عندما قرأتُ للمرة الأولى كتاباً للمركي دو ساد، كنتُ في الثانية عشرة من عمري. كانت مكتبة والدي الشهية مشرّعة أمامي على غارب ملذاتها طوال نهارات العطلة الصيفية، أنهل منها كيفما اتفق، ما يناسبني وما لا يناسبني على السواء، بلا حواجز ولا معوقات، بل بحرية مطلقة، سببها الرئيسي غيابه عن البيت طوال اليوم، وليبيراليته في مجال المطالعة، وربما أيضا ثقته – المبالغ فيها - بأني لن أقرب سوى ما يتلاءم، نظريا، مع سنّي.
في تلك الصبيحة الحارة، كنت أنهيت للتو كتاب "أوهام ضائعة" لبلزاك، وأفتش عن غنيمة جديدة. وقفتُ كعادتي أمام المكتبة المكتنزة والعالية وراح نظري يركض بين العناوين. سمعتُ المجلد الصغير المصفر في الرف السادس يناديني. عنوانه، "جوستين أو مصائب الفضيلة"، اثار فضولي. أخذته وفتحت الصفحة الأولى. الطبعة قديمة جدا، تعود الى عام 1955. الناشر هو جان جاك بوڤير (طبعاً، مَن سواه؟!). يومذاك، لم أقرأ المقدمة الرائعة بقلم جورج باتاي، التي عدتُ اليها بعد سنوات، بل انتقلت فورا الى الرواية، وقرأتها، تلك الرواية الفظيعة، دفعة واحدة، بمزيج من الذهول والذعر، من الانسحار المغناطيسي والهلع المخدِّر. كمن ترتعد خوفا لكنها تتلذذ بوقوعها في قبضة خوفها. كمن لا تستطيع أن تمتنع عن مشاهدة فيلم رعب أو عن الركوب في "لعبة الجبال الروسية"، رغم الارهاب الذي يمارسه الفعلان عليها. أدرينالين. كان مفعول تلك القراءة فوران الأدرينالين في جهازي العصبي. ولم أنفك أبحث عن ذلك الفوران في كل قراءاتي التالية، حتى صار هو، تقريبا، المعيار الأسمى لنجاح كتاب ما في امتحاني الشخصي او فشله.
لا أعرف اليوم كيف يمكن فتاة في الثانية عشرة من العمر أن تقرأ كتابا كـ"جوستين" وتخرج منه "سليمة". لا أعرف كيف يمكن هذه الفتاة ان تنتقل مباشرة من رواية لبلزاك الى رواية لساد من دون أن تقع في الهوة المروّعة بينهما. لا أعرف، بتعبير أكثر بساطة، كيف "نفدتُ بريشي" من ذاك التهديد الخطير، لكني أعرف أني، كتاباً تلو كتاب، وقراءة تلو قراءة، كوّنتُ عن المركي دو ساد صورة واضحة المعالم، لرجل ليس إنسانا عاديا مثلنا. هذا الى أن قرأت، اخيرا، كتاب "أقسم للمركي دو ساد، حبيبي، أني لن أكون إلا له". عنوان طويل لمجموعة مراسلات معظمها بين المركي وعشيقته آن بروسبير دو لوني، التي كانت في الوقت نفسه شقيقة زوجته. نكتشف في هذه المراسلات، وفي البحث الدقيق والمتقن الذي يواكبها بقلم موريس لوڤيه، وجهاً آخر لساد لم نكن نشك في انه موجود أصلا. وجههٌ رقيق، حنون، شغوف، محبّ، رومنطيقي أكاد اقول (يا لكفر أن نصف ساد بالرومنطيقي!)، يعاني عذابات الحب المبرحة، فيغرم مثلنا، ويشتاق مثلنا، ويغار مثلنا، ويناجي مثلنا، ويبكي مثلنا، لا بل يصل به العشق الى حد محاولة الانتحار في سبيل حبيبته الآنسة آن بروسبير العزيزة.
ليست لدينا أوهام حول التماهي بين الكاتب والانسان عموما، فقد علّمتنا خيبات عديدة، والقليل القليل من المفاجآت الايجابية، ان الكاتب نادرا ما يشبه نصه، لكنّ كيان ساد "الأبيض" لم يكن ليخطر على بال أيٍّ من قرائه وعارفيه. "اللذة هي التناقض"، يقول باتاي في مقدمته تلك، ولا شك في أن جملة "ساد عاشقاً" مصدر لذة كبيرة من فرط تناقضها مع نفسها: لذة أكاد اصفها بلذة الانتقام، واعني هنا الانتقام لإنسانيتنا و"ضعفنا" وقابليتنا للوقوع في الحب. هكذا إذاً، ساد العنيف، ساد القاسي، ساد السادي، أُغرِم ايضاً، وأيّ غرام!
عندي مآخذ كثيرة على ساد، رغم أنه بين الكتّاب العشرة الأكثر أهمية في حياتي. عندي مآخذ كثيرة عليه، وإن كان في رأيي، رغم لامعقوليته او ربما بسببها، من أكثر العلامات المضيئة في عصر الأنوار الفرنسي. المآخذ كثيرة، ولن اطالب بأن تُدرَّس أعماله في المدارس ضمن برنامج آداب القرن الثامن عشر (هو اصلا قد يمتعض من طلب كهذا، لأنه، كما أعرفه، يحب أن يُسرَق، ويفضل ان يكون اكتشافه فعل خروج على القانون). فعلا، عندي مآخذ كثيرة على ساد، لكنها ليست قطعا من نوع الاحتجاج على فجور كتاباته ووحشيتها واستهتارها وجنونها وانحرافيتها، على غرار مجترّي العفة الشكلانية ونظرياتها المتثائبة، بل من نوع العتب على ما يعيثه في الرأس من تشدّد: فالمركي من الكتّاب النادرين الذي يجعلون قارئهم صعبا، متطلبا، نيّقا، blasé، متأففا، برِماً، غير قابل للانبهار بسهولة، اي أنهم يحرمون هذا القارىء مباهج قرائية دونهم مستوى، كانت لتكون متاحة لولا ضرباتهم القاضية.
"أقسم للمركي دو ساد، حبيبي، أني لن أكون إلا له": العنوان طويل نعم، لكنّ المتعة سريعة واللقية فاقعة. أما ساد العاشق فأعذب مما نتخيل، ورسائله الى حبيبته أقصر مما نتمنى.
إذا تجاوزتم، منذ خمس سنوات على الأقل، الثانية عشرة من العمر، إقرأوا هذا الكتاب.
النهار
مايو 2006