الولادات الجديدة هي ما ينبغي التعويل عليها –قناعة شخصية- كلما انتظمت سجية الواقع كإشارة لفرص انجاز وبلورة تجربة ثقافية جديدة، لا التعويل او الارتهان للنوستالجيا وعواطف اعادة الانتاج خصوصا فيما يتعلق بالإصدارات الثقافية سواء كانت مجلات او ملاحق او غيره من النشرات الادبية والاعلامية، ليس ثمة دليل اكبر على ان ليس بعد الموت حياة مثل موت اصدار ثقافي ربما تكون تلك الاصدارات المحتضرة دروس ناجزة لكنها لا تنفع لغير ذلك خصوصا العلاقة المباشرة مع الحاضر والمستقبل على حد سواء والا لما توقفت او عجزت عن الصدور.
بهذا المعنى يحلو لي شخصيا ان اتعامل مع رؤى الجديدة، لتتمحور العلاقة بين التجربة الجديدة والتجربة السابقة من رؤى (رؤى القديمة) حول امرين هما الاسم والدرس الناجز فقط، في هذا الحيز سيكون الحوار حتى حدود الجدل وارد ومقبول اما ان نضيع في الحوار العبثي حول تبعية تجربة لتجربة اخرى او من هو الواقف وراء الاخطاء التي ادت الى انكفاء التجربة الاولى عن المواصلة او محاولة فرض اجندة تجربة على تجربة اخرى، كل ذلك سيكون من قبيل المحاولات اليائسة لتحريك الجامد من جهة ومن جهة اخرى تعطيل تجربة جديدة انتظرت طويلا لتتاح امامها فرصة التعبير عن الذات برحابة تتجاوز تخوم التأويل، لتمنح الواقع القدرة على استيعاب اسئلتها بوصفها محرك العقل ومحفز المخيلة وشخصية التجربة.
ليس ما اقترحه نتائج احد جيوب صراع الاجيال النشطة كما يحدث الان في المشهد السياسي بل هي محاولة لصياغة رأيا خاصا بي يتيح لي تقبل الواقع الذي يضمن ازدهار الابداع والنهوض الثقافي دون ان تتقيد التجارب الجديدة برقابة وهمية اطلق عليها من قبل اتباعها بالعصور الذهبية او الشعور بالغرور والنرجسية والتعامل مع جهود ابداعية سابقة بالجحود والتعسف واقصاء تجاربهم، ودون ان تشعر التجارب القديمة الناجزة بان كل ولادة جديدة هي عبارة عن مشروع حرب وجود فإما ان تخضع لها او تئدها او تموت دون ذلك.
اشعر –اذا لم يكن في ذلك ادعاء- بضرورة ان نتخلص من اوهام توارثناها دون ان نعي خطورتها على تشظي الابداع ومتانة اطروحات الفنون على اختلافها مثل اختباء واقع ضعيف لأي فعل ثقافي او ابداعي خلف تاريخ ناصع و محاكمة اللحظة الابداعية الراهنة يوميا بتهمة جدارتها او عدم جدارتها بالتاريخ المزدهر، وتكريس قداسة النص ذلك التقليد المستمدة من الطرح الديني لحماية نصوصه من النقد، ونرجسية المركز والمحور وهذا ما قال عنه المفكر جورج طرابيش ذات لقاء في صحيفة الرياض السعودية (حلم المركزية حلم طفولي ومثل هذا الفكر يولد نرجسيات منغلقة عن الذات ومريضة تقوم على كراهية الاخر بقدر ما نتصوره منافسا لنا في المركزية..).
ربما التجاور ربما نظرية اخرى اكثر قدرة على اخراجنا من المعارك الوهمية في المشهد الثقافي قد تسعفنا في العمل الثقافي البحريني لكنني شخصيا احترم كل التجارب السابقة والحالية واللاحقة واحسبها متجاورة وتعبر عن مرحلتها اصدق تعبير وما انتهت تجربة الا في الوقت المناسب دون ان يكون في ذلك عيب يمس الاشخاص او ابداعاتهم وانتاجاتهم، من هنا فان بدء تجربة جديدة تتشكل في رؤى لا تعنى سوى جهد يقترح على المشهد الثقافي صوت في الصحافة الثقافية ينبغي على هذه التجربة ان لا تخجل من البدايات فتختبئ خلف التاريخ كما عليها ان تتخلص من كل اوهام المجابهات.
العلاقة الجدلية القائمة بين الثقافة والاعلام بين المثقف والاعلامي توحي لي دائما كلما قرأت كتابات المثقفين والاعلاميين العرب تحديدا عن هذه العلاقة، انها على شفير معركة، ثمة حالة انتقامية تسود العلاقة بين الطرفين تجعل المثقف حينما يطال السلطة يتعامل مع الاعلاميين بوصفهم خدم في بلاطه الوهمي بل يصل الامر حد التصريح العلني فيقول بشوفينية بالغة ان الاعلامي يجب ان يكون في خدمة المثقف.
وما ان يمسك الاعلامي زمام امور السلطة –وهو السائد- حتى يبدأ انتقامه من المثقفين عبر جلدهم واحدا واحدا ومحاولة ابتزازهم مرة عبر حجب اضواء الاعلام عنهم ومرات عديدة من خلال فتح النار عليهم بأقلام مستأجرة يقف خلفها ارباع مثقفين نضبت قريحتهم فلم يبقى لهم سوى رصيد من المفردات التي لا تنفع سوى كخناجر تغرس –بثمن- في خاصرة المبدعين.
فيما لم اجد في بحثي حول هذه العلاقة سوى فرص رصينة لتقاطع جميل بين فنون الكتابة الصحافية وفنون الكتابة الابداعية، سيتيقن السياسي انه في مأمن من ان تحدث هدنة ما بينهما تقلقه على سيطرته على الرأي العام او تزعجه بمطالبات جادة بالحريات.. بالمعنى العميق والجوهري للحرية، رغم ان المثقف يعي تماما اهمية الرأي العام في تغيير الواقع وتأثيره على السياسي وان الاعلامي هو الوحيد القادر عبر وسائل متعددة اعلامية من ايصال الخطاب الثقافي الى اوسع قاعدة ممكنة من الناس التي تتيح لنا تسميتهم رأي عام مؤثر، يصر المثقف على موقفه المتعالي في حواره الهش مع الاعلامي .. اقول حوار لئلا اقول جدل عقيم لا يليق بالقرن الواحد والعشرين.
كما لو انني انتصر للإعلامي على حساب المثقف والغي اهمية الكتاب كمؤثر بالغ الاهمية في وجدان الرأي العام، او اتعسف مع حقيقة ان القصة والشعر مجتمعين هما الوسيلة الاعلامية الاولى التي عرفها الناس في البدايات، قبل الصحف والنشرات والمجلات، وبالتأكيد قبل هذه الآلة الخارقة للإعلام الحديث، واغفل جانب ان المحتوى الثقافي في الصحافة هو المصدر الاهم لبريق الوسائل الاعلامية على اختلافها، ليس هذا الفهم دقيقا لما آل اليه البحث الخاص بالعلاقة بين الثقافي والاعلامي والا لكنا اعتبرنا الطرح الجدلي الذي اشتهر به المفكر والفيلسوف الفرنسي (ريجيس دوبريه) في القرن العشرين في تشخيص واقع الثقافي والاعلامي حينما قال بان علينا النظر للصحفيين بوصفهم المثقفين الجدد وان السلطة الفكرية انتقلت من الجامعة الى الاعلام.
واستطيع ان اجترح تأويلا لتعريف الجامعة في طرح (دوبريه) بانها المثقفين والمبدعين، كما انه حول العلاقة بين المثقف والاعلامي الى صراع على السلطة الفكرية وكل من يعرف المفكر (دوبريه) يعرف بانه ثائر قبل كل الالقاب التي تعددت بعد ذلك، اذن هذه العلاقة الموغلة في التعقيد كانت تحتاج لكي تعود الى رشدها كما نراها اليوم في اوروبا الى مواجهة صارمة، تبناها المفكرون الاوروبيون في القرن الماضي بكل قوة وتبصر ليضعوا حدا لنزاع لم يستفد منه سوى الانظمة الفاسدة والسياسيين.
يقول احد الباحثين انه حينما يذهب المبدع والمثقف الى الاعلام عليه ان يشعر بانه ذاهب لفتح نافذة على الشمس، فعزلة المثقف وانصرافه الى عمله بمعزل عما يجري -رغم قداسة الطقس ابداعيا وجماليا- الا انه لم يعد ممكنا بالمعنى الخالص، فالعدالة والتحديث والتنوير والحرية كمشاريع محركة للإبداع لدى الكتاب والمثقفين لها ضرورة واهمية فيما هو عام ويومي، عبر هذه الرؤية البحثية المقترحة يصبح انفتاح المثقف على الاعلامي نوعا من تسريب اشعة الشمس وهذا وصف مريح للعلاقة بين الوحشين.
يقول لي احد الاصدقاء ونحن نناقش شأنا سياسيا صرفا مسترشدا بمثل انجليزي في غاية الذكاء لتوصيف علاقة صقرين من صقور السياسة اضطرتهما الظروف السياسية -رغم ان شعورا بالمنافسة والعداء ينتابهما- بقبول ان تجمعهما علاقة وئام (هل تعرف كيف تتزاوج القنافذ يقول الاول، فيجيبه الثاني لا، ليرد عليه الاول : بحذر)
لم يحيرني –بوصفي قارئ- امرا ثقافيا كما حيرني مفهوم التعددية الثقافية والتعاطي معه من قبل المثقفين، فعلى الرغم مما يضفيه على انصاره كمفهوم انساني من صفات التقدمية والحرية والتحضر، كما روج له في اوساط يسارية، الا ان اصوات عديدة وفي مقدمتها اصوات نسائية في امريكا واوروبا اعلنوا بصوت عال تحفظهم على مفهوم التعددية الثقافية وتخوفهم من انه سيؤدي الى عكس ما اريد منه، ناهيك عن المثقفين العرب الذين ان فهمت مبررات الاصوات النسائية الاوروبية الرافضة له بسبب خوفها من تكريس ثقافات تضطهد المرأة وتتعامل معها بوصفها مخلوق اقل خصوصا في مجتمعاتنا العربية فإنني لم افهم جيدا اسباب رفض اغلب المثقفين العرب له، وما استندوا عليه في موقفهم الثقافي الاستباقي المناهض للتعددية الثقافية الذي استطيع ان اصفه بانه شديد الصرامة ويصل احيانا الى درجة العنف. .
التعددية الثقافية في التباسها بمفهوم التنوع الثقافي كواقع من منطلق الوجود والتنفس استطاعت ان تطرح نفسها موضوعا هاما امام الفكر الثقافي والسياسي العالمي منذ بدايات القرن الماضي، الا ان تبلور مفهوم التعددية الثقافية كطرح فكري منفصل ومختلف عن التنوع الثقافي يناقش حق الانواع في الوجود والتنفس ومنحها مساحتها بما يضمن حق الاقليات في مجاورة الاخر في التعبير عن شخصيتها الثقافية فإنني اميل –بحثيا- وكما اكدته اغلب المصادر الى انه بدأ كنظرية في ثمانينات القرن الماضي بأمريكا في سبق ثقافي فكري صريح لأمريكا على حساب اوروبا.
سيحتدم النقاش بين المثقفين والمفكرين الغربيين بعد نضوج التجربة لديهم على صعيد التعددية الثقافية، ليتحول التسابق على تبنيها من انتصار لحرية الاقليات وفتح افق الثقافة انسانيا امامهم، الى مساهمة مباشرة في حرمان غير عادل انسانيا لأفراد الاقليات من الحماية ومساحة الحرية التي توفرها لهم الانظمة الليبرالية، في هذا السياق يقول المفكر بريان باري (1936-2009) في كتابه الثقافة والمساواة: "ان جوهر التعددية الثقافية لايزال هو الاصرار على ضرورة التراجع عن صور الحماية الليبرالية للأفراد حيثما تداخلت تلك الحماية مع قدرة احدى الاقليات على العيش وفقا لثقافتها" كما يقول في ذات الكتاب " وهكذا يمضي استيعاب التنوع العميق بين الجماعات جنبا الى جنب مع قمع التنوع داخل الجماعات والويل لأي شخص يشاء سوء حظه ان يكون عضوا في اقلية ثقافية يخالف سلوكه قواعدها السلوكية المتعصبة".
لم يتردد المتعصبون للتعددية الثقافية في اتهام المحاولات النقدية لهذا المفهوم بانها شكل من اشكال التراجع عن دعم الحريات في محاولات تبدو يائسة للمحافظة على مثالية الطرح الاول لمفهوم التعددية الثقافية الذي استمد قوته من الرغبة المتحضرة في اتاحة المجال امام الاقليات لازدهار ثقافتها بالقرب من بقية الثقافات سعيا لتوهج انساني شامل.
على رغم ما اثبتته التجربة الغربية في مشاريع التعددية الثقافية والمخاوف المطروحة فيما يتعلق بحقوق المرأة والطفل وحرية التعبير داخل الاقليات وما سواها من خطر سيطرة الطائفة وفرض اساليبها القمعية على الافراد تحت مسمى التعددية الثقافية الا ان التعددية الثقافية كمفهوم لا يمكن تفاديه او تجاوز اهميته، بل اعتبره شرطا انسانيا اساسيا للتعايش، وقيمة فنية لا يمكن ان يكتمل المشهد الثقافي بدونه.
ربما سيتطلب الامر جهدا حواريا اكثر توسعا بين المثقفين لبلوغ حالة من التعددية الثقافية ذات فهم اعمق لمعنى الحريات دون ان يتعارض مع حرية الافراد باعتبارها جوهر النشاط الثقافي، لكن من وجهة نظري فان قبول ثقافات مختلفة في غرفة واحدة امر لا يمكن ان يتحقق دون امرين اساسيين هما التحضر بما يضمن الاستيعاب العميق لمعنى احترام القانون، وبنية اخلاقية تحافظ على الانسان فينا.
لا اعرف الى اي حد سيصبح من الخطورة التطرق الى الاعمال الفنية النحتية وابداء الاعجاب واعتبارها ارثا ثقافيا حضاريا ينبغي المحافظة عليه، وخصوصا تلك التي نحتت على شكل بشر، في ظل وجود تسمية رديفة لها (اصنام) لدى كل من يقف موقفا نقديا مناهضا حد التطرف من الفن بمعناه الواسع، رغم ذلك وجدته مثيرا وجديرا بالبحث، موضوع الاعمال الفنية لمنحوتات المجسمات والشخصيات التي لا يخلو شارع في العالم الاول الى الثالث منها مع اختلاف موضوعها.
لا اتقاطع هنا مع اشكالية مواقف المتطرفين من الاعمال الفنية النحتية، بل اذهب جهة دلالتها انسانيا كمقياس لتصنيف الدول من حيث كونها عالما اولا ام ثالثا او ربما خارج التصنيف، واقول تصنيف الدول لئلا اقول تصنيف الشعوب، ستصادف في السفر ثلاث دلالات رئيسية شديدة الوضوح للتمييز هل انت في العالم الاول او العالم الثالث؟، فما ان تطأ الارض وتذهب في طرقات المدن، حتى تلاحظ بجلاء حجم انتشار العساكر في المشهد اليومي للمدينة ثم الاجراءات الامنية بين الحدود، وكلاهما دلالتان ليستا موضوع الاهتمام هنا رغم خطورتهما.
النصب التذكارية والاعمال الفنية النحتية في الشارع هي الدلالة الاهم، سترحب بك وستبوح لك بالحقيقة وستقول لك بصوت واضح ومسموع في اي عالم انت، فما ان تشيح وجهك في افق المدينة وترى الشاعر شامخ في ميدانها والمثقف المفكر يعتنى بحمام الساحة المطلة على النهر والآلهة تنظر برضى وحنو للناس دون ان تعكر صفو انهماكهم بصياغة الحياة حينها عليك ان تثق بانك في العالم الاول.
اما اذا وجدت السياسيين بنظراتهم الغاضبة (في المطلق) واياديهم الممدودة تقف عند كل نهاية طريق، و الزعيم السياسي يرحب بك بابتسامة مدججة بالتعالي في باحة رخامية والمياه تنحني له في نافورة صامتة لجفاف شاعرية مائها فكن حذرا فانت في العالم الثالث دون شك.
سينتابني الاستغراب دائما كلما صرت امام هذه المفارقة المحزنة، فبرغم ان اي دولة او شعب يصنف ضمن العالم الثالث او العالم الاول فان ذلك يأتي نتيجة لحسن او سوء ادارة السياسيين للدولة ومقدراتها، ما يعني ان من يصنف عالما اولا يكون السياسيين فيه قد نجحو بما يؤهل لتصنيف دولهم كعالم اول رغم ذلك تكون النصب التذكارية والمنحوتات في الشوارع في غالبيتها لشخصيات ثقافية وابداعية وفكرية وليس سياسية.
اما العالم الثالث والفشل المتكرر للسياسيين فيه فانك لن تجد لسواهم نصب وتماثيل ومنحوتات في الشوارع والميادين، ما المعنى الحضاري لهذه الحقيقة التي نراها بالعين المجردة؟ هل هذا يفسر هروب النحاتين والفنانين من فلورنسا بإيطاليا في نهاية القرن الخامس عشر حينما حكمها حاكما متسلطا، وبعد عزلة اثر حكم لم يدم اكثر من خمس سنوات عادوا الى فلورنسا وعاد معهم الفنان الاشهر (ديفيد ميكلانجلو) لينحت اهم واكبر نصب تذكاري لشخصية اسطورية اطلق عليها (عملاق ميكلانجلو) رغم انها في البداية اريد لها من قبل الكنيسة ان تكون نحتا يعبر عن (النبي داوود)، الا ان ميكلانجلو عبر بها عن القوة والابداع ليكون هذا العمل الفني احد اهم علامات عصر النهضة الاوروبية التي وقفت لمدة ثلاثة قرون في قلب فلورنسا مدينة الفن في اوروبا والتي لا يزال يفتخر بها الايطاليون وفي مقدمتهم السياسيين باعتبار هذا العمل الجبار احد عناصر حضارة ايطاليا بصورة خاصة واوروبا بصورة عامة... واستمرارها.
اوروبا بوصفها تجربة النهضة الناجحة عالميا كان احد اهم اعمدة نجاحها قناعة شعوبها وانظمتها بان الجمال والابداع هما العنصرين الهامين بين العناصر التي يجب التعويل عليها في تحقيق ديمومة الازدهار الانساني في دولهم، قبل ان يكون الجمال والابداع دلالتا التحضر والتقدم وهذا ما يفسر الاهتمام بالثقافة والتاريخ الى حد ان او ملاحظات الشخص في تلك الدول هو وجود منحوتات لشخصيات المبدعين والفنانين في شوارعها قبل اي شيء فتترسخ لدى الشعوب هناك اهمية الثقافة وقيم الابداع لتأتي النهضة بكل معانيها العميقة ووقوفها في الصف الاول من تحضر الانسانية على مختلف الاصعدة كنتيجة حتمية.. بينما العالم الثالث لايزال لا يثق في النهضة الاوروبية ولا يحفل بالمبدعين ويمجد كل من يحافظ على ملامح كونه عالما ثالثا، فالثالث افضل من الرابع وان لم يكن موجودا في التصنيف...
المثقفون في خدر مغريات السياسة، حينما يمارسون ادوارا خارج مساحة الابداع والفنون -ما ان تعصف بالمكان وتستبد به اطماع السلطة- فانهم يتركون العالم في مهب العنف وانحسار الامل لدى الشعوب، وحده الانتاج الابداعي ورحابة المخيلة ما يعالج كوارث السياسيين ويرمم التشوهات التي يحدثها الحاكم، ليس بوصف المثقف عامل في بلاط السلطة بل بوصفه صاحب الدور الانساني الاهم والاشمل وهو انتاج المعرفة.
التخلي الصريح للمثقفين العرب عن دورهم الانساني في جعل العالم جدير بالاستمرار عبر مواصلة انتاج المعرفة، واسعاف المجتمع بمقترحات المخيلة من علاجات لإشكاليات الواقع التي اشاعت الاحباط واليأس، سيتم توثيقه على انه الموقف الذي يمنح الربيع العربي ايجابية كشفه لزيف المشهد الثقافي العربي وهشاشة مكوناته وشخوصه من حيث تصنيفهم كمثقفين او فهمهم لدورهم الاجتماعي الذي يتطلب احتراما صادقا لهذا الدور والتزاما صارما بالمسافة مع السياسي بما يضمن استمرار انتاج المعرفة وفق شرط الحرية بمعناها الواسع والجاد.
يبدو ان انتقاد موقف المثقفين السلبي سيكون مبالغة غير حصيفة اذا ما صادف التوثيق والتسجيل لمجريات المشهد مواقف اكثر تعقيد وصعوبة تكشف عن ان المأزق الثقافي الراهن اخذ منحى يقترب كثيرا من الجهل والصلافة والعنف، تفوق المثقف فيه على السياسي ورجال الدين، حينما نعايش ظاهرة محاربة المثقفين ومقاطعتهم للنشاط الثقافي بناء على حجج سياسية تؤكد انهيار المسافة بينهما ما افضى الى بروز شخوص (السيامثقفين)، ينبغي علينا ان نعرف بان الغاء المسافة بين الثقافي والسياسي لا يعطي المثقف وحده حق التدخل في قرار السياسة بل في المقابل سيتخذ السياسي قرار الثقافة حينها تخسر الثقافة، وبكل تأكيد لا تربح السياسة.
يقول الفيلسوف (ديمقرايطس) " الظفر بفكرة تتقدم بها الحياة افضل من الظفر بملك فارس" هذا ليس عبث كل المثقفين الحقيقيين والمفكرين يعرفون ان هذا هو الشرف الاكبر ان تكون جزء من تقدم الحياة وليس السعي لمكاسب السياسيين، يقول "جون ستيورات ميل" وهو فيلسوف بريطاني كما انه اقتصادي بارع الا انه سيعشق كتابة المقالات وسيشتهر بها: (ليس هناك من شاعر عظيم أو فيلسوف عظيم أمكنه الحصول على مقام رفيع أو مورد رزق بسبب كونه شاعراً أو فيلسوفاً) رغم ذلك هجر ستيورت المناصب واغراءات السياسة ووقف موقفا مناهضا لعبادة كل اشكال السلطات وبقى في ساحة الثقافة والفكر يعمل لتقدم الحياة هاجرا مغريات اموال فارس كلها.
من تغلب عنده ارادة العقيدة او ارادة الايدلوجيا على حساب ارادة المعرفة عليه ان يتيقن بانه اصبح خارج منظومة الثقافة بمعناها الحقيقي والعميق الذي جعل كل مفكري وفلاسفة وادباء فرنسا يشعرون بدورهم الرائد في الثورة الفرنسية عام (1789) حينما اخلصوا لإرادة المعرفة رغم انهم تداولوا كل المواضيع والقضايا الاساسية قبل الثورة بسنوات طويلة حيث بادروا بآرائهم في الحرية والمساواة وحقوق الإنسان والعدالة والمواطنة والقانون والدستور, والفصل بين السلطات، وساهمت تلك الآراء ليس في نهضة فرنسا سياسيا واجتماعيا فحسب بل في دول اوروبا جميعها دون التورط او الاستجابة لمغريات السياسة واستحقاقاتها التي تؤثر على طاقة الانتاج لديهم او الصدق والعفوية والحرية التي سيتطلبها دورهم الثقافي وهو الدور الانساني التاريخي الاهم في مسيرة بلد الثقافة والفنون والحضارة والنهضة السياسية فرنسا.
لا ازال اثق بان النشاط الثقافي وحده الذي يستطيع ان يصنع التغيير وتقع عليه مسئولية جدوى الحياة بعد كل هذا الارهاق والانهيارات، انها ارادة المعرفة ما ينبغي التعويل عليها لدى المثقف الحقيقي.. ذلك ما سيجدي ويفيد .. كما احسب.
الثقة بالأحلام والذهاب خلفها احد اهم ملامح المبدع -من وجهة نظري- بل لعلي لا ابالغ اذا قلت بانه كلما شحت مشاريع الاحلام في الوسط الثقافي عبر ذلك عن عقم وخلل حقيقي في واقع الابداع، فحينما يغادر المبدعون أحلامهم يتركون العالم في مهب الاهداف، لكن ينبغي ان ننتبه الى ان ثمة فارق هائل بين الاحلام والاهداف، فالمثقف و المبدع الحقيقي يعرف المسافة الضوئية بينهما اكثر من غيره ويعرف التمييز بينهما فيما يتعلق بأهميتهما للحياة والإنسانية ، لذلك فان المبدعين في العالم الذين اثروا في المسيرة الانسانية لم يحفلوا بالأهداف بل ذهبوا خلف احلامهم.
(موزارت) الذي اذهل العالم وكل البلاطات في فيينا بعزفه ومؤلفاته وهو في سن لم تتجاوز السادسة، حينما بدأ وعيه يتشكل لم يذهب الى مزيد من البلاطات والدواوين كأهداف وشيكة التحقق بل ذهب خلف حلمه المستحيل الذي اوصله الى بيت (باخ) كما لو ان بيوت المبدعين استراحة الحلم والمكان الآمن لتناسله، فانجز موزارت منذ لامسته كلمات باخ التي لم تكترث إلا بأحلامه (600) عمل ابداعي جعله اهم موسيقي كلاسيكي على الاطلاق ، وكذلك بيتهوفن فعل حينما وثق في الحلم مبكرا فطرق باب موزارت حاملا مطلع سنفونية، وبرشاقة الموهبة وغواية المغامرة اندفقت الاحلام بما يكفي لتحيل ذلك الطفل إلى بيتهوفن الذي لا تستوي الحياة بدونه
قاسم حداد ذات حلم تقاطع مع أحلام فانخوخ فهيأ لي شخصيا تقاطع الأحلام هذا تجربة فريدة وفي غاية الثراء بتعقب الطرق التي سارها فانخوخ والقرى والمدن التي أناخ فيها وهو يتبع حلمه الغامض حلمه الذي سيجعل من المزارعين في هولندا وكل أوروبا فخورين بقمصانهم الزرقاء وسهرهم وهم يأكلون البطاطا تحت الضوء الأصفر الخافت، حلمه الذي سيدفع المخرج السينمائي العالمي كوروساوا ان يبدع اهم حلم في حياته السينمائية (احلام كوروساوا) حينما دخل في حوار مع فانخوخ، وهو الحوار الذي اعتبره ساهم في تأكيد ان السينما ذات قيمة فكرية وابداعية لا يضاهيها فن اخر.. فيما هو حوار حلمين وحالمين.
حلمه الذي سيدفعه للسير على رجليه يذرع هولندا ثم دول كثيرة في اوروبا فتتحول قرية بعد قرية ومدينة تلو الأخرى بعد تماسها مع حلم فانخوخ إلى مناطق يقصدها السياح لعلهم يصادفون فانخوخ في احدى غرفه المظلمة يستدرج الضوء ويمتحن اللون في غفلة من الطبيعة، ليرفع الهولنديون صوتهم عاليا يهتفون لحلم فانخوخ الذي لايزال يطعمهم ويسقيهم ويمنحهم الحب كما لو ان الزمن كلما مر على حلم هذا المبدع زاده عنفوانا وجمالا وتأثيرا
من تجربة فانخوخ تيقنت ان الحلم هو الفعل الابداعي الأهم الذي على كل فنان ومبدع ان يكرس حياته من اجله ربما الأهداف وبلوغها ستحقق الراحة لكنها لا تحقق السعادة بينما بمجرد السعي وراء أحلامنا ستأتي السعادة طائعة ،السعادة هي ذاتها التي فضلها موزارت على راحة التنعم في بلاطات السلاطين والملوك. ليموت بعد ذلك جائعا وهو يهذي لكنه سعيد بذهابه خلف حلمه..
اذهب خلف حلمك بثقة واعلم ان الحلم لايموت وبالضرورة صاحبه، هكذا فهم جلجامش حينما حول شهوة الحياة إلى حلم بدا مستحيلا لكنه احال حضارة دلمون القائمة على الموت وتقديسه إلى حضارة الخلود والاستعداد الدائم للحياة وان كل تلك المقابر ليست سوى أسرة لمسافرين منحهم حلم جلجامش حق عبور الزمن وما الأدوات التي تحيط بهم وباسرتهم سوى دليل الخلود وليس الموت.
بهذه البساطة يعرف جلجامش وفانخوخ وبيتهوفن وموزارت وكل المبدعين المؤثرين في حضارة الانسان -بالمعنى الواسع لمعنى الانسانية- بان الحلم وحده يضمن الخلود ويحقق السعادة، كما انه سيضمن علاجا ناجعا للزمن والجسد والمسافة سيكون علاجا غارقا في السوريالية لكنها طبيعة الحلم.. وحدهم الحالمون سيرمم روحهم.