مرّةً، رسم بيكاسو تفاحةً كاملة غير مشطورة، غير إن بذورَها تبينُ منثورةً فوق القشرة الخارجية للتفاحة. ماذا فعل الفنانُ هنا؟ لقد رسم "البعد الرابع" أي الزمن. الزمن يمتزج بأبعاد الكون الثلاثة المعروفة التي تحدد أحجام كل المجسمات فوق الأرض (الطول-العرض-العمق) فتتكون الوشيجة رباعية الأبعاد، وهي القياس الأدق للموجودات، حتى ولو لم يستطع العقل البشري إدراكها فيزيقيًّا بحواسه الخمس. هذا البعد غير المرئي اكتشفه العالم الرياضيّ الفيزيائيّ ألبرت أينشتين قبل نصف قرن وبنى عليه نظريتيْه الفارقتين "النسبية العامة والنسبية الخاصة". هاتان النظريتان اللتان ساهمتا في تفسير العديد من الظواهر الكونية الغامضة التي عجزت بعض قوانين نيوتن عن تفسيرها حينذاك، سيما خارج كوكب الأرض، أعنى فيما يخص الفلك وعلوم المجرات. رفض آينشتين أن يستسلم لفكرة أن الكون يتحدد بطوله وعرضه وارتفاعه لأن تلك الأطوال "نسبية" تختلف من مكان لمكان كما أن كتلة الجسم تتغير تبعا لسرعته. وأعلن أن لا شيء مطلقا في الوجود بأسره سوى "سرعة الضوء" وكل ما عاداها نسبيٌّ بامتياز. تلك النظرية العلمية تحديدًا لم تركن قانعةً في خانة "العلم" وحده، لكنها تجاوزت موقعها إلى كل خانات معارف الحياة وهذا هو سر عبقريتها. وُظِّفَ مفهوم"النسبية" في الفلسفة والأدب والفن والنحت والعمارة والتشكيل على أنحاء مختلفة ونهل منها كل العلماء والتطبيقيون والفنانون فأخرجوا فنًّا مغايرا لما قبل ظهور هذا الاكتشاف المذهل والمربك للعالم وقتها. ومن هنا لم تتجلَّ آثارُ النسبية على العلم والحياة وحسب، لكن كثيرًا من المبدعين قد وظّفوها لإثراء أعمالهم وإنتاج قطعٍ فنيّة أكثر تصالحا مع الكون ومفرداته وأكثر إبهارًا للمخيال المتلقي للعمل.
رسم بيكاسو التفاحة في حالتيْها قبل وبعد شطرها بالسكين. بغير الحاجة إلى رسمها مرتين وبغير الحاجة إلى رسم سكين، وبغير اللجوء إلى رسمها مشطورةً. رسمها كاملةً ثم نثر البذور على سطحها ليقوم عقل المتلقي بتفكيك الصورة وإعادة بنائها ذهنيًّا، ومن ثم يبرز البعد الرابع وهو الزمن المستغرَق في شطر التفاحة إلى نصفين ومن ثم ظهور البذور.
الفنان هنا (رَسَمَ الزمن) وهو قيمةٌ لا متعينة، أو بُعْدٌ غيرُ مرئيّ وغير ملموس، غير إنه ممكنٌ إدراكه بالعمليات الذهنية المعقدة على بساطتها، أي نجح في أن يرسم شيئًا مجردًا لا متعيّنًا أي لا يمكن القبض عليه عن طريق الرؤية.
المدهش أن الفراعنة فعلوا الأمر ذاته قبل آينشتين ونظريتيْه وقبل بيكاسو وتكعيبيته بآلاف السنين. رسموا الفراعين على جدران المعابد أن نحتوا تماثيلهم بحيث تُظهر الفرعونَ بالمنظر الجانبي Side view ، بينما إحدى عينيه تظهر من منظور مواجه Elevation. هنا يقوم العقل البشري "للمشاهِد"- عن طريق حسابات بصرية في المخ تستغرق جزءًا من الثانية- بتخيّل الفرعون الذي يظهر بجانبه وقد التفت ليواجه الرائي وجهًا لوجه. إذن وظّف الفنانُ الفرعونيُّ الزمنَ ليرسمَ (الحركةَ) وهي قيمة مجردة غير ملموسة أيضًا. وبذا يكون الفنان الفرعوني قد سبق برمجيات الكمبيوتر التي تعمل على تحريك الصور Animation. وقد رسم بيكاسو إحدى لوحاته بذات الكيفية حيث تظهر عينا الرجل مجتمعتين في لقطة جانبية. نخلُص إلى أن العلمَ بإمكانه أن يُسهم في التعبير الفنيّ عن "المجرّد" الذي قد يعجز الفن الصافي عن التعبير عنه على نحو دقيق في بعض الأحيان بمعزل عن استلهام العلم.
ربما تشير السطور السابقة إلى فكرة آمنت بها دائما وهي ارتباط العلم بالفنون. تلك العلاقة التي أراها وثيقة بل هي وشيجة مشتجرةٌ خيوطُها لا تنفصم، بل أرى أن النشاط الفكريّ البشري كلٌّ واحدٌ لا يتجزأ، سوى أنه قد يتشعب ويتلوّن ويستولدُ طاقاتِ فكرٍ جديدة تُثري ذلك الكلَّ بغير أن تنفصل عن منظومته الشاملة.
قديما، كان العقل البشري أكثر موسوعية فكنا نرى الفلاسفة الإغريق علماءَ طبٍّ وهندسةٍ وفلك، بل وشعراء ولغويين وموسيقيين إلى جانب كونهم فلاسفةً ومفكرين. ورصدنا هذا في فراعين مصر كذلك وفي علماء ومفكري العرب مثل ابن سينا وابن رشد وغيرهما. ونتيجة لتشعّب العلوم والتخصصية الدقيقة في أجزاء منه، قلّت أو اختفت تلك الظاهرة فلم نعد نرى وجودًا لتلك العقول الموسوعية التي ضمت داخل جماجمها ألوان العلوم والفنون المختلفة.
قصة بورخيس" بحث ابن رشد - Averroes’ Search، ترمز للانهزام الإنساني في البحث عن الحقيقة أو الفن أو المعرفة. وفيها يحكي بورخيس عن ابن رشد، أو آفيروس، كما يسميه الغرب، وهو الفيلسوف العربي الأشهر الذي اشتغل على تراث أرسطو. تحكي القصة عن ابن رشد فيما يقرأ كتاب " فن الشعر" لأرسطو. واجهته كلمتان أو مصطلحان غير مألوفيْن بالنسبة إليه: الكوميديا و التراجيديا. ولما أعياه البحث عن دلالتيْ هاتين المفردتين من أجل ترجمتهما أو محاولة إيجاد البديل العربيّ لهما، راح بحثه سدى وأخفق في الوصول إلى بغيته فحاول الاستعانة بغيره من الفلاسفة والمفكرين.
ويرصد القسم الأعظم من القصة حوارات ومناقشات ابن رشد مع اثنين من المفكرين الإسلاميين في محاولة للقبض على المعنى. وفجأة، في نهاية القصة يختفي ابن رشد. ويعلّق بورخيس في ختام العمل باعترافٍ فحواه أن القصة كلها هي رمزٌ صارخ للفشل. فشله هو – بورخيس – حين حاول بناء قصةٍ بالاعتماد على محاورات عقيمة (نقاش فلاسفة حول فن المسرح بوصفه مجالا لا يعنيهم وليسوا ضالعين في غوره)، وفشل ابن رشد ذاته في التنقيب عن دلالات "مسرحية" داخل "معينه" فلسفيِّ التوجه. وهكذا يُنظّر بورخيس لفكرته النقدية والفلسفية في آن، أنه من أجل بناء قصة، يجب بناء شخوص، ومن أجل بناء شخوص، يجب بناء القصة، وهلم جرا. ولذلك حين فقد بورخيس إيمانه بابن رشد، اختفى الأخير ببساطة.
حين قرأت تلك القصة للمرة الأولى لم أستطع إلا أن آخذها على المنحى الرمزي، لأن تلك الفكرة قد تنطبق على عصرنا الراهن أكثر مما يمكنها أن تنطبق على زمن بن رشد حيث العقول التي آمنت بأن مشارفة الحقيقة لا تنبثق من دون امتلاك كل معرفة متاحة حتى اللحظة.
غير أن تلك التشعبات الكثيفة للمعارف يجب ألا تجعلنا نفصل الحياة إلى شقين منبتّين الصلة: علم وأدب. لأن في امتزاجهما ثراءً وجمالا و نورًا خاصًا لا نستشرفه في جفاف العلم الخالص ولا في تحليق وسوريالية وأخيلة الأدب الخالص. تلك هي المنطقة التي تبهرني كمتلّقٍ للعمل الأدبي والتي تغريني بالخوض فيها كشاعرة.