كقارئةٍ وكاتبةٍ ومتابعةٍ للشؤون الثقافية، لطالما كانت تثير فضولي أعمال الكتّاب والفنانين من جهة، وحيواتهم من جهة أخرى. سيرهم تحديداً. عاداتهم وطقوسهم وتفاصيلهم الصغيرة وأمزجتهم، والطريقة التي يدور بها "زنبرك" تفكيرهم. كنت أحلم بأن "أتلصّص" عليهم من غير شبابيك أعمالهم، أن أعرف كيف يستيقظ هذا ويعيش ويحبّ، وكيف يفكّر ذاك ويقرأ ويكتب ويخلق. كيف يبتسمون وكيف يعقدون حواجبهم. كيف يشربون قهوة الصباح ومتى يستسلمون لسلطان النوم. هل هم منظمون أم فوضويون. ما يغضبهم وما يضحكهم. ما يحيّرهم وما يطمئنهم. ما يخدّرهم وما يثير حماستهم. كنت اتوق الى إخضاعهم لنوع من التفكيك و"التقشير"، بغية حلّ شيفرة الكاتب أو الفنان ورفع هالته و"قناعه". فدائماً هناك قناع، مهما رقّ أو سمُك. وما ذلك كله ربما، في آخر المطاف، سوى "اختبار" كنت أتوسّل به كل مرّة لمعرفة ما إذا كان "الانسان" على مستوى "المبدع" الذي سحرني أم لا، وذلك تحدياً للمقولة الداعية الى الفصل بين الكاتب ونصه، وبين الفنان وعمله، التي لم اتمكّن يوماً من تصديقها ولا التزامها.
لأجل ذلك، عندما وضعتُ تصوّرا جديدا لصفحة "أدب فكر فن" في جريدة "النهار" لدى تسليمي مسؤوليتها صيف عام 2005، حرصتُ على تخصيص زاوية اسبوعية في عنوان "يوم في حياة"، يروي لنا فيها كل مرة كاتب (أو فنان أو مثقف)، من لبنان والعالمين العربي والأجنبي مداورةً، يوما عاديا في حياته: اهتماماته الحالية، قراءاته، تفاصيل من يومياته، بعض طقوسه، مواقفه من احداثٍ راهنة معيّنة...الخ. وكانت هذه السيرة الذاتية المتعددة الصوت تهدف الى تأمين عنصري الانفتاح والتنويع اللذين أسعى اليهما في الصفحة، فضلا عن اقتناعي بأن القاء الضوء على بعض الجوانب من حميمية تلك الشخصيات المعروفة، في دفتر اليوميات المشترك هذا، يمكن أن يثير الفضول ويشكّل حافزا لاكتشاف أعمالهم لدى بعض المتلقّين: مما يحيل على مسألة "تحريك" الحياة الثقافية التي هي هدف رئيسي من اهدافنا في جريدة "النهار". فأنا أؤمن بضرورة جعل صفحة "أدب فكر فن" منبرا رحبا وشموليا بقدر الامكان، وبيتاً لأسماء لبنانية عربية وعالمية. كيف لا وهي صفحة تتوخى أن تكون "وطناً" ثقافياً جامعاً، مواطنوه يتصفون بهوية مضافة، هي الهوية الثقافية الإنسانية التي تتخصص بتلقي المعرفة الخلاّقة واستيعابها وبلورتها في نشر عملية تلاقح (تسميم) ثقافي تطاول الرأي العام؟ فالصفحة الثقافية هي اولا مختبر. ومن طبيعة المختبر أن يكون بيت الذات والآخر في آن واحد، وان يكون منفتحاً ورحباً ومتعدداً ومتنوعاً و"معولماً" (بما في العولمة من إيجابيات). وأن لا يكتفي بنفسه. وأن لا يطمئن الى ما هي عليه هذه النفس. بحيث يصنع مناخاً تتوالد فيه حيوات ليس في الضرورة أن تكون مستنسخة ومتآخية بل خصوصاً كثيرة ومختلفة. وفي المختبر تتفكك الحيوات الخاصة وتنحلّ في مياه بعضها البعض، من دون أن تفقد ماهياتها وجواهرها، لتصير كائنات جديدة، هي الكائنات الأولى لكن مضافاً اليها كل ضوء وخلق جديدين.
هكذا أردتُ لهذه المحطة الأسبوعية أن تكون "زيارة": زيارةٌ نقوم بها معاً الى عقل المبدع وقلمه وريشته وروحه وحياته ومزاجه، وربما مكبوتاته ولاوعيه. تجوال في أمكنة، وترحال داخل اشخاص و"شخصيات". بازل ملوّن، مؤلف من مدن ومواهب وطبائع متباينة، تجمع نيويورك بالمنامة، وباريس بدمشق، وبيروت بلندن، وتربط الشاعر بالروائي بالرسّام بالمفكر، الانطوائي بالاستعراضي بالبين بين، والمبدأ بنقيضه أو بجسر الوصول اليه...
أسماء كثيرة من العالم أجمع منحتنا، أسبوعاً وراء أسبوع، شرف المشاركة في هذه الزاوية بنصوص خاصة بـ"النهار"، وأعطتنا بذلك فرصة "التلصّص" على حياتها وبعض خصوصياتها. منهم من كتب لنا عن يوم من ذاكرته، ومنهم من استلهم حاضره، وفي الحالين كان لكل يوم طعم خاص ومذاق منفرد وجو مميز. وما إعادة نشر هذه الأيام في موقع "جهة الشعر" اليوم، سوى تكريمٍ إضافي لتلك الأسماء ولنا.
ختاماً، مسلسل "التلصّص" مستمرّ. فتوقّعوا منّا أياماً أخرى.