جمال جمعة
(العراق/ الدينمارك)

(ميتافيزيقيات ماتريكس)

في أولى مشاهد "The Matrix"، يسحب "نيو Neo"، الشخصية المركزية للفيلم، كتاباً بعينه من خزانته، الكتاب كما سنراه بلحظة خاطفة يحمل عنوان المؤلَّف الفلسفي الشهير (النسخ والمحاكاة Simularca and Simulation)، للفيلسوف الفرنسيّ جان بودرياردJean Baudrillard، وبتقليب سريع للكتاب يتوقف نيو عند الفصل الخاص بالنهلستية لنكتشف أن ما نراه ليس كتاباً كما يتراءى لنا إنما هو علبة مجوّفة تضم أقراصاً للكومبيوتر، وبكلام آخر، فالكتاب ليس كتاباً بل "حقيقة زائفة".

يعكس هذا المشهد الخاص بالكتاب "الحقيقة" التي تعيش فيها البشرية في ظلّ الماتريكس، إنها ببساطة واقع افتراضي يوحي بأنه واقع حقيقي رغم أنه ليس كذلك، بل هو حقيقة إصطناعية ينتجها كومبيوتر، إلاّ أنها تبدو حقيقية لدرجة أنّ الذي يعيش فيها يؤمن بأنها هي الحقيقة "الحقيقية". والفكرة الأساسية التي يقوم عليها الفيلم، هي إيقاظ النخبة التي ستقود عملية تدمير "النظام" الافتراضي الذي يتحكّم بأذهان الناس. لذلك فإنّ الفلم لا ينتهي عبثاً بوصلةِ روك صاخبة لفرقة Rage Against the Machine (الثورة ضد الماكنة)، وهي تكرز على إيقاع الجيتار: إستيقظْ .. استيقظْ!

مرجعية ماتريكس:
يعجّ الفيلم بمرجعيات فكرية وإشارات دينية عديدة، فمن البوذية أخذ فكرة جهل الحقيقة وتحرير الذهن، ومن اليهودية أخذ "صهيون" عاصمة داود الملكية، وهي البقعة العاصية الوحيدة ضد النظام الافتراضي للوجود، أما من المسيحية فقد وردت رموز لا حصر لها، أولها "نيوNeo" المخلِّص الذي يترادف إسمه مع (الأَحَد The One)، في تبادل دلاليّ مقصود للحروف، وترينتي (الثالوث Trinity) في إشارة للأقانيم المسيحية الثلاثة، وهي التي تحيي "نيو" من بعد موات بقبلاتها، إلاّ أنّ المرجع الفلسفي الأساسيّ للفيلم هو كتاب بودريارد (النسخ والمحاكاة)، الذي يقال أنّ الأخوين فاشوفسكي (صانعا الفلم) قد كلّفا الممثل كينو ريفز "نيو" بقراءة هذا العمل قبل الشروع بالتمثيل.. فمن هو بودريارد، وماهي أفكاره؟

الفلسفة الافتراضية:
النقطة الأساسية في عمل بودريادر الفلسفيّ (النسخ والمحاكاة)، والتي بني عليها فلم ماتريكس، هي فكرة "الحقيقة المُتخيَّلة" التي تقول بأن الناس في المجتمعات المعاصرة يعيشون في عالم مُصطَنع تتلاشى فيه الحدود بين الواقع والخيال ويندمجان. ويستشهد بودريارد بالرئيس الأمريكي الأسبق والممثل رونالد ريغن كنموذج لكيفية إنصهار الحقيقة والخيال في بوتقة واحدة، كما لا ينسى أن يستشهد بمدينة ديزني "عقدة فرنسا الثقافية" التي رغم كونها مدينة إصطناعية إلاّ أنها تحاول إنتاج "شيء حقيقي" يدخل بدرجة أو بأخرى ضمن العالم الإفتراضي.

ولد بودريارد، أهم فلاسفة ما بعد الحداثة، عام 1929 في مدينة Reims الفرنسية، وتتلمذ أثناء سني دراسته لعلم الاجتماع على يد المفكر الماركسي هنري لوفيفر. تزامن صدور أول أعماله الفلسفية (نظام الأشياء The System of Objects) مع تظاهرات الطلاب الصاخبة عام 1968، وفلسفته هي مزيج من علم الإجتماع ونظريات الإتصال والإقتصاد السياسيّ إضافة إلى علم النفس والسيمياء، ولذلك فهو يعد الفيلسوف الرئيسي لمابعد الحداثة أو مابعد البنيوية، والعقل الذي يعوّل عليه الفكر اليساري الحديث في منازلته للبنيوية ومواجهة المجتمع الرأسمالي الحديث.

"أنا عدميّ وإرهابيّ في عالم الأفكار"، يقول بودريارد في تصريح له عام 1971 "تماماً كما أنّ الآخرين إرهابيون بقوة السلاح!"، ويعتبر ذلك ردّ فعلٍ طبيعي على احتكار الأفكار ومصادرتها من قبل النظام المهيمن فإنما هو "إرهاب ضدّ الإرهاب".

في الأعوام التي سبقت وتلت حرب الخليج (1990ـ1991) كتب بودريارد ثلاث مقالات صادمة واستفزازية نشرتها جريدة ليبراسون الفرنسية، أولها نشر قبل الحرب: "حرب الخليج سوف لن تقع". الثانية أثناء الحرب: "هل حرب الخليج تجري الآن فعلاً؟". والثالثة بعد الحرب: "حرب الخليج لم تقع!" وتتركز تلك المقولات على نقد أسلوب العرض الإعلامي "الإفتراضي" للحرب وتسويقها كما تسوّق الحروب الخيالية الأمريكي حيث ينتصر فيها الطيب على الشرير، فالحقيقة المعروضة للحرب ليست حقيقة وإنما هي صورة مزوّقة ومزيفة قامت بصناعتها الإدارة الأمريكية، حسب تعبير بودريارد. أمّا ردّه على الصدمة الإعلامية لسقوط بُرجَي التجارة العالمية فكان:"إنّ إنهيار بُرجي مركز التجارة العالمي لا يمكن تصوّره، إلاّ أن ذلك غير كاف لجعله حدثاً حقيقياً"! ...

إحداثيات جورجياس الإغريقي:
السوفسطائي اليوناني جورجياس النهلستي يضع ثلاث إمكانيات للتعامل مع العالم:

  1. لا شيء موجود.
  2. إذا وُجدَ أي شيء، فلن يمكننا إدراكه.
  3. إذا وجد أيّ شيء واستطعنا إدراكه، فلن يمكننا الإتصال به.

وفي خضمّ هذه الحيرة يجد توماس أندرسون "نيو" نفسه، فهو كائن ضائع، مضيَّع بين حقيقتين، حقيقته النهارية كمواطن عادي يعمل في شركة للبرمجة، وحقيقته الليلية كهاكر متمرّد على النظام الشبكيّ الذي هو جزء منه ومصنِّع له. هاتان الحقيقتان وُضعتا أمامه كخيارٍ أخير على على شكل كبسولتين في راحتي مورفيوس، قائد المجموعة السرية "المستيقظة" التي قررت اختيار "نيو" كمخلّص ومنقذ للبشرية من الوهم الإفتراضي. كبسولتان، زرقاء وحمراء، فإمّا أن يتناول الزرقاء (كناية عن ثقافة السلطة) فتنتهي القصة ليستيقظ في سريره ويؤمن بما يريد أن يؤمن به، أو يأخذ الحبّة الحمراء (كناية عن ثقافة التمرّد والثورة) فيبقى في "بلاد العجائب"، حيث سيريه مورفيوس في محاورات شيقة وعميقة، مدى عمق جحر الأرنب الذي هو فيه. وقبل أن يمد "نيو" يده لتناول الحبة الحمراء يذكّره مورفيوس بأنه "سيقدم له الحقيقة... لا أكثر"!

صحراء الحقيقة:
ما فوق الواقع، أو فوق الحقيقة Hyperreality، هي واحدة من انشغالات جان بودريارد الفلسفية، وبوجه خاص "ما فوق الواقع" الأمريكيّ، فأميركا ـ طبقاً لبوديارد ـ قد شيّدت لنفسها عالماً أكثر "واقعية" من الواقع نفسه، وهؤلاء الذين يقطنونه أناس مهووسون بالخلود والكمال وتمجيد ذواتهم، فالحقيقة هناك مُستبدَلة بنسخةٍ Copy، وبالتالي فإن حقيقتهم تلك قد حلّ محلها بديلٌ زائف فلا شيء حقيقي هناك لأنّ الناس مكبّلون بالوهم. ولذا فليس من دون قصد يهتف مورفيوس مخاطباً "نيو" عند تناوله الكبسولة الحمراء (حبّة الوعي): "مرحباً بك في صحراء الحقيقة!". فما فوق الواقعية Hyperrealism ، عَرَضٌ من أعراض ثقافة مابعد الحداثة، فهي "لن توجد" و "لا وجود لها"، لأنها ببساطة أسلوب لتصوير المعلومات التي يكون موضوعها العقل، ومن أهم ملامح هذا العَرَض هو "الحقيقة المفلترة" أو "حقيقة عبر البروكسي" ولذلك فإن بودريارد يفترض أن العالم الذي نعيش فيه قد حلّت محله نسخة من عالَمٍ تحرّكنا فيه حوافزٌ مزيفة لا أكثر.

شكّلت الأفكارُ الفلسفية المعادية للثقافة الأمريكية محورَ السياسة والفكر الفرنسيّ منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن، ومن الصعب على أيّ مفكّر أو مثقف فرنسي "تسويق" نفسه دون الدخول في هذا التيار الذي تحركه وتغذّيه عقدة النقص والصغار الفرنسيّ تجاه محرريهم، وبالتالي فإنها تجعلهم ـ دون أن يعوا ذلك ـ "نسخاً" وبدائلَ غير حقيقية من الثقافة الرسمية لمجتمعهم الذي يستهلك أفكاراً ينتجها هو ليستهلكها ثمّ يعيد إنتاجها من جديد.. هذه الأفكار هي التي جعلتهم يمنحون جائزة مهرجان (كان) الكبرى في العام الماضي لمخرج تافهٍ مثل مايكل مور على فلمٍ دعائيّ لا قيمةَ له "11 فهرنهايت" لتساوقه مع "النسخ" الثقافية التي تقوم منظومتهم الفكرية والسياسية بإنتاجها، في الوقت الذي تقوم فيه المؤسسة الثقافية الأمريكية "المزيّفة" بإنتاج فلم لا مثيلَ له تمثّل فيه أفكارُ بودريارد الفلسفية، المنتقدة لمؤسستها الإعلامية حجرَ الزاوية، في صياغةٍ فنية وتكنلوجية عالية التطور ستجعله بلا ريب في مصاف كلاسيكيات السينما للقرن الواحد والعشرين.

المقال القادم (محاورات مورفيوس)

jamaljuma@yahoo.com


أقرأ أيضاً:

أقرأ أيضاً: