هالني خبرٌ نشرته صحيفة "المصري اليوم"، بتاريخ 27 يوليو الجاري، عنوانه كالتالي: "الحجز علي «أثاث» الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي". وأما تفاصيل الخبر فكالتالي: "حكمت محكمة جنوب القاهرة «تعويضات» للشيخ يوسف البدري ضد «حجازي» ورئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير مجلة «روز اليوسف» بصفتيهما، بالحكم السابق، وعلي الشاعر الكبير أن يتجنب المزاد وبيع أثاث شقته بدفع ٢٠ ألفاً للشيخ البدري، الذي رفع دعوي طالب فيها الثلاثة بتعويض عن أضرار أدبية ومادية، قال إنها أصابته بعد نشر مقال لحجازي في المجلة، وصفه فيه بالتطرف والإرهاب ومعاداة الفكر والثقافة والإبداع." ثم فنّد الخبر تفاصيل منقولات بيت حجازي وأسعارها بما يشي بأن البوليس قد انتهك حرمة البيت وفتّش فيه وكتب قائمة بالأسعار كأنما في محل تجاري عام!
وتعود بي الذاكرة إلى شهرين مضيا. أثناء تسجيلنا برنامج "كتب ممنوعة" في قناة النيل الثقافية لمناقشة ديوان "الثناء على الضعف" للشاعر حلمي سالم. الديوان الذي أثارت إحدى قصائده جدلا مصريًّا حادًا. جدلٌ ومحاكمُ وترويعٌ ورعبٌ كان وراءها أيضا الشيخ العزيز يوسف البدري. جدلٌ لوّح بالسجن للشعر والشاعرن وبالخوف والترويع لكل صاحب قلم وكل صاحب رأي، وبالفرح العميم المقيم للشيخ المسلم الذي لا أعلم مَن وّكله للدفاع عن السماء والأرض وما بينهما. كنا أربعةً على طاولة النقاش. جمال الشاعر، رئيس القناة الثقافية ومقدّم الحلقة، د. صلاح السروي، الناقد وأستاذ الأدب العربي بجامعة حلوان، وأنا، وكان رابعَنا الشيخُ يوسف البدري، وهو مختصم الشاعر حلمي سالم، الذي رفع عليه قضية حِسبة ظنًّا منه أنه يدافع عن الله، عزّ وعلا، الذي مسّته قصيدة سالم، حسب زعم البدري. البرنامج كان على الهواء، وفي البرامج المباشرة يكون بين فترة وأخرى فاصلٌ يلتقط فيه المتحاورون أنفاسهم، ويطرح مقدم البرامج بعض الملاحظات حول الحوار حتى يُستكمل البثُّ المباشر بعد دقائق قليلة. طبيعة البرنامج التحاورُ والسجال، وربما العراك، حول أحد الكتب التي صودرت أو على وشك المصادرة أو في الأقل أثارت جدلا في الرأي العام. ويكون المتحاورون حول هذا الكتاب قسمين. قسمٌ مع الكتاب يدافع عنه ويبدي أسبابه، وقسم ضد الكتاب مع فقه المصادرة والقمع. وبطبيعة الحال كان الشيخ يوسف البدري مع المصادرة والسجن وقطع الألسن، فيما كان د. السروي وأنا مع حرية التعبير دون قيد أو شرط، على أن يأتي النقدُ والمقارعة الفكرية بعد ذلك ليقولا كلمتهما. حيث الفكر لا يقارعه إلا الفكر، والإبداع لا يعالجه إلا النقد. في إحدى فترات الاستراحة تلك بادرني الشيخ يوسف البدري، شامتًا سعيدًا، والله لا مجاز هنا ولا مبالغة، نعم بادرني البدري مستبشرًا فرحا يقول: أنْ انتظري يا أستاذة الحجزَ على بيت حجازي قريبا! ولم أفهم. فقال ألا تقرأين الصحف؟ ثم أوضح أنه كسب قضيته ضد الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي وأن الأخير مدينٌ للبدري بمبلغ 20 ألف جنيه مصري، وإلا سيتم الحجز على منقولات منزله أو حتى طرده من بيته لو لم تف المنقولات بالمبلغ!!! طبعا ضحكتُ باعتبارها مزحةً يحاول الشيخ الطيب من خلالها أن يخفف حدّة التوتر داخل الأستوديو جرّاء سجالنا الحاد حول الديوان وحول الحرية أم القمع. ابتسمتُ ونظرت إلى جمال الشاعر وإلى صلاح السروي مؤكدةً أن الشيخ يوسف يمزح. على أن جمال الشاعر أشهر سبابته محذّرًا بكل حسمٍ أن الشيخ يوسف لا يمزح أبدا وأنه لا ينطق إلا بالحق ذاك أن المزاح ليس من طبيعة الشيوخ الكبار، سيما إذا كانوا في قامة الشيخ يوسف البدري. صُدمتُ. وأطرقتُ. وارتبكتْ موازيني. وغدا الكون غامضًا على غموضه. ولما أفقت من ذهولي قلت للشيخ: معقول يا شيخ يوسف! هو فيه واحد مسلم يحجز على بيت مسلم آخر؟ بل هو فيه مسلم يطرد إنسان من بيته مهما كان معتقده؟ وتحت أي سبب من الأسباب؟ هي دي أخلاق المسلمين يا شيخ؟ مستحيل يا شيخ يوسف، قطعا أنت بتهزر معانا ومش ممكن تتمم الموضوع ده لو كان صحيحا. فبادرني بسخرية: طيب مادام يعنيك الأمر قوي كده ادفعي أنتِ الـ 20 ألف جنيه يا أستاذة فاطمة! فقلت له يعني هي بقى حكاية فلوس موش حكاية إسلام ومدافعة عنه والا ايه بالظبط؟ هي الناس بترتزق من الإسلام وبتكسب من وراه فلوس؟ مستحيل طبعا. أنا لا أصدق. لابد في الأمر سوء فهم مني دون شك. صح يا شيخ يوسف؟ صح؟ ولم يرد الشيخ يوسف، فتأكدت أن الأمر مزحة قاسية يروعني بها الشيخ كي أتأدب بقية البرنامج وأتلم شوية وأوافق على ما يقول وإلا أكون براقش التي جنت على نفسها. لكن خبر "المصري اليوم" فاجئني وأعاد الارتباك إلى موازيني المرتبكة أصلا بسبب ما تحمله مجتمعاتنا العربية من تناقضات مبكية مضحكة. في معرض آخر وفي استراحة أخرى أثناء البرنامج ذاته قال لي الشيخ يوسف البدري بعدما أبدى رأيا نقديًّا حول مدرسة "التفكيكية" قائلا إنها إنما تفكيك العالم ثم إعادة تركيبه على نحو فوضوي! فقلت له يا شيخ يوسف لا يُفتى في النقد مادمنا في حضرة ناقد كبير مثل د. صلاح السروي، فدع النقد للنقاد والشعر للشعراء، فأجاب بحماس وفخار: أنا شاعر وعندي قصائد "فخمة". تحبي تسمعي حاجة منها؟ لكنني اعتذرت شاكرةً ممتنةً. والآن أسأل الشيخ المسلم والشاعر الفخم يوسف البدري: هل يجيز الإسلام لنا أن نطرد الناس من بيوتهم من أجل المال؟ حتى ولو كان هذا المال دَينا أخذه المُدان من الدائن. فما بالنا لو كان هذا المال محض تعويض حكمت به المحكمة نتيجة خلاف فكري بين البدري وحجازي؟ أؤكد لك أيها الشيخ المسلم العزيز، أن شاعرا، أي شاعر، أي شاعر حقيقي طبعا، مستحيل أن يفعل ذلك. ولو كان به عوزٌ للمال. الشاعرُ يهبُ ولا يأخذ، يمنح الجمالَ للعالمين ولا يقبل أن يرتكب مثلبةً إنسانية في حق أخيه. مهما اختلف معه في الرأي. ومهما اتسعت شُقّة الخلاف بينهما. محالٌ على شاعرٍ أن يطرد ويشرد أسرة من بيتها لقاء المال أو سواه. فهل هذه هي القدوة الطيبة التي يقدمها الشيخ يوسف البدري للمسلمين والشعراء؟ فأي مسلمين وأي شعراء يا شيخ يوسف؟
نهضة مصر