بغداد من سعد هادي: يشبه بيت رعد عبد القادر من الداخل كتابا مفتوحا، كانت تلك ملاحظته هو وقد ذكرها أمامنا أكثر من مرة، جلسنا في صالة صغيرة تطل على باحة داخلية مفتوحة تدخل منها أشعة الشمس، باحة زجاجية فيها شجيرات صغيرة وأصص زهور، أشارت زوجته إلى الغرفة التي رحل فيها، أشارت إلى الأريكة التي استلقى عليها آخر مرة، قالت انه كان ينام عليها
بعد أن يفرغ من كتابة قصائده، وقد كتب عليها قصيدته الأخيرة، قصيدة موته أيضا، لم يكن يجلس أمام منضدة ليكتب، كان يتمدد على الأريكة مثل تلميذ يؤدي واجبا مدرسيا ثم يغفو عليها بعد أن ينتهي من الكتابة.
لم يكن باستطاعتي أن أتخيله في رقدته الأخيرة، تخيلته في غرفة أخرى وسيأتي بعد لحظات، البيت موحش بدونه، عادت زوجته بثلاثة فناجين قهوة، كنا نجلس صامتين، حيدر سعيد وقاسم محمد عباس وأنا،، كيف سنتجاوز لحظة حرجة لا ندري ماذا نقول فيها، تحدثت هي عن أصدقائه الذين اتصلوا بها من الخارج، ما تزال أيضا في حيرة أمام غموض الساعات الأخيرة في حياته، والسؤال الذي يعذبها: هل خرج أم لا والى أين ذهب وكيف عاد، لماذا لم يتصل بها؟
قالت:
ـ كان يتعذب بصمت دون أن يخبرني بشيء، بدأت الحالة لديه عام 1991 في ظل أجواء الحرب، انزوى في الصالة أثناء القصف وطلب مني أن اذهب مع ابننا الوحيد إلى غرفة أخرى، نام حيدر الذي كان في العاشرة، وحدست إن رعدا في وضع غير طبيعي، ذهبت إليه فوجدت اقرب إلى الموت، لم يتحدث عن مرضه من قبل، كان يخفي أشياء من هذا النوع، خجول حتى معي، ساعدته على ركوب السيارة، كان في غيبوبة وكان القصف شديدا، لم أكن اعرف مستشفى قريبة، أخذته إلى المستشفى الوحيدة التي اعرفها، مستشفى النعمان في الأعظمية، تخيلوا المسافة بين الغزالية (القريبة من أبي غريب) والاعظمية، في شوارع مظلمة وتحت القصف، أعطوه حبة تحت اللسان وقال له الطبيب إن حالته حرجة وعليه أن يجري فحصا عاما، لا أستطيع الآن أن اصف حالتي، كنت أفكر بالطفل الذي تركته وحيدا وبالموت والطريق الصعب وأشياء أخرى، كان حيدر ما يزال نائما حين عدنا واستمرت حالة رعد تتأرجح بين الحياة والموت منذ تلك الأيام، كانت إحدى قصائده تصف نعشا يخرج من البيت وقد وضع عليه غطاء عليه زهرة، المشهد نفسه تكرر وحين بحثت عن الغطاء وجدته، كان الشعر كل حياته، ولكنه كان متواضعا، قبل أيام من موته قال باعتداد لأول وآخر مرة: ستفهمون يوما إنكم كنتم تعيشون مع شاعر كبير. كان يكره المال، ورفض عرضاً بمبلغٍ مغرٍ لنشر كتاب له رغم حاجتنا..….. كان يحب الحياة وكان موسوسا بشأن صحته إلا انه كان يكره الأطباء والمستشفيات.
ذهبت وجاءت برزمة من الدفاتر والأوراق، تلك هي تركة الشاعر إذن، سنكتشف بعد أيام إنها تضم 11 كتاباً غير منشور، أي إن ما تركه الشاعر يزيد عن ضعف ما نشره في حياته، كما سنكتشف وجود نسخ معدلة من المخطوطات تمت الإضافة والحذف منها وصولا إلى النسخ النهائية والتي منها هذه المختارات وقد أعدها د.حيدر سعيد وقاسم محمد عباس وهما من اقرب أصدقائه إليه في سنواته الأخيرة إنسانا ومثقفا، لتمثل رعدا في أوج نضجه. ولتمثله أيضا شاعرا ذا مشاغل متعددة، رمزية وصوفية وتاريخية وأكثر من ذلك شاعرا غامر في اختراق أسوار الميثولوجيا البعيدة ليؤلف ميثولوجيا يومية يعيشها الإنسان العادي.
سنتيقن أيضا إن في هذه القصائد محور يتكرر بخفاء تارة و بجلاء تارة أخرى هو الموت وانه كان هاجسا دائما للشاعر.
سنكتشف سحر اللغة وهي تتحول إلى صور وإيحاءات ومخاوف صغيرة وحدوس وسنكتشف أشياء تأتي من داخل القصائد لا من خارجها كما يحدث في النصوص الكبيرة دائما.
كان ثمة تخطيط جريء على إحدى المسودات بقلم الحبر الجاف، سألت إلهاما زوجة الشاعر:
ـ لمن هذا التخطيط؟
قالت:
ـ انه لرعد، كان يرسم أحيانا ولديه تخطيطات عديدة لوجوه، لا ادري أين هي الآن.
جانب آخر إذن من حياته لا نعرفه. بل قل جوانب عديدة تتكشف بالتدريج كما تتكشف أسرار قصائده، قصائده التي تدهشنا بتعدد المداخل إليها ومسالك الخروج منها.
تم جرد كل المخطوطات والأوراق المنفردة وتم اختيار النسخ النهائية منها وسجلت في كشف أعطي لزوجة الشاعر، وحين خرجنا من البيت بعد ساعتين كانت تركة الشاعر كلها في ظرفين أسمرين كبيرين لا غير، نحملهما معنا.
النقطة الأساس في شؤون الكتابة الشعرية هي الخيال، والخيال بحسب ما أتصور هو نتيجة الطاقة العقلية المتفاعلة مع الواقع والقادرة على توليد المشاعر والأحاسيس والتصورات والأفكار وجعلها كأنها تجري في مشهد سينمائي مركب من لقطات وصور وبدون هذه الطاقة لا يمكن إنتاج شيء بالمرة، ولكن كيف تتكون هذه الطاقة؟ وبعيدا عن أي كلام في فسلجة الدماغ والأعصاب، وقريبا من كلام الشعر، نجد إنها تتكون من الاحتفاظ بذخيرة الحواس بعد التركيز والإصغاء الشديدين لما يرى ويسمع ويلمس ويشم ويذاق، لتتولد بعد ذلك الخبرة والمعرفة الحسية، إلا أن هذه المعرفة الحسية تبقى عائقا أمام أي تطور في ملكة الخيال إن بقينا بحدودها، بالقدر الذي تكون ملكة الخيال من دونها ضعيفة، إذن لابد من امتلاك هذه المعرفة ومن ثم لا نقول تبديدها بل خزنها حية وطرية، لنا القدرة على استدعائها حال احتياجها، أثناء عملية الكتابة، على إن هذا الاستدعاء هو أمر غير محسوب بشكل ميكانيكي، ولا حتى بشكل سحري، وإنما هو يجري بصورة تلقائية نتيجة تفاعل خلاق بين الشاعر وعالم نصه وواقعه.
إن الأحاسيس والتصورات والأفكار هي كم سالب لا يصنع بنية دون أن تنتظم في علاقات تتحرك باتجاه أن تكون نسيجا محكما، قد لا تستطيع فصله إلى أجزاء، وقد لا يعود نسيجا لو حاولنا تحليل أجزائه.
إن العلاقة بين الخيال وبين النص الشعري هي علاقة غير ظاهرة إلا بالقدرة على تنظيم وقائع الخيال داخل النص، وما نجده - في الحقيقة- من تنام في بناء النص الشعري هو ليس أكثر من القدرة على تنظيم تلك الوقائع بالخبرة التي يفتح بها الشاعر خزائن حواسه أولا ومن ثم بتصرفه بها -كأنه المالك المطلق لها- أثناء جدله مع الواقع بفعل الكتابة.
ماذا يسمى الخيال الشعري: الشجرة،الطفولة، الحرب،الصداقة؟انه يسميها بقدرتنا على التقاط الأحاسيس والتصورات من هذه الأسماء وبخبرتنا المتراكمة والمخزونة والتي تظهر في حالة صيرورة النص،خبرتنا التي عرفت من الشجرة حركتها ولونها أو تدرجات لونها وما تثبت في داخلنا من معاني المذاق أو الخصب والنمو وهل هي منفردة أم في غابة؟هل هي شجرة أحلام تسهر قرب النبع أم هي خشب نعش؟ خبرتنا تفتح أسئلة كثيرة وبقدر ما تفتح من هذه الأسئلة نتقدم بخيالنا نحو تخوم النص ولكن من أين نستمد أسئلة الخبرة؟ هل من اغترابنا عن الواقع أم من التحامنا به؟ إن الواقع يمدنا بالخيال ولكن الخيال في النص الشعري يجعلنا نعيش حالة مزدوجة،هي بين الاغتراب والالتحام، إننا نعيد للواقع أشياءه ولكننا نعيدها له نصوصا قد يتنكر لها، ولكنها نصوصه بامتياز، نحن وقفنا أمام المرآة طويلا وكتبنا بعد أن غابت المرآة، ماذا نكتب سوى خيالنا بعد غياب المرآة؟
أظن إن كتابة الشعر هي خيال الواقع في لحظة غيابه، هل أقول إن هذه اللحظة هي أعلى لحظات التجلي الشعري؟
أقول ذلك وربما أكثر.
مجلة آفاق عربية - بغداد - العدد 9/10- أيلول/ تشرين الاول2001
*****
إلى الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف لمناسبة المنفى المستحيل
هذا الانحرافُ في المشاعر باتجاهكِ، باتجاهكِ، إلى نقطة حبكِ، يربك الآخرين
ماذا تقولين؟ لا اسمع إلا حفيفَ ثوبك يرفُ على خراب العالم.
تقولين بيديك ما لا يقوله الوداعُ من تلميح
وأقولُ للمطر الحزين: كم تشبهُ انكسارَ نفسي؟
وأنتِ و المطر طائران، تلوذان من القصف تحتَ جناحيَّ الزجاجيين.
هيا أيتها المشاعر الجنة
هيا أيتها المشاعر الساخنة
هيا إلى الحب، إلى عصره الذهبي
باتجاهك هذا الانحراف في الحبِ
باتجاه عصر سريركِ النحاسي
نقاط التفتيش -هناك- على طول الطريق المؤدية إليك،
هناك سأكتبُ رسالةً إليكِ عن طول الانتظار.
لقد نظروا طويلاً في ورق النخلِ
وسلطوا مصابيحهم اليدوية على الوجوه في الريح.
حاولنا البقاء متماسكين.
يأتي صوتكِ من وراء زجاج نخلتكِ العجفاء، من وراء الظلام،
هل عثروا على شيء؟
بقينا صامتين ننظرُ إلى صوت طائرك المذعور
لقد دفعونا إلى الاعتراف، بماذا نعترفُ؟
انحرفت مشاعرنا،
صار أكثر من واحدٍ يلعنكِ في الغربةِ أيتها الغريبة في غربة الحبِ
وانحرفت مشاعري باتجاهكِ حتى الموت.
بغداد
19/12/2002
*يحتمل أن تكون هذه القصيدة آخر قصيدة كتبها الشاعر الراحل كما يدل على ذلك تاريخ كتابتها الذي يسبق تاريخ رحيله بـ (25) يوما.
****
1- حياته
في لحظة جسرٍ، في لحظة عبورٍ، في لحظة ظلٍ،في لحظة خطوةٍ، في لحظة إيقاعٍ،في لحظة صدى، في لحظة أثر..
حياته
في لحظة نوم على الضفة الأخرى
أنا الرجل في لحظة عبوره إلى ضفة النوم
أنا المرأة التي لن يصل إليها في عبوره الرجل
أنا النوم
أنا النوم على الضفة الأخرى
أنا الصدى
الأثر
الظل
العبور
أنا لحظة الجسر
حياتي….
2- عندما أقف أمامها كحصارٍ كعزلة موسيقى
عندما أسلّط عيني عليها، على هلالها المرتجفِ
عندما أشكل كلماتي من جسدها
تظهر كتاريخ، ربما كوردة تاريخية مشتعلة
ربما اسمع ضحكاتها في تكسر جليدي
ربما اعبر ممراتها بتاريخ ألواحي إلى تاريخٍ مقفل
ربما في متاهاتها تستيقظ حياتي
مبرأةً من كل تاريخ
3- المجد لشكلها
المجد لموسيقاها
هذه العمارة التي أصورها على الورقة كجنة مسوّرة
هذه الأهدابُ، هذه الستائر، النوافذ المغلقة، الزجاج المشفُّ
هذه البركة السحرية، هذا الخط، هذه القطرة المعزولة،اللسان،
هذه الطلاسم
المجد لمعناها
4- هذه الجلسة المباركة حول عصفورٍ ميتٍ
هذه الطريقة في الغناء لإحياء الجسد، هذا الطفل الرسولي
هذا العلم..هذه السياسة، آلة الكتابة، يد الله،
هذه الفلسفة
هذا الشعر
نقد القلب
شامة النهد الموازية للخراب
هذه الجلسة للحب. هندسة ميتة وزقزقة قبر.
5- يتكلم عن شجنه، عن شقيقة مرآته
فردوسه المقفل يتكلم. فردوسه المطل على العقل، عن شقيقته في رأس مرآته، فردوسه المقفل.
6- إنها القطرة
القطرة التي تنزل من فم الكائن
الكائن النائم في زجاجة اختبار
القطرة المغلفة بالضباب
الزجاجة الموضوعة تحت نهر
العالم الموضوع في القطرة.
7- تتعقد الأواصرُ
حيث يذهب الشكلُ إلى النسيان
وتقفُ الحمامةُ على شرفةِ العقلِ
ويذهب اللسانُ إلى الخراب.
8- هنالك الرسائلُ
في تلك الخزانةِ
في تلك الأرقامِ
الأرقامِ ذات الأواصرُ العميقةِ
9- بكل وصفٍ يضع يده على الحركة المؤودةِ
الحركة المتكورةِ
حركة الأطراف
وردة الفم،
حركة الطفلِ..
بكل وصفٍ
10- أضع عيني على الفتحة
انظرُ في الداخل إلى الخيوط
إلى الدمى المتحركة..
إلى خيالي يلتصق بوردة الظلِ
في الضفة الأخرى من الحياة،
إلى وردة المكان المهدمِ.
أضع عيني على فتحةٍ في جدار.
1/3/2001
* من مجموعة في ذكرى ساعي البريد، غير المنشورة.
****
الألواح بكاملها تحت تصرفه
والمنشار
وآلة القياس
والشفرة
وسبعة مسامير في فمه
ضوءٌ كافٍ ليصنع منه كرسياً
مرت الأعياد دون أن يطرق بابه زائرٌ
سيصنع من الضوء كرسياً
وينتظر الطارقين،
أنهى المساندَ
والأرجلً..
ستة أعياد مرت
ولم يبق إلا المسمار السابع..
انه ينظر في الخريطة
إلى الشجرةِ التي اقتطع الألواح منها
إلى الأبواب المخلعة
إلى النوافذ
إلى التوابيت
إلى الكرسي الذي لم يكتمل
والى المدينة التي اخرج منها.
25/4/2002
* من مجموعة ( مرايا عوليس الفلسطيني ) غير المنشورة.
****
سننفصل عن الأعمدة التي أسندنا إليها يوما ظهورنا
ولن نضيع في الطريق
وهنالك سيأخذنا النوم إلى الأرض التي أخرجنا منها،
لن نحلم بالرؤوس المقطوعة و لا بالطير التي تأكل من أعيننا
سيكون لنا خبزنا الذي نكسره على صخرة الطريق
وتماثيل مائنا.
25/4/2002
* من مجموعة ( مرايا عوليس الفلسطيني ) غير المنشورة.
حطت المركبة على الأرض
وأطلقوا وثاق خيولهم
وخرج المسلحون بعصيهم وهراواتهم
لحاهم تصل إلى الركب
لم يشاهدوا سوى الظلال
طاردوها ….
وأخيراً استسلموا للنوم
إلى جانبهم ظلالهم اللاهثة.
25/4/2002
* من مجموعة ( مرايا عوليس الفلسطيني ) غير المنشورة.
****
على بعد أمتارٍ، عشرة أمتارٍ، ربما أكثر بقليلٍ، من يأبه بالمسافة؟
لابد من الحياة المشتركة، من التفاهم، وشيء من الخصوصية،
من يأبه لمثل تلك الفروق؟ هناك أشياء أهم …
وفي المحصلة النهائية ستكتشف عين الغريب أو تسمع أذنه ذلك اللغط
القريب: أصوات باعة السمك، أصوات باعة الخردة، أصوات الجزارين
مع الروائح - حيث تصل تلك الروائح إلى انف ذلك الغريب -
في الصحراء، نعم - يقول الغريب: لا توجد حواجز، ولكن هذه مدينةٌ
مؤسسة على الفروق، أنت تدركها بالطبع، ولذلك
ينبغي أن لا تصل إلى انفك روائح العامة، وأنت لا تسمع أذنك
لغط أصواتهم القريبة
ثم هم يعتادون رؤيتك، وقد تصبح أسرارك مشاعةً بينهم
فمن ثم مَن سيأبه لرؤيتك، منهم، أو من سيلقي بالاً لأسرارك
الخطيرة من بعد ذلك؟؟
إنها أسواق العامةِ و لابد أن تكون خارج أسوار قصرك
15/12/2001
* من مجموعة شائعات سوق يحيى، غير المنشورة.
****
ليس من أدلة
رغبة ضد رغبةٍ
وإرادة ضد إرادةٍ
وقتل مسبوق بسخرية المقتول من قاتله، السخرية المحرِّضة
على القتل،
من يستطيع أن يخمن؟
ليس من أدلة للإدانةِ
لا مسرح الجريمة
و لا أداة القتل
و لا الدافع
و لا هذيان القاتل في نومه
ولكن
قد تنشطر رغبة الجاني إلى رغباتٍ واشيةٍ
وقد تأخذ الرغبات أشكالاٍ متعددةً،
عندها الفعلُ في النهاية
إنما ما جدوى أن يتضح الجرمُ في النهاية
وليس ثمة سوى الجاني مع رغباته المتعددة.
16/12/2001
* من مجموعة شائعات سوق يحيى، غير المنشورة.
****
ملابسنا أصبحت تهمةً
الملابس المتهمة أقصيت من المناسبات السعيدة والحزينة
ومن المناصب الإدارية والوظائف العامة
ومن المعارك وحفلات التتويج
ومن الطرقات الخالية والمزدحمة
ومن الحدائق والمقابر ومن الحمامات والمارستانات
وبالدقة، حرمت من الحقوق المدنية كلها
ومن التعبير عن العواطف والأفكار
وصدرت بحقها الأوامر
وعلقت لوائح المنع
وصودرت أدوات خياطتها
وأغلقت أماكن بيعها وشرائها
وأُمِرَ المهرجون أن يرتدوها من اجل التسلية
وان يمثلوا أدوار الخونة والمتآمرين
وأن يسملوا الأعين ويدسوا السم
وأن يقودوا البلاد إلى التهلكة
ناسبين للملابس كل دور قذرٍ
مما لا يليق بكل أحدٍ أن يؤديه
حتى وأن كان لمجرد التسلية
يا لملابسنا من كائنات مثيرة للتسلية
* من مجموعة شائعات سوق يحيى، غير المنشورة.
****
تلال من قشور الباقلاء في وليمة كلِّ يومٍ
من المطابخ ذاتها، في الدهليز المظلم ذاته أمام الحرس الموكل بضبط الأمور
وحساب كل شيء، ربما يصلح الأمور أو على الأقل
بما يعود على صاحب الضيافة بالمجد والثراء
خلف تلك التلال كان الذهب يدفن في بئرٍ سريةٍ،قذرة الماء،
محكمة الغطاء، لفك نائبةٍ أو تغيير حكم أو إخماد ثورةٍ
إلا أن ما يقلق حقا إن تلك التلال مجرد قشور باقلاء
ومن الممكن أن ينكشف السر، بسب طائر اخرق
أو نملة حمقاء، أو رائحة الذهب القذر
فليغط البئر بالقشور وليسأل الحرس الموكل بضبط الأمور كلَّ يومٍ
عن الرجل الذي أحيا طائر المقتدر، فمن الممكن أن ينكشف السر
بسبب طائر اخرق، يلتقط حبة من البئر، أو نملة خرقاء
من يضمن العامة؟ قد تنكر الجميلَ وقد تتقلب الأمور
بما يعود على صاحب الضيافة بالويل والثبور، قد تنقلب الأمور
قد تنقلب الدولة ويقاد إلى الوليمة ويأكل من المطابخ
ويقرب من الماء القذر ذاته أمام الحرس الموكل بضبط الأمور
وحساب كل شيء، من يضمن العامة؟
p 18/12/2001
* من مجموعة شائعات سوق يحيى، غير المنشورة.
****
في سوق يحيى كثرت الشائعات، يقال إن الإله سينزل في ثلث الليل الأخير
بأسلحته
باعة الشموع استعدوا للحدث، باعة المرايا نصبوا مراياهم في الطرقات
العطارون فتحوا زجاجاتهم الفارغة ليقتنصوا عطره الشارد
قد يكون من الصعب التوقع، ستكون الخيبة أصعب
قد لا يظهر في مراياهم
قد لا تقتنصه زجاجاتهم
ولكن من أين كل هذا الجمال المشع؟ وما هذه الرائحة الذكية الغريبة؟
الكل صامتون راسخون، لا يبرحون أماكنهم، تماثيل، عيونهم
ثابتة في محاجرها، تطلع الشمس عليها وتغرب دون أن تطرف
ويسقط المطر كالدموع على حجر لحاهم وأقدامهم،
منتبهون لأقل حركة، مهما كانت، لغصن أو لطائرٍ
قد يحل بينهم
ولكن ومهما أرهفوا أسماعهم ومهما حدقوا، لن يحسوا به، إلا
وقد أصبح تمثالاً مثلهم
مثلهم تماماً، يتوقع أن يحتل البويهيون السوقَ،
ويتناقل مثلهم الشائعات.
20/11/2001
المصدر - جريدة إيلاف الالكترونية
* من مجموعة شائعات سوق يحيى، غير المنشورة.
*******
ربما ستمر أيام عديدة قبل أن يتم التوصل إلى حل اللغز الذي يتعلق بالساعات الأخيرة في حياة الشاعر العراقي الراحل رعد عبد القادر والشبيه بمقطع أخير غامض في قصيدة ظل يكتبها طوال حياته. بل يبدو انه كتب هذا المقطع في أقصى درجات شاعريته وأشدها التماعا واقترابا من اللانهائي واللامرئي.
فحين عادت زوجة الشاعر الهام عبد الكريم وهي قاصة وصحفية إلى البيت في حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر (الاثنين 13 كانون الثاني /يناير) بعد يوم عمل طويل وجدت باب البيت الخارجي مفتوحا بل ووجدت كل الأبواب والنوافذ في البيت مفتوحة أيضا على اتساعها، كانت الريح تعبث بالأشياء والستائر وقد بعثرت أوراق الشاعر الخاصة وظلت تدور بها من غرفة إلى غرفة، أما الشاعر نفسه فكان يجلس بكامل ملابسه على كرسي في إحدى الزوايا وكان يبدو كمن يتهيأ للخروج أو كمن عاد توا من الخارج، كان ما يزال في جسده بعض الدفء ولكنه لم يكن في كامل وعيه (أم لعله الوعي الأكمل) يبتسم ابتسامته الحيية وفي عينيه بقايا وميض. وكانت على مائدة المطبخ بقية مما تناوله صباحا، كسرة خبز وقطعة جبن وكوب شاي فارغ.
ورغم إن إلهاما حاولت أن تفعل كل ما بوسعها، نقلت رفيق عمرها إلى المستشفى بمساعدة ابنهما الوحيد حيدر الذي اخترق الشوارع بسرعة جنونية رغم انه يقود سيارة للمرة الأولى في حياته ثم وقفت إلى جانب جسده المسجى في إحدى صالات الطوارئ في المستشفى وجربت أن تذكره بأسرارهما الصغيرة وان تستعطفه بدموعها عسى أن يتراجع عما عزم عليه ولكن الوقت كان قد فات. لم تفلح أنبوبة الأوكسجين في إعادة الهواء إلى رئتيه و لم تفلح الصدمات الكهربائية أيضا في إعادة القلب الكبير إلى مستقره الأرضي لتحرر روح الشاعر من اسر جسده ويمضي أخيرا بمفرده في رحلة بدأت ولن تنتهي.
لم يعرف حتى الآن على وجه التحديد إلى أين ذهب رعد صباحا ولماذا عاد بهذه السرعة؟ فهناك دلائل عديدة على خروجه، ولا يعرف أحد أيضا لماذا قضى كل هذا الوقت قبل أن يخرج حتى فاجأته النوبة القلبية، لماذا فتح كل الأبواب والنوافذ وهل كانت لديه القدرة على أن يفعل ذلك، أسئلة عديدة تثار حول تلك الساعات التي ظل فيها وحيدا والتي كان يتملص فيها ببطء من قيوده الأرضية.بينما كان أصدقاؤه وزملاؤه بانتظاره في دار الشؤون الثقافية حيث كان يعمل.
ورعد عبد القادر الذي رحل عن اقل من 50 عاما يعد من ابرز الأصوات الشعرية التي ظهرت خلال السبعينيات وقد أصدر عددا من المجاميع الشعرية أولها ( رماد الأسئلة- 1978) وأخرها (صقر فوق رأسه شمس- 2002 ) كما إن لديه سبع مخطوطات شعرية ما تزال بانتظار الطبع، اثنتان لدى صديق له وخمس مع زوجته، كما عمل مديرا لتحرير مجلتي الأقلام وآفاق عربية وتولى مسؤولية الأمين العام لاتحاد الكتاب والأدباء في العراق.
إيلاف - الجمعة 14 فبراير 2003 17:16
رعد عبد القادر شاعرا و إنسانا" كان عنوان الحلقة النقاشية التي أقامها قسم الدراسات الأدبية في مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية التابع لدائرة الشؤون الثقافية العامة في الساعة السادسة من مساء يوم الاثنين 17شباط/فبراير وشارك فيها كل من: طراد الكبيسي، د. مالك المطلبي، فاضل ثامر، د. خالد علي مصطفى، احمد خلف، د. محمد صابر عبيد، د. ستار عبد الله، د. حيدر سعيد وأدارها ماجد السامرائي
الذي رأى في تقديمه للمتحدثين إن أصعب ما يواجهه النقد في مناسبة كهذه هو أن يحتفي بالشعر في غياب الشاعر فقد كان هو وشعره صنوان بينما تحدث طراد الكبيسي عن الشاعر المختلف في ظله المؤتلف مركزا حديثه على المجموعة الأخيرة للشاعر "صقر فوق رأسه" ( شمس-بغداد 2002 ) أما د. مالك المطلبي فقد رأى: أن ما ينبغي علينا هو أن نؤسس قاعة الأحياء لأننا اعتدنا على تأسيس قاعة الموتى وأضاف أيضا: صدمت بداهتنا بموت رعد ومهما حاولنا أن نفصل الشاعر عن شعره فلن نستطيع، ثم تحدث عن علاقة تشبه مفارقة غريبة بين تاريخ القصيدة الأخيرة في مجموعته "صقر…" وعنوانها "قصيدة موته" وهو 21/3/2002 وبين تاريخ رحيله في 13/1/2003 إذ تتشابه الأرقام في التاريخين كما تتشابه الحدود وعبر ذلك يمكن الحديث من خلال الوثيقة الشعرية في آخر مجموعة للشاعر عن الموت الحدسي له .
وراجع د. خالد علي مصطفى الهوامش التي كتبها على صفحات مجموعة الشاعر "أوبرا الأميرة الضائعة" (بغداد 2000) بعد قراءته لها وذكر إنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام، الأول صورة معراجية حافلة بالإشارات الصوفية والرمزية، أما الثاني والثالث فيغني فيهما الشاعر غناء وجدانيا لا علاقة له بالقسم الأول وأكثر ما أدهش الناقد إن المجموعة كتبت عام 1980 بينما يمكن أن تمثل الشاعر في ذروة نضجه. في حين تساءل القاص احمد خلف: إذا كان الشعراء لا يموتون إلا بعد أن يكملوا مشاريعهم الشعرية فهل استطاع رعد ذلك ؟ وذكر إن الشاعر الراحل كان يخطط لكتابة رواية يؤاخي فيها بين السرد والشعر ولعلها كانت ستكون إنجازا استثنائيا لو امتد به العمر. وفي قراءته لديوان "جوائز السنة الكبيسة" ذكر د. محمد صابر عبيد إن هذه القراءة تستدعي آليات عديدة وان ثمة متن متحرك وهامش متحرك لهذا النص الذي ظهر أولا في مجلة الأقلام العراقية بحروف طباعية عادية ثم أعاد الشاعر نشره في ما يشبه مخطوطة قديمة رسمها الشاعر حكمت الحاج بخطه. وتحدث الناقد فاضل ثامر في مداخلته النقدية عن لون جديد في شعر رعد يمكن تسميته: قصيدة المشهد الشعري مقتربا في ذلك من شعراء عراقيين كبار كمحمود البريكان وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر ويوسف الصائغ وقدم د. ستار عبد الله استعراضا لأبرز ما كتب عن الشاعر الراحل نقديا وخصوصا في الدراسات الأكاديمية الجامعية . واختتم د. حيدر سعيد الحلقة النقاشية بحديث عن رعد صديقا فعلى حد قوله إن الاكتفاء بالحديث عن الشعر في مواقف كهذه يبدو باردا إضافة إلى من العسير إن يصبح الموت إمكانية للكتابة.
وعاد الناقد ماجد السامرائي ليقول إن دائرة الشؤون الثقافية ستقوم قريبا بنشر الآثار الشعرية والنقدية الكاملة للشاعر كما ستصدر كتابا يتضمن دراسات مختلفة عن شعره بينما ستصدر مجلة الأقلام في عددها القادم ملفا خاصا عنه .
إيلاف - الأربعاء 19 فبراير 2003 08:52
***
ما عذري وقد فقدت قوتي على الاضطراب والحيرة!?
أنا مجرد من ساحاتي , وصفيري يأوي إلى شجرته
في الغروب .
***
ما عذري معك ولا قدرة لي على الحب ولا على
هدوء القلب ?
الآن أنا محض شكل من أشكال ذؤابتك
ما عذر شكل ينوس أمام حركاتك ?
لقد تفتحت عينك وأطبقت وردتي جفنها
لا أراك ولا أبتعد عنك
ما عذري إذا ما جاء الليل ?
***
ما عذر خفقي وخفقاني وخفوقي
ورعشتي وارتعاشي
أمام عرش ثباتك ?
بأي عذر سأسفح دمعتي في كأسك
***
ما عذر السكران في الطريق إذا نزع ريشة الوجود
عن مرآة سكره
أو أخفاها
لو نادته بأسماء خمرته ?
بأي عذر وبأي عذر سيخفي سره
***
أنا مجرد شكل
من أشكال
غروبك
- - ولا جدوى - -
من ظنونك معي
أو ظنوني معك ?
ما عذر جنوني
وقد تدلى
قمرك
على سطح
عقلي ! ?
***
أنا في ظلك , أصرخ : مأواي يا مأواي
وأنا يومئذ -- وما عذري إذا ما انبسط ظلك -- معاقب
بنظرتي
***
أخرج من أنا , وتخرج من أنت
ما عذري في خروجي إليك من أنا ?
وما عذري لو خرجت إلى شرفتي ببهائك أنت?
***
من يجمع الآس إلى صدره
ويعد - - حيران - - طرقات نجمك ?
أين يصل ? وما هذه النجمة التي تتلألأ
في راحة يده ?
***
ما عذر جسدي لو انشقت الثياب ?
وما جدوى الثياب إذا ما صرخ جسدي ?
***
عجبا كيف يكون ترابي أسدا أو شجرة ورد
أو كيف يكون نايا
***
عجبا كيف له القدرة على الطيران ?
وما عذر ترابي إذا ما تشكل في مرآتك ?
***
عجبا لقد أخذت وصفها من شبابيك وجودك
وتمنعت على مرآتي
ما ذنبي وقد خلعت قميصها
وحلت في هوائي
وما عذر أصابعي - - وليست لي أصابع - إذا ما تحركت ?
وبأي عذر سأنقلها من نغمة إلى نغمة
أن يدي -- وليست هي من أسبابي -- تحمل شجنها
من سماء إلى سماء
***
أفق أيها الطليق , كم تدعي الحرية
وبأي عذر سيخلو القلب ?
***
لا أقول الغابة ولا النهر
ولا أقول غابة ولا نهر
بل ما أقوله هو هذه اللاءات والياءات
ما عذري إذا ما سقطت لاءاتي وياءاتي
قبل وصولي إلى الغابة أو إلى النهر ?
***
ما عذري إذا ما دخلت عالما غير عالمي
ولعبت لعبة غير لعبتي ?
وبأي عذر سأفارق عاداتي ?
***
كانت عين كعين الباز , حمراء
يمر عليها الغروب
وكانت قدم تقف على يد خراب
ما عذري إذا ما خرجت إلى رحلة صيد
ولم يعد منها أحد ?
***
ظهرت صورتي في مرآتك العاكسة ,
إلى الأبد سأظل محتفظا بصورتي المحتجبة
خلف زجاج نظارتك العاكسة
وما عذري إذا ما ظهرت صورتك على زجاج عيني?
***
وجدتني جالسا قرب شمعة
وأصغي إلى صوت تنفسها
وجدت أنفاسي كالموج يعانق ظلاما
وكأن يدا فصلت بين الشمعة وبين موجي
وسقطت في الظلال
ما عذري إذا ما شعاعك حزّ لي عنقي
وتدحرج رأسي في الظلام ؟
وبأية شفة سأقبل يديك ؟