المسافة بين نشر كتاب الشاعر والناقد الأميركي عزرا باوند (1885 - 1972) عن "ألف باء القراءة (ABC of reading) سنة 1934 ونشر الترجمة الإنكليزية لكتاب ولفغانغ إيزر عن "فعل القراءة" سنة 1978 هي المسافة التي قطعها مفهوم "القراءة" من أفق "النقد الجديد" إلى أفق نظرية الاستقبال، أو نقد القارئ، وما جاوره، أو تفاعل معه، أو خالفه من آفاق البنيوية والتفكيك وخطاب ما بعد الاستعمار وغيرها من الآفاق المعاصرة التي لا تزال تضيف إلى معاني "القراءة" وتحولات مفهومها، وذلك على نحو تكاثرت معه الدراسات التي انتقلت بمركز الثقل من المؤلف إلى النص أولاً، ومن النص إلى قارئه ثانياً.
وكانت الانتقالة الأولى قرينة التحول عن الفهم التقليدي الذي قرن عملية القراءة بعملية الفهم التي يصل بها القارئ إلى ما قصد إليه المؤلف، عملاً بمبدأ "المعنى في قلب الشاعر"، وتأكيداً للافتراض الذي ساد طويلاً بأن الكاتب هو أدرى الناس بكتابته وما تهدف إليه، وأنه المرجع الأول والأخير في تحديد معنى النص المنسوب إليه. وهو الأمر الذي اقتلعته من جذوره جماعة "النقد الجديد" التي توزعت ما بين أميركا وانكلترا، وانتقلت بمركز الاهتمام النقدي من خارج العمل الإبداعي، حيث البيئة أو الطبيعة أو المؤلف، وفهمت العمل الإبداعي بوصفه كياناً مستقلاً، ينطوي على قوانينه النوعية وعلاقاته الخاصة التي تدرك في ذاتها، من حيث هي حال وجود، لا ينطوي على دلالة "المرآة" التي تعكس ما هو خارجها كما ذهبت النظريات الكلاسيكية، ولا دلالة "المصباح" الذي يشع الضوء من داخله، حيث نبع الوجدان والشعور الذي تمسكت به النظريات الرومانسية بوصفه أصل الفعل التعبيري.
وبقدر ما كانت القراءة - في مدى النظريات الأولى - محاولة لفهم علاقات العمل بالعالم الذي يقع خارجه، والذي يحاكيه بما يقرن قيمته ببراعة المحاكاة، كانت القراءة - في مدى النظريات الثانية - محاولة معاكسة الاتجاه، تتمرد على نظريات المحاكاة القديمة، وتنتقل ببؤرة الرؤية من عالم الطبيعة الخارجي إلى عالم المبدع الداخلي الذي أصبح هدف القراءة، وتجلى ذلك، نقدياً، في مسعى "نظرية التعبير" التي عملت على فهم العمل الأدبي في ضوء ما تخيلته في داخل المبدع من مشاعر وانفعالات، يحقق العمل غايته الجمالية بالتعبير عنها، وتجسيدها في علاقات وكلمات - في حالة الأدب - توازي ما يمور في داخل المبدع من ناحية، وتجعل عملية القراءة منطوية، بداهة، على قياس التجسد الخارجي للنص على أصله الداخلي المفترض. فإذا تطابق الطرفان، أو تماثلا، تحققت صفة "الصدق" التي هي مقياس الحقيقة الجمالية للعمل وعلامة نجاحه.
ولم يكن هناك فارق جذري ما بين النظريات الأولى للمحاكاة والنظريات الثانية للتعبير، فكلتاهما ظلتا ترجعان قيمة العمل إلى صدق تمثيله لما هو خارجه، في الطبيعة أو البيئة أو المجتمع أو العالم الخارجي في جانب، أو لما هو داخل مبدعه، في عالم الوجدان والمشاعر والانفعالات التي يصدر عنها العمل، كما يصدر الماء عن النبع، أو الضوء عن المصباح في جانب مواز. والنتيجة هي الحكم الموجب أو السالب على العمل على أساس من القياس الذي تنهض به عملية القراءة، خصوصاً من حيث هي مقارنة معلنة، أو مضمرة، بين الصورة (العمل) وأصلها المتخيل في الخارج أو الداخل، فإذا تحقق التطابق بين الطرفين، السابق منهما واللاحق، تحققت صفات الأصالة في التعبير والتميز في الشعور والبراعة في النقل أو المحاكاة.
وكان ناتج القياس على الخارج عدداً من صفات القيمة التي تقرن براعة المحاكاة، في أحوال الإيجاب، بدقة الوصف الذي يقلب السمع بصراً، في حالة الأدب، ويقدم المشهد المحاكَى إلى مخيلة القارئ بتمامه كأنه يراه، وذلك بما لا يختلف كثيراً عن المعنى الذي قصد إليه أحمد شوقي عندما جعل عنوان إحدى قصائده الوصفية "البوسفور كأنك تراه".
وفي المقابل، اقترنت عملية القياس على الداخل بمعيار "العدوى" التي ينتقل بها ما في داخل المبدع إلى القارئ الذي يُفترض فيه أن يعاني مشاعر وانفعالات مشابهة لتلك التي عاناها المبدع، والتي دفعته للتعبير عنها في كلمات تثير في القارئ ما سبق أن أثارته في المبدع. وذلك معيار لم ينفصل، في التطبيق العملي، عن معيار "التقمص الوجداني" الذي ظل ملازماً لفعل القراءة الذي لا يصل إلى كماله إلا بتقمص القارئ الحال الوجدانية التي تجسّد بها تعبير المبدع عما في داخله. وما بين "العدوى" و "التقمص" تراوحت المعايير الموازية التي حصرت القراءة في مدى قياس العمل الإبداعي (اللاحق بالضرورة) على أصله الداخلي السابق، وذلك في أفق التعبير الذي ينتقل به ما في وجدان المؤلف إلى وجدان القارئ، بواسطة العمل الذي يغدو أداة توصيل ما بين نص الإبداع السابق وفعل التلقي اللاحق، وذلك في حال من التعاطف الذي يعطف الطرف اللاحق (القارئ) على الطرف السابق (المؤلف). وهو حال لا يفارق النظر إلى العمل على أنه الصورة أو التجسد الخارجي الذي يستمد قيمته من الأصل السابق في الوجود، ولكن الذي لا معنى له - من حيث هو صورة أو تجسّد - بعيداً من الأصل، أو منفصلاً عن حضوره المهيمن الذي يحدد أفق التلقي.
وكان المعول الأول الذي هدم أسس هذا الفهم لعلاقة النص بصاحبه هو فهم العمل بوصفه معادلاً موضوعياً، ليس تعبيراً مباشراً عن الانفعالات، أو محاكاة لما في الداخل أو الخارج، وإنما هو فرار من الانفعالات، ومحاولة لنقض معنى المحاكاة الخارجية والداخلية بما يؤسس حضور العمل الإبداعي بوصفه إبداعاً مستقلاً، قائماً بذاته، مكتفياً بنفسه. ودور الشاعر والناقد ت إس إليوت، في هذا المجال دور تأسيسي ورائد في الوقت نفسه، وذلك من خلال مقالته المبكرة عن "التراث والموهبة الفردية" سنة 1919. وهي المقالة التي أكدت أمرين، سرعان ما أصبح لهما تأثيرهما الحاسم على نظريات القراءة اللاحقة.
أما الأمر الأول فهو تأكيد موضوعية الشعر والإلحاح على أنه ليس تعبيراً عن الانفعالات، وإنما هو فرار منها، ومحاولة لتجاوزها بقدرة الخيال الخلاق الذي يجمع ما لا يجتمع عادة، ويتيح لكل الدوافع المتعارضة والانطباعات المتباعدة قدراً أكبر من الحرية، لكن داخل بناء متكامل يجمعها، ويصل بينها في علاقات جديدة، لا تنقل ما في عقل الشاعر أو وجدانه، وإنما تؤدي تفاعلاتها الذاتية في الفضاء المحايد الذي نسميه عقل الشاعر أو وجدانه. ولذلك أقام إليوت مشابهته الشهيرة بين عقل الشاعر (والمبدع في وجه عام) في عملية الإبداع والعنصر المساعد في العمليات الكيماوية، حيث يوضع خيط دقيق من البلاتين في غرفة تحوي غازيّ الأوكسجين وثاني أكسيد الكبريت، مؤكداً أن ما يحدث في هذه العملية الكيماوية أشبه بما يحدث في عملية كتابة الشعر، فعقل الشاعر شبيه بالعامل المساعد في التفاعلات الكيماوية التي يمتزج فيها الغازان السابقان في حضور خيط البلاتين، فيكون ناتج التفاعل حامض الكبريت. أما العامل المساعد (خيط البلاتين، أو عقل الشاعر) فإنه يبقى كما هو لا يتغير، فكل وظيفته هي تحفيز التفاعل الكيماوي والمساعدة على إتمامه. وما دام ناتج التفاعل يعني تركيباً جديداً، لا وجود له في أي طرف من طرفي التفاعل، فإن لا سبيل إلى مقارنة الناتج الجديد بأصل سابق عليه، يكون العمل انعكاساً أو تمثيلاً له، فلا أصل للناتج الجديد إلا عملية التفاعل التي تؤدي إلى ناتج مختلف عن كل طرف فيها.
ويعني ذلك أن عقل الشاعر لا يتغير في عملية كتابة الشعر أو غيره من أنواع الإبداع، فهو فضاء محايد، وكل ما يفعله هو تحفيز التفاعلات التي تؤدي إلى خلق ما لم يكن موجوداً من قبل. والنتيجة الأولى التي تترتب على ذلك هي تحويل بؤرة قراءة الشعر، أو الإبداع في وجه عام، من علاقة النص المنتج بأصل قبله إلى علاقات هذا المنتج في ذاتها، من حيث كيفية تركيبه الذي لا يفضي إلا إلى نفسه. ويترتب على ذلك اختفاء المقارنة أو القياس على أصل سابق، يكون التطابق معه معياراً للقيمة. فالقيمة الإبداعية، في هذا الوضع، مرهونة بطبيعة التركيب الذي يدعو العين القارئة إلى أن تحدق في علاقاته الذاتية، بعيداً من أي إشارة إلى ما هو خارجه أو سابق عليه. والسبيل الوحيد للقراءة، في هذا الوضع، هو الكشف عن العلاقات التي يتركب منها النص، والتي تصنع تفرده الذي لم يكن له وجود سابق على فعل الإبداع، أو أصل خارجي أو داخلي يقاس عليه.
وقد اقترن بهذا التصور تصور ثان لا ينفصل عنه، ويتصل بالمعطيات التي تتفاعل، بفعل العامل المساعد الذي لا يتغير في ذاته وإن كان يسهم في تغيير ما حوله. هذه المعطيات أو العناصر ترجع إلى قراءات الشاعر وتجاربه التي تتراكم بها المعطيات الخام لفعل الخلق. ويرى إليوت أن العلاقات المبتدعة بين التجارب المتباعدة والمعطيات المتباينة تؤكد أن عقل الشاعر يسهم في صوغ كليات ليس لها حضور سابق، وتركيبات تتحول عناصرها داخل علاقات جديدة، وذلك في مدى يمكن أن تتجاوب فيه قراءة كتاب لاسبينوزا مع رائحة الطهو مع دقات على الآلة الكاتبة، وذلك من حيث هي ممكنات لخلق جديد. هذا الخلق الجديد ينطبق على علاقة الشاعر - في هذه الكليات الجديدة - بالتراث السابق عليه، من حيث هو وحدة متكاملة، أو معطيات حاضرة في كل لحظة من لحظات الإبداع، فالشاعر يخلق إبداعه في حال من التفاعل بينه وبين التراث الذي يبدأ من اليونان إلى لحظة الإبداع الجديد للشاعر الذي يستحضر، في كل فعل من أفعال الكتابة، هذا التراث الذي يأخذ منه بقدر ما يضيف إليه، ويصل ما بين عناصره لإنتاج تركيب جديد، لا شبه بينه وأي عنصر من العناصر التراثية على حدة.
ويترتب على هذا المبدأ تصور عملية الإبداع بوصفها عملية تناص، تتفاعل فيها النصوص اللاحقة مع النصوص السابقة، في حرية كاملة، كي يتركب منها خلق جديد. ولا يقتصر هذا المبدأ على عملية الإبداع وحدها، وإنما يجاوزها إلى عملية الاستقبال، أو عملية القراءة التي لا بد من أن تضع في أولويات اهتمامها العلاقة بالتراث الحاضر، دوماً، في الموهبة الفردية التي لا يمكن فهم إبداعها الجديد، في تفرده، إلا في علاقات تناصه مع التراث الذي يكون الإبداع الجديد إضافة كمية وكيفية إليه، وذلك بفعل وجوده المستقل.
وكانت مقالة إليوت الرائدة بمثابة استهلال للانقطاع عن نظريات المحاكاة (الداخلية والخارجية) التي ظلت عمليات القراءة معلقة بها، وتأسيس لزمن جديد من القراءة المحايثة التي تقرأ النصوص الإبداعية من حيث هي نصوص إبداعية، لا علاقة لها بما قبلها، لا على سبيل المحاكاة أو التقليد أو التمثيل أو التعبير أو التصوير، ولا سبيل إلى فهمها، في عملية قراءتها، إلا بتسليط الضوء عليها مباشرة، والكشف عن الكيفية الفريدة التي تشكلت بها عناصرها في علاقات غير قابلة للتكرار، نتيجة التفاعل الكيماوي للإبداع الجديد الذي ليس له وجود سابق. ولن تنتج قراءته أي معنى إلا بالتحديق في عناصره وعلاقاته. والنتيجة هي تبئير عملية القراءة وتركيزها في علاقات موضوعها المقروء، والتحديق فيه بما يبين عن خصوصية وجدة وتفرد تركيبه الذي لا سبيل إلى إدراك قيمته إلا بالكشف عن التفاعلات النصية التي يتركب منها.
ولذلك كانت مقالة إليوت عن العلاقة المتفاعلة بين التراث والموهبة الفردية بداية التحول الذي مضى منه "النقد الجديد" صوب أفق مغاير، انتهى إلى نهايته الطبيعية، مؤسساً لنوع جديد من القراءة التي اقترنت بتيارات الحداثة، فاتحة الطريق لما بعدها.
الحياة - 29/03/06