لا يزال الإنسان محور الفكر والإبداع، مهما حاولت الآلة العصرية تجريده من كينونته النفسية وحقيقة وجوده الفطري والعقلي والمكاني، في مواجهة تسلحت بها التكنولوجيا بكل مهارات الذكاء والسيطرة وقوة التحمل، بما يجعلها سلاحا مسلطا على رقاب الأحياء في هذا العالم الممتد بتاريخه الواسع وحضارته العريقة وحداثته العصرية.
فالإنسان سيد العالم، تحكم عبر قرون طويلة في رسم معالمه ووضع جاداته الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية الكثيرة في طريق البشرية، وما يوازيها في هذه المملكة الأرضية، ليتجاوز حدودها نحو جارتها السماوية، وكأن المكان هنا لم يعد يحتمله عقـل الإنسان، فآثر الانطلاق إلى الضفاف الأخرى، علّه يجد خارج الأقفاص الأرضية لغات مشتركة، يحمل معه إخفاقات واقعه الأرضي وما انطوى في بقعة داكنة لكائن الظل، في زمن بات يعاني العزلة في أكثر من مكان.
من هنا، كانت اللغة حبلا سميكا يخطو فوقه هذا الإنسان عدة خطوات، خطوة في الحلم، وأخرى تنعي سماء نائية كانت زرقاء في يوم ما.
هكذا هي ملامح الأدب عند الروائي الكويتي الكبير إسماعيل فهد إسماعيل، لكوننا سنلاحظ ارتحالا واضحا لإنسان رواياته وقصصه، يتجاوز نطاق الواقع و إحداثياته إلى ما هو أبعد من هنا أو أقرب من هناك. وكأن الكاتب لم يكتف بواقعية وجوده في بعض هذه الأمكنة، وإنما استعار أيضا ذلك الارتحال النفسي لشخصياته، وربما لنفسه أيضا، بما يهيئ المتلقي للقبول بوجوده في غير هذه الأمكنة.
يرتبط المكان في أدب إسماعيل بذلك الوجود النفسي الذي يستظل به الكاتب في رحلة الكتابة والفكر، في البحث عن ذلك الوجد الخالص بعد معاناة الإنسان الكامن فيه، وغربة المكان محل التجربة الروحية. ولا يقصد هنا بالغربة، ذلك المنفى الذي يُقصي الإنسان عن وطنه، أو الذي يهرب إليه من نفسه، وإنما هي العدم الذي يصنع منه الكاتب شيئا في العزلة، يزيد هالة الإبداع ألقاً وتألقا في مخاطبة العقول، بعيدا عن ضوضاء وصراع هوس قديم، بتحطيم كل ما هو جميل وجديد!
في كتاباته الإبداعية، لمسنا ذلك الارتحال الدائم للإنسان عند إسماعيل بين مواطن عدة، استنطق فيها عذابات المكان والهواجس التي تسكن بين زوايا زمنه، بسبب صراع الأفكار واختناق أشكال شخصياته بمختلف الأحاسيس والمشاعر وأنماط الإدراك المتحولة ما بين مرجعيات أيديولوجية عدة. فأصبح المكان حلبة تتصارع فيها أفكار الكاتب، والتي استرجع فيها الكثير من حوادث الزمان في ذات المكان، ليكون عنصر التأزيم وانفراج العقدة... الإنسان نفسه.
فرواية مهمة في أدب إسماعيل وهي «كانت السماء زرقاء»، والتي وصفها الشاعر العربي صلاح عبد الصبور بأنها من أهم الروايات التي صدرت في أدبنا العربي حتى الآن، وذلك في معرض تقديمه لها في طبعتها عام 1970. عندما تقرأ تلك المضامين التي حملتها سطور النص، والرؤى التي حبلت بها، ستجد أن قارئا معينا يخاطبه الكاتب، وإن تغلّف النص بأنسجة ملونة تغري البعض العابر على النص دون مضمونه، سيجد مأساة الثوار الذين تأكلهم الثورة بعد تصفية الحسابات والمصالح بينهم دون أن يشفع لهم كفاحهم الثوري أو أن يفسح لهم المجال لإثبات حقيقة ما كانوا يؤمنون به، فالمكان الذي كان مشتعلا بثورتهم، بات جحيما يهربون منه إلى أراضي الغير، وإن كانت أرض أعداء الأمس أو باتت لهم منفى اليوم، وهنا تكمن سخرية الزمن في تبدل وجه المكان وهروب الإنسان منه و إليه، و إن كان قابعا بين زواياه المترامية وسمائه الزرقاء، ويكفينا ما سرده الكاتب على لسان الرجل الهارب في حواره مع ضابط الثورة الهارب أيضا عندما سأله الأخير:
- متى يأتي النهار؟
- بعدما تتم الأرض دورتها.
- وأنا أتممت دورتي الخاصة.
- وأنا أدور بصورة عكسية.
- ألا زلت مصرا على الهرب؟
- بلى.
- إذاً فأنا قد حبستك إلى جانبي نهارا كاملا!
- أنا حبست نفسي. لحـد الآن لم أتخذ قرارا قطعيا بالنسبة للمكان الذي سأتجه إليه. «فالمكان هنا أصبح جحيما ومخبأً في ذات الوقت والموقع.
في حين، يأتي المكان في صورة مغايرة في رواية «مستنقعات ضوئية»، حيث يتكور في موقع مغلق على من فيه «السجن»، إلا أن الكاتب استطاع أن يرحل بشخصياته إلى خارج السجن، و ما ارتسم في ذهنية بطل الرواية «جاسم صالح» المختبئ وراء لقب «حميدة» من فضاءات أبعد من سقف الزنزانة أو أرض الأشغال الشاقة وشمسه الحارقة، فما كان الظل في فترات الراحة سوى عبور تلك الأمكنة إلى ذات الإنسان، فتتداعى معها صور الأفق المفتوح، باستحضار من هم... من هناك... من خارج مكان السجن. ليكون المكان هنا «السجن» حرية في شكل آخر، خلاف ذلك المكان الخانق «خارج السجن».
ثم تحول المكان في رواية «الشياح» إلى ملجأ في زمن الحرب الأهلية اللبنانية، اجتمع فيه الأفراد من كل شارع وأيديولوجيا، خلقوا في مكانه المعتم والبعيد عن شمس النهار ونجوم الليل عالما مفتوحا فضاءات من سلوكيات شخصيات المكان، والذين اختلفوا عن بعضهم في ذلك. والمكان «الملجأ» لم يكن مقصورا في كونه ملاذا من أذى الحرب ورصد القناصة، بقدر ما كان ملاذا للجميع من حياتهم في خارج المكان.
ويمضي الإنسان بارتحالاته في روايات إسماعيل، ليتجول بين العراق ولبنان ومصر والمغرب وسورية والخليج، ليعود إلى الكويت التي لم يغادرها بل عبرت إليه في كثير من تداعيات الروح الساكنة بها والنفس الكاتبة في جمالها. ولعل أجمل ما نُقل عن إسماعيل فهد إسماعيل عندما سئل، كيف استطعت أن تكتب عن الكويت «هنا» وأنت بعيد في الفلبين «هناك»... فأجاب أنه يراها «الكويت» أجمل. ليتمخض عن ذلك الشعور بالانتماء لهذا المكان «الكويت» أجمل وأروع وأهم أعماله الروائية وأضخمها إنتاجا وإبداعا، وأعني السباعية إحداثيات زمن العزلة» وهي رواية ملحمية عن الوطن إبان غزو النظام الصدامي للكويت، وكيف أن الكاتب صرّح بأن هويته الوطنية وانتماءه للمكان «الوطن» تعمّق أكثر عن ذي قبل، فكانت المواطنة جوهر مداد قلم إسماعيل في الكتابة عن هنا... المكان/ الوطن. ليقدم لنا نموذجا رائعا في تعلق الإنسان بوطنه، وأنه مصدر إلهام هذا الإبداع، دون إدعاء أن المكان الآخر (المنفى أو المهجر سمّه ما شئت) هو نبع ذلك الإبداع، فلولا الوطن ما كان للمغترب أن يراه في إبداعه وإحساسه، ولولاه – و هو المكان الأول – لما كانت هذه الارتحالات و هذا العبور الدائم له بين سطور القلم. وفي غمرة العزلة التي قد يختارها الكاتب، إلا أنها جاءت مغايرة هنا: «لكنك حيثما وليت شأنك يبقى الوطن تحت جلدك. إذ إن المكان البديل أشبه بالفتيل... قابل لتنكرك عليه... ليس إحساسا بالغربة، لكنه آخذ بالخواء، ومن ثم لامناص من أن تقفل عائدا» . وهكذا الإنسان والمكان والوطن عند إسماعيل فهد إسماعيل.