محمد الخضري
(المغرب)

الغريب -1-

أمس دهستني شاحنة الحياة. استيقظت جانبها، كانت أربعينية بشكل لا يصدق وهي تبتسم لنفسها. أحسست بالضيق. حيز الغرفة كان يتضاءل بشكل مفزع. وكنت ألحق أفكاري بشكل لاهث.. سقف الغرفة كان عاليا، بعيدا، وكنت أتصور أشكالا ما عليه، تذهب، سوداء إلى مكان ما. جسدي كان ضئيلا، ناشفا بشكل لا يصدق. والمصباح المطفأ يتأرجح في الفضاء..

حلمت بأشياء. قط المقهى الرمادي. صورة بالأبيض و الأسود. وكنت أصعد الأدراج الدائرية دون أن أصل إلى شيء. جاري الأعمى كان يعزف بعوده مقامات أجهل أسماءها. كان يجلس على كرسي أمام الشقة كما دائما. رأسه محني قليلا وهو يلمس الأوتار بأصابعه للتأكد منها قبل العزف. الشقة التي لم أجدها،313 ،كانت بعيدة. الرقم الذي لم يعد يوجد. وحفرة سوداء في الحائط، معتمة.
استيقظتْ، وجهها كان ذابلا. العشريني الذي بداخلي انمحى. ونظرت إلى النافذة المغلقة. خلف الستائر بدت أشباح أضواء لمدينة غارقة..
ثم إن البحر أزرق، أكيد من ذلك، كما أحلامي المملوءة بالقطط ، قط المقهى الرمادي، قط جارتي العانس في الدور العلوي، والقطط التي تتسكع في أحلامي باحثة عني.. القطط تشبه الموت. البحر أزرق، هكذا بدا لي و أنا أحاول تبين صورتها بشكل جدي فوق المنضدة بلباس البحر، الأزرق شيء جيد تحت الشمس. محاولة جدية للحياة. جسدها كان مترهلا في الصورة، لكن دفء الشمس كان يصلني.
صورة بالأبيض والأسود موضوعة بعناية جانب صورة البحر. ومزهرية بأزهار اصطناعية. صورة الأبيض و الأسود كانت في حلمي لأخرى تختبئ في مكان ما من ذاكرتي، شابة بشكل كافي، نظرة..
كانت كما إناث القبيلة..
جاري الأعمى كان يعزف، لم يكن خارج شقته في الحلم الثاني، فقط صوت آلته كان يخرج من الشقة. وكنت أتلمس بصعوبة طريقي في السلالم المعتمة، الطريق إلى الأعلى شاق، والتخلص من عتمة الأدراج شبه مستحيل، كنت أبحث عن الشقة. مكانها وجدت جدارا، جدارا عاليا..
أمس دهستني شاحنة الحياة، كنت أنظر إليها في الطريق إلى المقهى حيث يتجول القط الرمادي بكسل تحت الموائد، وكنت أدرك فداحة الحياة..

الغريبة

خفيفة في الهواء..رجلي البيضاء المتحفزة للحركة السريعة. أحس أصابعي مرتخية وكسلانة . الغطاء يلتف حولها،رجلي الرخامية يسري فيها نبض متلاحق. وعروقي الزرقاء تمر بها أنهار من الدم المتدفق والساخن. أرفعها..ويكون داخل قلبي..
حينها تنتهي الأشياء.حين أرفع الغطاء عن الرجل التي قبلها رجل في زمن مضى وقال: "أحب رجلك الرخامية هذه" في حمى لحظة حب. مكانها فراغ..فراغ كبير يشبهني. أتجنب النظر إلى الفتى الغر الذي معا ننتحر في هذا المنزل. أعرف الآن أن زوجي يعيش البهجة في مكان آخر. وأنه لا يهتم حتى لغيابي المتكرر.. وأعرف أنه يتبع متعته في أماكن مختلفة. ألعنه، ولا أهتم لأمره. رجلي التي قطعت بعد حادثة السير اللعينة كانت أجمل ما في العالم. الآن أنا ظل المرأة التي كنت. الضاحكة أبدا، والتي تعيش الحياة كفقاعة صابون ستنفجر مخلفة ألوانا قزحية.
الصبي يسعدني. يشبه خيباتي العديدة، وأعرف أنه هاهنا ينسى شيئا لا يود ذكره. استيقظ مرتعبا هذه الليلة مرات عديدة. كانت عيناه جاحظتين وهو ينظر إلى شيء لم أتبينه. وكان ينقل بين اللحظة والأخرى بصره إلى النافذة. لم يحس بأنني لم يغمض لي جفن.
في الصباح قام من السرير، دعاني إلى الفطور، و كنا سعيدين للغاية، أو هكذا شبه لي..
لو فقط مضيت بعيدة إلى مكان حيث أنا وهو نعيش البهجة. حيث سأخلف هذا الزوج الكريه الرائحة. صوري القديمة. وحيث أجد رجلي الرخامية التي أبحث عنها هنا مع الصبي...

الغريب-2-

أسمع الحركة الصدئة للسرير الحديدي فوقي مباشرة.أتصور الآن جارتي وصديقها الشاب في حركة دؤوبة: أمام، خلف، خلف، أمام..
أحك بأظافري فروة رأسي الأصلع. بعينين متيبستين أخترق الحائط فوقي وأراهما معا.موسيقى البلوز بطيئة تماما مثلي، الستائر المغلقة تبعث الظلمة في هذا الصباح المشمس. وأصغي جيدا لضحكهما المكتوم الذي يصلني متقطعا عبر الجدران.
أقوم إلى الحمام. أغسل وجهي، وأنظر إلى الشخص الذي في المرآة. أستغرب لملامحي التي شيئا فشيئا تشبه ملامح الوالد. وأستغرق في التفكير الذي حينما أعود إلى وعيي أجده اختفى تماما..
أنزل من العمارة مبتهجا، لكن والشارع يتلقفني أسقط في الحزن. لأنني رجل وحيد كالشجرة التي توجد قبالة العمارة، العارية من الأوراق، والتي ماتت ذات احتراق منذ سنوات، ولم يبقى إلا هيكلها يشهد عليها كعظام إنسان الكهوف الأول.

الشارع الذي يعبره مارة قلائل يبدو هادئا. يشبه الأمر ضجيجا خفيا. حفيف أوراق الأشجار، صوت محركات السيارات التي تمر بالشوارع المحاذية،و يجعلني الصباح الهادئ أرغب في الضحك. يجرفني انشراح مذهل. أسير في تكاسل وأنقل بصري بين الأشياء. يحدث أن أقف، وأن أنظر إلى ظل طائر على حافة سور قصير يحاذي بوابة عمارة للحظات ثم أكمل سيري. وأحيانا أرفع عيني إلى السماء الزرقاء، وأتتبع غيمة وحيدة تأتي من بعيد. ويحدث أن أطأطئ رأسي وأسير محزنا كأسد ينتظر موته بعيدا عن القطيع..
الفرح اليوم يبعد عني هذه الأفكار. رغم أنه فرح مر، بدون طعم ويبحث عن سبب يبرره. أعرف أن الشقة الخالية من الناس والفرح تنتظرني. وأنني برأسي الأصلع والنظارات الطبية أشبه أي محامي برداء أسود، أبله، وجاف كنبتة صبار. ألوك الكلمات التي قلتها لها قبل عشر سنوات أمام النافذة وأنا أنظر إلى المحيط في الأفق. وإلى المدينة القديمة. قصر البحر، كرات الأمنيوم الضخمة التي قد تهلك المدينة إذا تسربت محتوياتها. ألوك الكلمات التي كانت تشبه قتلها وأنا أتحسس التجاعيد في وجهي وأفكر في المحكمة، وقوفي المستمر أمام القاضي خلال المرافعات، الكلمات التي تشبه البحث عن النبع الجاف:"نظرا للحيثيات المتعلقة ب.." خيباتي العظيمة أيها القاضي انسحبت من الحياة. نظرا لأنني قبل عشر سنوات كنت بدون هذه الصلعة، وبدون النظارات الطبية فقد ظننت أنني دائم، دائم حد الأبد، وبدون حاجة لأن يكون في كلماتي تلك النبرة الكافية من الرقة، لم أعرف أنني كنت الرجل الذي ينذر نفسه لهذا الذي هو أنا الآن. ينذر نفسه لارتكاب فظاعة اسمها الحياة..

أنا الآن فرح، لأن الشارع خالي من الناس، لأنهم قلائل من يملؤون هذا الفضاء المشمس، ولأنني بدون سبب أحس بالرغبة في الضحك.
أنا الآن فرح فقط. بدون شعر، دون أن أنزع النظارات الطبية، بدون أن تختفي التجاعيد من وجهي، بدون أن أمشي بشكل مستقيم وان ابتسم ل..
كنت أرغب في الذهاب إليها. أحسست أن شيئا ما سيتحقق. سأكون قريبا من الأرض الصلبة لأول مرة. وسأقف ثابتا عليها. سألمس الأشياء وأدرك وجودها الحقيقي. لأنني سأكون في تلك اللحظة حيا. وسيكون ما فكرت فيه لسنوات ناجزا، حقيقة.
ذهبت إلى "المارشي"1، زرت بائع الورود الذي أعرفه جيدا. تحدثنا بما فيه الكفاية. واقتنيت باقة ورود. حمراء، بنفسجية، وملفوفة بعناية في ورق شفاف..كنت سأزورها، واثقا من وجودها في ذلك المكان. المكان الذي أظنني أعرفه جيدا. اتجهت إلى هناك. كنت أتبع الطريق في راحة نحو الكورنيش، كنت هناك واقفا. باقة الورد الجميلة في يدي، ريح أطلسية خفيفة تبعثر ملابسي، وأوراق الأزهار. كان يتوجب علي أن أمنحها الباقة، الكورنيش خالي في هذا الصباح. خلفي مسجد الشيخ أبو محمد صالح، التربة تتطاير في الفسحة الخالية. مقهى السفينة هناك، انتهت إصلاحاته. أقف مباشرة فوق الجرف ، أظن أنه عالي بعشرين مترا. أسفل توجد صخور ناتئة. يبدو لي الصبي وجارتي يصعدان إلى سطح المقهى حيث الشمس والريح والمنظر البانورامي. كأنهما أم وابنها، أحس بالحزن، مداخلاتي أمام القاضي لا تعني شيئا في الحياة العادية. أرمي الباقة، تسقط من الأعلى نحو الصخور وتتبعثر أزهارها..
أعود إلى الشقة الفارغة، وانتظر الحركة الصدئة للسرير الحديدي..
1- السوق

فبراير2007

elkhadirimo@yahoo.fr