإسهاب، والانخطاف بعد الخبر، والصوغ بعد التعبير. إذا وضعنا مسألة تحرير الكتاب، جانباً، سيكون تأرجح شعريتها بين الإخبار والصوغ سببه تتابع موضوع الجدل الشعري، خصوصاً بعد قوة أو انتشار - أو انتصار - قصيدة النثر. ونحن نفضل مثل هذه القراءة لإعطاء التجربة بعداً تراكمياً.
التخلص من إرث الجدل له أكثر من وجه، أشرنا إلى وجه منه في نقد الإفراط في النثرية والسرد، لكن وجهاً آخر له يظهر في صفاء التجربة مما يعزز من التلقائية والإيحاء بأن ثمة حدثاً شعرياً طبيعياً يجري:

"أداعب الحصان بمحاولة أن أتذكره
فالشهب بين يدي
تضيء أزماناً أخرى
حينما كنت أنا والحصان روحاً واحدة".

وهنا حيث المناخ الأسطوري يتحول واقعاً:

"ذات مرة رحلنا معاً أنا وأنت
في المدن الهرمة
كانت بلقيس تراك وتظنني الهواء".

وهنا حيث يتحد المعقول باللامعقوله، أيضاً على خلفية سريان الأسطورة واقعاً حياً وليس مستعاداً أو متذكراً:

"أرى النور يخرج من بين أصابعي ضياء
أراه على شكل طير يطير...".

في كتاب ظبية خميس نجد -في المستوى الثاني- ذلك التداخل بين الطبيعي والإنساني أو الأسطوري بالواقعي، في أسلوب يوحي بأن الحدث هو من داخل الذات الشاعرة، وليس من خارج الفعل الشعري أو سريانه. في كثير من المواضع نلمح بساطة الجمع بين النقيضين ونجاح الصوغ فيه، بما يتناقض كلياً مع المستوى الأول الذي سيطر عليه الأخبار:

"في موسم إجازة الأطفال
كان الجميع يجرجرون أطفاله
نحو المسلات
والفضاء الإرث
بصخب الرحلات المدرسية".

السمة الأساسية المسيطرة بقيت في الإطار الذي تحدثنا عنه سالفاً، وهي تنتمي إلى الكتابة من خارج المختبر، حيث سيكون الابتداء من جديد وكأن التراكم قد نفى ذاته طوعاً. وهذا لن يحدث بالمطلق، فالموهبة صديقة ذاتها وتعمل بالسرعة القصوى على الكتابة من داخل المختبر ومن داخل تيارات الجدال والتجاذب. إذاك يتولد الاقتراح الشعري كما قرأنا وسنظل نقرأ. ووفرة مؤلفات الشاعرة تشي بذلك، بل تؤكده بكل ما تحمله من "أمل" شعري وإرادة أدبية على الكشف والتغير.

الحياة 2003/09/18