مرة أخرى ماتت مليكة مستظرف. لكن يبدو أنها اليوم تموت لآخر مرة. وكأن حياتها الصعبة المثخنة بالجراح لم تكن أكثر من تدريب على الموت. امرأة احتملت ما لا طاقت لأحد به: "الأطباء حكموا عليَّ بالموت سنة 1986، وبقيت حية. سنة 1990 حكموا عليّ بالموت أيضاً ولم أمت. سنة 92 أقسموا أنني لن أعيش بعد أن دخلت في غيبوبة تامة. وأنا نفسي في فترة من الفترات أقدمتُ على الانتحار، لكنَّ الموت لفظني." قدرتُها على تحمل الألم كانت استثنائية، وبراعتها في حكي ألمها وتعرية جراحها وجراح مجتمعها بلغة صادمة مستفزة كانت تذكرنا جميعاً بمحمد شكري. شكري جديد بتاء التأنيث لكن للأسف من دون اهتمام إعلامي ولا ترجمات عالمية.
مليكة التي غادرتنا قبل أيام، هكذا في صمت، على سرير مرضها الطويل ببيت العائلة في الدار البيضاء، لم تكن تكره شيئا قدر كرهها للصمت. فمنذ روايتها الأولى (جراح الروح والجسد) أطلقت صرختها الأولى: " لن أبتلع لساني وأصمت، بل سأتقيأ على وجوهكم كل ما ظل محبوساً في جوفي طوال هذه السنين. سأنشر غسيلي الوسخ على الملأ ليراه الجميع. لم يعد يهمني أحد." وهكذا كتبت مليكة قصة الطفلة التي تعرضت للاغتصاب فوق سطح العمارة في سن الرابعة. ثم تكررت الحكاية مع البقال الطيب ومع القريب القروي: "أحسست يداً مرتعشة تتحسس صدري ونهدي. أي نهد لطفلة لم تتجاوز السادسة؟ لم أعترض. كنت أعرف أنه لا جدوى من المقاومة. استسلمتُ وأنا ألعن كل شيء في سري."
الطفلة كبرت وصارت كاتبة جريئة لا تتردد في لعن الجميع جهراً. لكن يبدو أن الجراح قررت هي الأخرى أن تكبر معها. جسدها الهش أبى إلا أن يمعن في خيانتها حيث أصيبت بالقصور الكلوي في سن الرابعة عشرة، ومنذ ذلك الحين وهي تواظب على جلسات تصفية الدم ثلاث مرات في الأسبوع: " عمري الحقيقي لا أحسبه بالسنوات، بل باللحظات الجميلة التي عشتها. وحينما يسألونني اليوم كم عمرك، أجيبهم: أنا في الرابعة عشرة، وهي السن التي أصبت خلالها بالمرض. أحس أن عمري توقف هناك وكل هذه السنوات مجرد أشواط إضافية أنعم الله بها عليّ في انتظار الورقة الحمراء."
كانت مليكة تحلم بكتابة رواية ثانية قبل أن تموت. ولأنها كتبت أغلب فصول روايتها الأخرى خلال جلسات تصفية الدم (دياليز) فقد قررت كتابة عمل ثان تحت عنوان (الجناح 31). أسرَّت لي قبل ثلاث سنوات: " أريد أن أروي في عملي الجديد معاناتي ومعاناة الآخرين في هذا الجناح المخصص لمرضى القصور الكلوي في "مستشفى 20 غشت" في الدار البيضاء. لكن صحتي تخذلني. صرت أتعب بسرعة. ولم أعد قادرة على التركيز. أخاف ألا أنهي هذه الرواية."
وطبعاً، لم تتمكن مليكة من إنهاء الرواية خصوصا بعدما تطور المرض إلى فقر مزمن للدم ثم إلى هشاشة في العظام. لم تعد الرواية ممكنة يا مليكة؟ فما العمل الآن؟ صارت القصة القصيرة خيارها الأخير. والرواية الموعودة تحولت إلى نص قصصي مؤثر تحت عنوان (مأدبة الدم) ضمته إلى تسع قصص أخرى ونشرته في مجموعة قصصية صاعقة جاءت تحت عنوان (ترانت سيس). ويحيل رقم 36 بالفرنسية لدى المغاربة على الجنون، فهو رقم جناح الأمراض النفسية والعاطفية بأحد أكبر مستشفيات الدار البيضاء. وطبعاً جاءت شخوص مليكة مستظرف في هذه المجموعة مقهورة متوترة مفتوحة على الجنون. طفلة قصة (ترانت سيس) تعيش مع والدها المهتز نفسيا الذي يستقبل عشيقاته في البيت مساء كل سبت فيما البنت تنزوي في غرفتها وتشرع في الرسم. ترسم نساء بلا ملامح وتتساءل: كيف هو شكل أمي؟ فتى قصة (مجرد اختلاف) يرفضه الجميع ويعاملونه في البيت والشارع بقسوة، أما الطبيب فقد نصحه بأن يتقبل جسده كما هو. لكنه ظل عاجزا عن إقناع الآخرين باختلافه. وفي البيت يجد دائما عقوبة أبيه المملة في انتظاره: "أكتُبْ ألف مرة: أنا رجل، أنا رجل..". ثم مريضة قصة (الهذيان) التي تتعرض لمحاولة اغتصاب على سرير مرضها في المستشفى: "أين أنا؟ مسجاة على ظهري. إحدى يدي فيها إبر كثيرة. لا أستطيع الحركة، رأسي يؤلمني، أنجح في تحريك يدي اليمنى، لا إنها اليسرى.. أتحسس جسمي تحت الغطاء، هل هو الكفن؟ ألمس نهدي، أجفل.. تبدو كفلفلة مقلية مرتخية". ويتواصل السؤال:
أين أنا؟
أنتِ هنا في المستشفى؟
أمي لقد قبَّلني، كانت عيناه بلون الكبد المريض، وحينما ضبطتُه قال: أنت مثل ابنتي. كان يرتدي لباسا أبيض. ممرض؟ طبيب؟ جزار؟ هل نحن في محل جزارة يا أمي؟
نامي يا ابنتي إنك تهذين.."
كل شخوص قصص مليكة مستظرف من هذا النوع. شخصيات مغلوبة على أمرها. رجال معطوبون ونساء بلا رجال يكابدن جحيما يوميا اسمه الدار البيضاء: جحيم المدينة. جحيم الرجال. جحيم التقاليد. وليل الدار البيضاء الصعب والضاري يكاد يفتح الجميع على الجنون. وحدها نعيمة كانت تنظر إلى الأمور بلا مبالاة، ولا تتردد في نصح صديقتها:"ضعي القطن في أذنيك وعيشي حياتك كما تريدين." لكن هل كانت نعيمة فعلاً تعيش حياتها كما تريد؟
"نعيمة وجدت زبوناً مبكراً، ذهبت معه على دراجته "الموبيليت". يبدو عاملا في أحد المصانع."أنا من أنصار الطبقة العاملة، هذا أفضل من التلاميذ الذين تضطر لتعليمهم أبجديات الحب. لستُ سيارة تعليم، تكرر دائماً."
بعد (ترانت سيس) كتبت مليكة مستظرف المزيد من القصص. بين جلسة دياليز وأخرى كانت تكتب قصة جديدة. آخر قصة كتبتها جاءت تحت عنوان (موت)، أهدتها إلى كل هذا الدم الطاهر المسفوح في فلسطين ولبنان، ونشرتها في شهر أغسطس الماضي في موقع "دروب" الإلكتروني. فهل كانت مليكة وهي تنفطر لكل هذا الموت الذي هجم دفعة واحدة على لبنان تتنبأ بموتها الشخصي؟
حينما رفض القاص المغربي أحمد بوزفور جائزة المغرب للكتاب قبل سنتين قال في بيان الرفض إنه يخجل من مليكة مستظرف التي تموت تحت أنظارنا جميعاً، ونحن ساكتون ننتظر أن تموت نهائيا لنرثيها. الآن ماتت مليكة. وها نحن بكل جبن نتفانى في رثائها. رحلت صاحبة (جراح الروح والجسد) و(ترانت سيس) دون أن تقدم لها المؤسسات الثقافية المغربية رسمية وأهلية أية مساعدة. لا شك أننا نشعر اليوم جميعاً بالخجل، لكن المؤكد أن الخجل وحده لا يكفي.