عيسى مخلوف الذي يعيش في فرنسا يكتب بتأن. ينظر الى البعيد ويتحسس ويكتب. ربما رأى أكثر مما كتب فما كتبه ليس كثيراً. لكن المحطات التي تنقل بينها تكاد تكون بعدد كتبه. الشعر لدى عيسى يقال بلغات متعددة. يقال بالتحليل وبالشعر وبهذا النص المختلط الذي يمزج التأمل بالمشاهدة بالقصيدة. (عين السراب) هو مثال هذا النص المختلط. عين السراب خرج بالفرنسية بعنوان (سراب) أو (سرابات) عن دار جوزيه كورتيه. حول الكتاب والترجمة ومجمل التجربة كان هذا الحديث:
* لماذا تحول الكتاب في ترجمته من عين السراب الى (سراب) في الفرنسية؟
- عين السراب كان يمكن ان يكون احد المداخل لهذا الكتاب الذي يقوم على جملة أسئلة أكثر مما يرتكز الى إجابات جاهزة. انه كتاب يقوم في التأمل والسؤال، ليس في الأشياء الظاهرة بل أيضا في ما وراء الأشياء الظاهرة. كان السؤال الذي يتعلق بعنوان: هل نحن من يرى السراب أم في السراب عينا هي التي ترانا. انطلاقاً من هذا السؤال هناك محاولة لموضعة الانسان ضمن حدود معينة وضمن حجم معين بمعنى ان الانسان لا يعود السوبرمان الذي يطالعنا في بعض الثقافات والتوجهات. بل هو بالأحرى شبيه بالكائن الفرد المشخص داخل منمنمة يابانية وما يحتله هذا الشخص منها أي نقطة في هذا الكون. نقل هذا الهاجس من لغة الى لغة خاصة من خلال العنوان وهو عادة الكلمة الأصعب في الكتاب، أي كتاب هذا النقل اخذ شكلاً آخر في الفرنسية خوفاً من التباس عين السراب بعين السيكلون المعروفة في الفرنسية l'oeil du cyclon فما كان من السراب إلا ان تمدد واتسع وأصبح (سرابات) وجمعه بالفرنسية يوازي إفراده في العربية.
* سبق ان كتبت بالفرنسية بحثا عن بيروت ما هي مساهمتك في نقل النص من العربية الى الفرنسية.
- لم أشارك مشاركة فعلية في ترجمة هذا الكتاب، على العكس من ذلك ساهمت في قراءة فعلية للنص المترجم، مع أبداء الملاحظات التي تتعلق ببعض الفوارق الدقيقة في مفهوم بعض الألفاظ لدى نقلها من لغة الى أخرى بالإضافة الى الترجمة الحساسة والنابضة بروح الأصل التي عمل عليها طويلا المخرج نبيل الاظن. جاءت القراءات الأخرى ومنها قراءتي الخاصة وقراءات شعراء وكتّاب من أمثال صلاح ستيتيه وايتيل عدنان وكريستيل لوكين لتصفي أكثر في النص المترجم وتجعله اقرب ما يكون الى الأصل العربي، بل لتجعل له ربما حياة خاصة به، وهنا لا بد من الإشارة الى ان لعبة القراءة والتصفية لم تقف عند هذا الحد اذ تدخلت دار النشر جوزيه كورتيه المعروفة بعلاقتها المتميزة بالنصوص الأدبية فكانت ترسل لي في الأسابيع والأيام التي سبقت نشر الكتاب احتمالات عدة لعبارة واحدة لاختيار الأنسب منها والأقرب الى مقصود الكاتب. هكذا غدت الترجمة عملية دينامية متفاعلة، الأمر الذي ساهم في إضفاء وهج حقيقي على الترجمة.
نص مختلط
* في الترجمة وترجمة الشعر بوجه خاص هل المطلوب من الترجمة نقل روح الأصل أم إعادة خلق النص في لغة أخرى. والى أي درجة يمكن ان نجد في اللغة الثانية نظيراً لإيقاعات الأصل.
- في الكلام الذي سبق ان ذكرناه تحدثنا عن ترجمة واحدة محددة في حين ان النص الأدبي يحتمل ترجمات عديدة لان كل ترجمة هي معادل لقراءة ويمكن ان تتعدد الترجمات بتعدد القراءات وتعدد المترجمين، أما بالنسبة للنص بحد ذاته والى أي مدى يمكن نقله من لغة الى لغة أخرى خاصة إذا كان نصا أدبيا وليس علميا فهذا يخضع لاعتبارات عدة يلعب فيها المترجم بطاقاته وحساسيته وعلاقته باللغة والنص دوراً مركزياً، ولا يفلح المترجم إلا إذا خرج من سجن الترجمة الحرفية في اتجاه ترجمة حرة مبدعة تبحث عن معادلات موافقة للأصل وفي ذلك، على ما اعتقد، شيء من إعادة الكتابة والإبداع ولا غرابة في ذلك إذا سلمنا ان القارئ وقبل ان يكون مترجما هو مبدع للنص فكيف بالأحرى إذا كان مترجما أي ذلك الذي لا يكتفي عبر قراءته فوق سطح النص وإنما يدخل تحت جلده وفي أعماقه، عبر هذه الترجمة شعرت كيف ان بعض المعادلات تأتي ضعيفة بين لغة وأخرى وبعضها الأخرى يأتي أحيانا اقوي، لا يسعك ان تنقل النص كما هو، مثال على ذلك (صيف الجزر البعيدة) بالعربية أصبح الصيف في الترجمة هو البعيد. وهذا ما حصل باتفاق بيني وبين المترجم، كأننا نعيد كتابة النص من جديد أمام استحالة ترجمته مئة بالمئة كما ذكرنا.
* عندما نقرأ نصك بالفرنسية هل تشعر انه ابتعد عنك وانه الى حد ما نصك وغير نصك وانك احد صناعه ولست الوحيد الذي خلقه؟
- ككاتب ومترجم من اللغتين الفرنسية والاسبانية الى العربية، كنت دائماً أقيس الترجمة بمقاييس حسابية (غير معقولة) كأن أقول إذا استطاع النص ان يترجم 50% من الأصل فذلك يعني ان الترجمة موفقة أو تكاد، مع (عين السراب) وخضوعه لقراءات عدة كما ذكرت وكلها قراءات نابعة من هاجسي الشخصي في ان يكون النص المترجم اقرب ما يكون الى الأصلي، هذه الترجمة عندما قرأتها شعرت أني اقرأ نصي لكن بلغة أخرى وبلون آخر. قرأته في ترجمته كنص قائم بذاته بدون قلق المقارنة الحرفية بين لغتين.
* في عين السراب هل نجد طلاقا مع الشعر الصافي نحو نص أكثر التباسا واقل قابلية للتضييق أين تجد نفسك في هذا الكتاب وهل يعني انعطافا نهائيا نحو نص مختلط؟
- لا بد من الإشارة في البداية الى ان كلمة شعر في العالم العربي، بالأخص هي كلمة شديدة الالتباس حتى أنها أكثر إلتباساً من كلمة كاتب المفتوحة على كل التفسيرات والاحتمالات، وهذا الموضوع يستحق نقاشا أطول، بالنسبة الى السؤال منذ (عزلة الذهب) الذي طبع العام 96 وحتى اليوم وأنا اكتب بطريقة تحاول إلغاء الفواصل بين ما هو شعر وما هو نثر، كتابة تحاول، ان تكون خارج التضييقات القائمة، ولقد جاء ذلك كصدى لأسئلة عديدة حول الكتابة وحول اللغة أمام ما يحدث من متغيرات وتحولات على جميع الأصعدة. ويمكن جمع كل هذه الأسئلة في واحد، هل يمكن عقب كل هذه التحولات ان نكتب الأدب باللغة ذاتها التي كنا نكتب بها، العالم كما تعرف يحكمه اليوم قوتان أساسيتان هما، التكنولوجيا والاستهلاك ولا وجود لشيء خارج منطق الربح والعرض والطلب، أي خارج المردودية المادية، كل ما يعطي مردودية مادية لا وجود له في العالم، من هنا فإن الشعر الذي كان مهمشاً أصلا أصبح ضمن هذا المنطق أكثر عزلة وتهميشاً ولا يتعلق ذلك بالشعر وحده بل بالمعنى الثقافي العام والشعر جزء منه، أي ان ما صنع مجد الثقافات القديمة منذ اليونان حتى منتصف القرن العشرين وبالتحديد الستينيات منه، من أساطير ورياضيات (بالمعنى المعرفي للكلمة) وفلسفة وشعر، كل ذلك أصبح اليوم هامشا ومهمشا أكثر فأكثر، هذا من جانب المردودية المادية، أما من جانب التكنولوجيا فهل يمكن للشعر ان يستقيم اليوم بدون ان يلتفت الى الكشوف العلمية الخارقة والتي باتت تسابق في تطبيقاتها العملية وابتكاراتها الحدس الشعري ذاته، يكفي الإشارة الى حدوس الفيزيائيين الجدد (الانفجار الكوني، الثقوب السوداء التي تبتلع كل المجرات والعناصر المحيطة بها، بما في ذلك الضوء...) هذا الاقتراب العلمي ناهيك عن كشوفات الطب والعلوم الوضعية والتطبيقية عموما مما هو غير منظور يجعلنا نتلمس مما كان يحدس به الشعر لدرجة نتساءل معها إذا كان ريلكه سيكتب اليوم رسالته الشهيرة لشاعر شاب بالطريقة التي كتبها بها في مطلع القرن العشرين وهل يضع غاستون باشلار اليوم الاستشهادات الشعرية ذاتها التي افتتح بها أبحاثه العلمية في منتصف القرن الماضي لو قيض له ان يعيد كتابتها، ذلك لنقول ان ثمة تغيرات علمية تطرأ في العالم ولا يمكن ان يكون المبدع شاعرا كان أم فنانا بمعزل عنها، ألم يطرح الفنانون التشكيليون من الغرب أسئلة جوهرية على توجهاتهم وأساليبهم الفنية اثر ابتكار آلة التصوير الفوتوغرافي أواخر القرن التاسع عشر، من الطبيعي إذا ان يطرح الكتاب اليوم أسئلة جوهرية على كتاباتهم ولغتهم وأساليبهم.
التلفزيون
* لعل الكشوف العلمية هي الفارق الوحيد.
- لا، بل هي جزء من الهواجس العامة المحيطة بنا ومن التغيرات العديدة التي تطرأ في حياتنا. من العوامل الأخرى التي يمكن الإشارة إليها أيضا الحضور التلفزيوني في يومياتنا. نحن اليوم كبشر نعيش في عصر التلفزيون بالمعنى نفسه الذي كنا نقصده حين نقول العصر الحجري والعصر البرونزي، التلفزيون موجه للعامة وهو قائم على الظاهرة التي تناولناها في مطلع هذا الحديث أي الاستهلاك والمردودية، وهم التلفزيون استقطاب أكبر كم ممكن من الجماهير، مما يعني ان التلفزيون يجتهد ليكون في مستوى ثقافة العامة وبواعثها وغرائزها. ما يعني ان هذه الثقافة اليوم هي الثقافة المهيمنة البديلة عن ثقافة النخب، حتى ان نسبا كبيرة من النخب باتت تخضع لقوانين هذا المخلوق العجيب لأن الظهور على التلفزيون مرادف لوجودك ووجود نتاجك في العالم، إذ قال ديكارت أنا أفكر إذن أنا موجود فاليوم يقال أنا أظهر على التلفزيون إذن أنا موجود. لهذا المعنى يصبح التلفزيون أداة خطيرة ليس فقط من خلال تكريسه لثقافة الجماهير بل أيضا، وكما يشير عالم الاجتماع الراحل بباربورديو، من خلال تهديده للديموقراطية ويقصد بذلك بالطبع المجتمعات الغربية وللثقافة الراقية الفعلية ذاتها. من أولى النتائج السلبية الظاهرة للتلفزيون الانتقال من مرحلة المكتوب الى مرحلة المحكي (الشفهي) مجددا وذلك بعد ان أمضت البشرية آلاف السنوات للانتقال من الشفهي الى المكتوب. إلا يشكل هذا كله تحديا أمام الكتابة؟
* كيف يحضر ذلك في عملك الشعري إذا عدنا لكلامك عن العلم وعن التلفزيون.
- إذا لم يكن حضور هذه المؤثرات واضحا في واجهة العمل الأدبي فأنها بدون شك تشكل إحدى خلفياته الأساسية. أما القراءات العلمية فهي تثير في الدهشة ذاتها التي يثيرها في الشعر العظيم والفن العظيم والموسيقى العظيمة بل أني انهل من هذه القراءات في تأملي السابق للكتابة واللاحق لها. من هنا تصبح القراءة سواء للعلوم أو الأدب تمرينا أقل خطورة من الكتابة وأكثر جمالا ربما لأن الكتابة باتت مغامرة فعلية في العالم الراهن، وبات من مهام الكاتب السعي الى ابتكارها كل يوم وجعلها حية جريئة، حرة قلقة لتكون أكثر اقترابا من حركة الذات والجسد والعالم.
* أين مكان الفلسفة في مفهوم جديد للكتابة الشعرية.
- النص الأدبي بالمعنى الذي نتحدث عنه لا ينفصل لا عن الواقع المعيش ولا عن ثقافة الكاتب وانفتاحه على معظم الميادين الفنية والفكرية والفلسفية، لكن هذا ما ينبغي ان يبقى في كوامن الكتابة وان لا يطفو على سطحها وان لا يغدو واجهتها. يغذيها ولا يسيطر عليها، خاصة ان الكتابة الأدبية لا تقوم على براهين علمية وفلسفية بقدر ما هي محاولة لالتقاط ما يتعذر التقاطه.
* يحس المرء بأن في شعرك نزوعا للشك والشفافية. هل يمكن ان نتكلم عن نزعة روحية في هذا الشعر، أو عن نزوع جمالي نحو حدائق روحية.
- احذر من كلمة نسك لأنها تحيل الى الدين وملابساته وتناقضاته خاصة في الوقت الراهن وكيف يتحول عند البعض الى أداة للعنف وتغذية التناحر. أفضل عليها كلمة (ميتافيزيق) أي وضع الإنسان في إطاره الكوني العام والشامل تماما كما ذكرنا في مطلع هذا الحديث. عن الإنسان داخل المنمنمة اليابانية التي تبدو فيها نقطة في الكون.
من هنا فهذه كتابة تقيم في السؤال لا في الجواب. وهذا لا يعني ان هذه الكتابة لا تتأمل في تاريخ الأديان لكنها لا تحتفي بالطبع بالأديان التوحيدية وما فيها من عقاب وثواب وتلك العين القاهرة التي تستبد بك في صبحك والمساء وتتحكم بحيثيات وجودك في الصغائر والكبائر وهي قادرة على معاقبتك تبعا للنصوص التي تحدثت عنها بأشد ما يمكن من العنف والسادية، إنها أقرب الى آلهة أكثر رحمة كما قلت في مطلع كتابي (عين السراب) وأقل بشرية، اقرب الى ابتسامة بوذا الغامضة التي تطالعني في متحف غيميه والى نظرته التي لا تجابهك ولا تخيفك.
* وأين السياسة والواقع المعيش اليومي.
- ذلك أيضا موجود بقوة في نتاج لكنه الجزء غير الظاهر منه وإلا نحول النتاج الأدبي الى خطاب سياسي، الواقع المباشر يتم التعبير في مقالات ودراسات أي بطرق أخرى وهو هذا الواقع، بقساوته التي يصعب ان يفلت منها، يجعلنا نلتفت الى تلك الماورائيات والجماليات كأننا نركب من خلالها مجرى حياة آخر بالقرب من حياتنا يجعلنا نتحمل حياتنا ويجعلها تستحق ان تُعاش. أظن ان ثمة وحشا في كل فرد منا وان الكتابة والإبداع يساعداننا، ربما، على ترويض هذا الوحش. أليس هذا شكلا من أشكال البحث عن الحقيقة.
العالم إلا ينقسم الى اثنين أناس يبحثون عن الحقيقة وأناس يحسبون أنهم يملكونها. هؤلاء يبعثون على الرعب لأن من يشعر بأن لغته هي الأفضل وعقيدته هي الأفضل وأفكاره هي الأفضل هو القادر على صناعة العنف وإعلان الحروب.
السفير
2004/05/28
إقرأ أيضاً: