تخلصنا أخيراً من أدعياء الحداثة

أجري الحديث‏-‏ مصطفي عبادة
تصوير‏-‏ موسي محمود

سامي الغباشبعد أربعة دواوين‏،‏ ومغامرة إصدار مجلة‏(‏ تكوين‏2000)‏ لايزال سامي الغباشي من أكثر المدافعين حضورا عن قصيدة النثر‏،‏ وهو كان أحد أشد السعداء بموقف حجازي الأخير من قصيدة النثر‏،‏ كما أنه كان من أكثر المهاجمين لأعداء هذه القصيدة‏،‏ لا يكتفي بكتابة الشعر‏،‏ لكنه يمارس النقد أحيانا‏،‏ إلي جانب عمله الأصلي‏،‏ فن النحت‏،‏ حول قضايا القصيدة الجديدة‏،‏ وديوانه القديم الجديد وتسميهم أصدقاء كان هذا الحوار‏..‏

* الإيقاع في قصيدة النثر يشكل الحلقة الأضعف في الهجوم عليها‏،‏ كيف تري قضية الإيقاع في القصيدة الجديدة؟

بالتأكيد هناك إيقاع في قصيدة النثر‏،‏ لكنه إيقاع آخر خافت‏،‏ يعتبر من وجهة نظري الوليد الشرعي للغة‏،‏ وينبع من تكوينات أخري غير التفعيلة‏،‏ وإن جاز التعبير فيمكن أن نسميه موسيقي الفكرة‏،‏ أو إيقاع التتابع الدلالي المشحون بشكل لا شعوري في الجملة الشعرية‏.‏
وحتى الآن لا يوجد تنظير حقيقي لهذا المنحني في قصيدة النثر‏، ‏ ولا يشغلني هذا الموضوع‏، ‏ ولا أجد ضرورة في البحث عنه إن لم يتوافر في المنجز المتاح من قصيدة النثر‏.‏
أما من يكتب قصيدة تفعيلة‏-‏ أو أنا حين أكتبها‏-‏ فتجدني من المسحورين بالإيقاع بكل تجلياته‏،‏ فلكل نوع شعري جمالياته التي ينحاز إليها الشاعر‏.‏

* البعض يطالب باعتبار قصيدة النثر جنسا أدبيا مستقلا هل توافق علي هذا ولماذا؟

لا أوافق علي هذا الإبعاد لقصيدة النثر‏،‏ أو إحالتها إلي جنس أدبي آخر أو اقتراح مصطلح متخابث لإقصائها عن صدارة المشهد الشعري‏،‏ فهي التطور الطبيعي للشعر الذي يليق باللحظة الراهنة‏،‏ بكل صخبها وتعقيداتها‏،‏ وقد آن الأوان لإحاطتها بما يليق بها‏،‏ لكن ما يعطل ذلك هو متاهات أشباه النقاد الذين يركزون علي ما يسئ إليها أو حصارها في دائرة التعريف والمسمي‏،‏ دون العكوف علي النماذج الجيدة التي نشرت منها في الأعوام الماضية‏.‏

* ‏ وما مستقبل هذا النوع أو القصيدة الجديدة؟

نحن تجريبيون في المقام الأول‏،‏ وقصائدنا وحياتنا بعيدة عن النبوءات‏،‏ وفي ظل هذا الحراك التاريخي والفني الذي نعيشه‏،‏ أستطيع أن أقول إن معطيات اللحظة الراهنة تتجه بقوة إلي قصيدة النثر‏،‏ والجيد الذي يكتب منها سيحظي بما يليق به رغم الفساد الذي يسود الواقع الثقافي‏.‏

* ‏ ألا تري أن الجدل حول القصيدة الجديدة أكثر من إنجازها الفني؟

هذا صحيح‏، ‏ حيث إن معظم من شاركوا في هذا الجدل من غير المتخصصين أو من الشعراء التقليديين الذين احترفوا النقد علي كبر‏.‏
فالمتأمل في المنجز النقدي الجاد الذي أحاط بهذه التجربة يجده نادرا ما يصيب لب القصيدة أو يخلق نظرية فاعلة ومفيدة للشعراء الذين يكتبون قصيدة النثر‏،‏ ولهذا أحاط بهذه التجربة كتابات فيها القليل من النقد والكثير من زعيق الصحافة‏،‏ أما عن إنجاز قصيدة النثر فهو كثير‏،‏ لكن ينقصه النظام في النشر والتصنيف لأن المشهد الشعري المنشور عندنا أشبه بالكشكول العشوائي‏،‏ حيث تجد شعراء حقيقيين أدعياء‏،‏ شعراء تقليديين‏،‏ هذا كله في صفحة واحدة‏.‏

* ‏ يبدو انحيازك واضح ا لقصيدة النثر‏، ‏ ومع ذلك ما لت تنشر قصائد تعتمد علي التفعيلة وتفرد لها قسما في دواوينك‏..‏ هل يعني ذلك أن تجربتك لم تحسم معركتها لصالح إحداهما؟

انحيازي الآن إلي قصيدة النثر أصبح أكبر‏،‏ ففيها وبها أستطيع أن أتلصص علي ذاتي في انقساماتها‏،‏ وهزائها واصطدامها بعالم الإسفلت والحوائط العالية‏،‏ والعلاقات اليومية الشائهة‏،‏ ولا يعني فساد البعض‏،‏ فساد الكل‏،‏ فهناك من دخلوا إلي قصيدة النثر تحديا وليس استسهالا‏.‏
وأري أن المعركة بين النثر والتفعلية معركة مفتعلة‏،‏ فمن يستطيع أن يكتب قصيدة جميلة فليكتبها في أي إطار وداخل أي نسق إيقاعي‏،‏ المهم أن يصدق ما يفعل‏،‏ لأصدقه وأتفاعل مع عوالمه‏،‏ في نثرية الحياة وهمسها المكتوب أو رقصة النشوان إن دقت من حوله الطبول‏.‏

* ‏ شعراء القصيدة الجديدة يكتبون عن بعضهم البعض‏..‏ هل هذا موقف من النقاد وأين نقاد قصيدة النثر؟

كتاباتنا عن تجارب أصدقائنا من الشعراء لا تعني تجاهل النقاد‏،‏ لكن ذلك يتم بدافع الانحياز الشعري لجماليات القصيدة الجديدة‏،‏ وقد كتبت علي سبيل المثال قراءات نقدية وليست دراسات عن تجارب بعض الزملاء‏،‏ أردت من خلالها إلقاء الضوء علي تجربتهم وبيان جماليات القصيدة عندهم من وجهة نظري‏.‏
أما عند النقاد إن وجدوا فمعظمهم في الساحة الثقافية يعرفوننا ولديهم أعمالنا‏،‏ فمن أراد أن يكتب منهم‏،‏ فأهلا وسهلا‏،‏ لكنهم بسبب لهاثهم الموتور‏،‏ مرة خلف أموال النفط‏،‏ ومرة خلف مساحة إعلامية‏،‏ ومرة خلف مقعد ثابت في إحدى لجان المؤسسات الثقافية‏،‏ أسهموا في تمييع المشهد الأدبي‏،‏ وتضاءل دورهم‏،‏ لذلك كله نحن لا نتجاهلهم‏،‏ بل فقط لم نعد نراهم‏.‏

* ‏ بماذا تفسر توقف أغلب الشعراء الذين ظهروا في التسعينيات أو اتجهوا إلي فن آخر؟

أري أن من حق الأديب أن يتحول إلي أي لون أدبي يستطيع أن يصب فيه موهبته الأدبية ورؤاه‏،‏ أما عن بعض الزملاء الذين توقفوا أو اتجهوا إلي فن آخر فهذا يتوقف علي عطائهم وللتاريخ مرآة ناصعة‏.‏

* ‏ يسمي البعض كتابتهم بقصيدة النثر التسعينية‏..‏ هل يمكنك أن تحدد ملامح تلك القصيدة؟

بالتأكيد هي ليست قصيدة واحدة‏،‏ وليست جماليات موحدة‏،‏ فلكل منا ملامحه الشعرية ورؤاه ومنطلقاته الفكرية والجمالية‏،‏ لكن هناك وشائج بالتأكيد تجمع هذه الكتابة‏،‏ ففي ظل انهيار الأيديولوجيات والقضايا الكبرى والهزائم ولون الدماء صباحا علي الشاشات لابد من كتابة ترتبط بالـ هنا‏،‏ والـ آن‏،‏ والذات في دورانها الصاخب في طاحونة التحقق والحرية‏،‏ لذلك كانت قصيدة التفاصيل‏،‏ والعادي واليومي والمهمش‏،‏ والسري‏،‏ والاجتراء علي أوثان اليقين الزائف‏،‏ وأستطيع أن أقول إن قصيدة النثر‏-‏ أقصد الجيد منها‏-‏ قد وصلت إلي مرحلة ناضجة في مصر تؤهلها للاشتباك بشراسة مع الحياة والفكر كلون أدبي فاعل داخل المشهد الأدبي المعاصر بعد أن تخلصت من أدعياء الحداثة ومستوردي الجماليات الشعرية التي كتبت في واقع آخر ومناخ مختلف‏.‏

* ‏ رغم معرفتك الوثيقة بالتراث إلا أن قصيدتك لا تتكئ عليه كثيرا‏..‏ ما موقفك من التراث؟

الذي يقرأ تجربتي من بدايتها سيجد أنني ظللت أسير التراث لفترة كبيرة‏،‏ ظهر ذلك في ديواني الأول فوق ذاكرة الرصيف‏1991،‏ وأيضا في ديواني الثاني فضاء لها ومسافة لي‏1995،‏ وعلاقتي بالتراث هي علاقة جدل دائم علي مستوي الموروث الديني و الاجتماعي والشعري‏،‏ أما عن تجربتي داخل قصيدة النثر فقد أفادني الإطلاع الحميم للتراث القرآني القرآن‏،‏ التفاسير‏،‏ صوتيات النص القرآني‏،‏ وأيضا التراث الشعري‏،‏ وما أحاط به من علوم اللغة‏،‏ لكنني بعد هضم كل ذلك أتخفف منه راضيا لصالح لغة طازجة أكثر التصاقا بي وتعبيرا عني‏،‏ وهناك قول مأثور طريف بهذا المعني يقول‏:‏ أنت تركب الدابة إلي باب السلطان‏،‏ لكنك لا تدخل بها القصر‏.‏

* ‏ الموقف الفكري للشاعر يدفعه إلي الاتساع الجمالي هل توافقني وهل للممارسة السياسية مكان في حياتك؟

الشاعر كائن هاضم للأفكار والأنواع الأدبية ولست بعيدا عن ذلك بالتأكيد‏،‏ لكنني ضد الادعاء أو الزعيق الفكري أو تحويل القصيدة كما حدث عند بعض شعراء السبعينيات إلي صفحة من كتاب فلسفي‏،‏ الشاعر يهضم كل ذلك ولا يظهر إلا رحيقه في قصيدته‏،‏ وأنا في قصيدتي لا أبحث عن الأفكار لأترجمها شعرا‏،‏ وإنما أنا بسبب انحيازي للإنسان وبسبب تمردي عل كل ما هو غير إنساني أنحاز لقيم حفظناها في طفولتنا‏،‏ ولم نجد منها شيئا في شوارعنا‏،‏ فكل ما تقدم هو نتاج موقف فكري‏،‏ أما الممارسة السياسية أو عدمها‏،‏ وإفادتي منها فقد نشأت معرفيا داخل أسوار اليسار في سوريا ولبنان في الفترة من‏1989-1984‏ أثناء إقامتي هناك للعمل والدراسة‏،‏ ولكنني تخففت من كل ذلك‏،‏ أو بالأحرى لم أصدق نفسي‏،‏ وبالتالي سقطت أقنعة اليمين واليسار أمامي ولم يبق إلا الشعر والانحياز لكل قيم الإنسان وأولها الحرية‏.‏

* ‏ حياتك موزعة بين الشعر والنحت تخصصك المهني‏..‏ ألا تري تعارضا في ذلك وما مدي استفادتك شعريا من تجربتك في النحت؟

دخلت إلي مجال النحت والحفر علي الخشب في صباي بحثا عن إمكانية التشكيل والخلق‏،‏ وساعدني علي ذلك طبيعة المجتمع المهني الذي نشأت فيه‏،‏ لكنني فيما بعد اكتشفت أن طاقتي الحقيقية تكمن في التشكيل والخلق باللغة وفيها‏،‏ فكان الشعر ولقد استفدت كثيرا من ثقافتي التشكيلية ودراستي الحرة للنحت‏،‏ لكنني وظفت هذه الإمكانية النحتية في الجانب المهني فقط الديكور لأتفرغ للشعر‏،‏ فعلي كل إنسان أن يكتشف حقيقته‏/‏ إمكانياته‏.‏

* ‏ نشرت ديوانك الثالث هزيمة الشوارع في عام‏1988‏ ثم أعدت إصداره مرة أخري ببعض الإضافات‏..‏ هل وراء ذلك إحساسك بأنه لم يقرأ جيدا؟

كثيرون لم يقرأوا تجاربنا الأولي بسبب أنها طبعت بكميات قليلة أو لم تطبع أصلا‏،‏ وأنا علي سبيل المثال نشرت ثلاثة دواوين في طبعات محدودة في الفترة من‏1998-1991‏ كان آخرها هزيمة الشوارع‏،‏ وعندما أتيحت لي الفرصة للنشر في هيئة الكتاب‏،‏ أعدت طباعته بإضافة بعض القصائد وبعنوان آخر هو وتسميهم أصدقاء‏،‏ كان ذلك عام‏2002،‏ وهي محاولة للخروج بتجربتي من حيز النشر السري الطبعات المحدودة إلى النشر الحقيقي الواسع‏.‏

* ‏ منذ عدة سنوات حاولت إصدار مجلة خاصة بعنوان‏(‏ تكوين‏2000)‏ وخصصتها لقصيدة النثر ومتابعتها نقديا‏، ‏ وقد صدر عدد وحيد منها وتوقفت‏..‏ ماذا تقول عن هذه التجربة؟

أقدمت علي هذه التجربة بدافع واهتمامي وحبي بالقصيدة الجديدة‏،‏ وما يثار حولها وقد كانت تجربة جميلة ولاقت قبولا داخل مصر وخارجها رغم قلة الإمكانيات‏،‏ فقد كنت أجهزها في منزلي‏،‏ أي لم يكن لنا مقر مثل بعض الشرفاء الذين قاموا بتجارب شبيهة من علي المقهى‏،‏ الكتابة الأخرى مثلا‏،‏ لكنني بعد إصدار العدد الأول الناجح جدا بالنسبة للإمكانيات المتاحة‏،‏ توقفت بسبب تقاعس بعض الزملاء عن القيام بواجبهم تجاه هذه التجربة‏،‏ حيث كانوا قد تعودوا علي التعامل مع المؤسسات المريحة التي سرعان ما تخلت عنهم‏،‏ وتوقفت كل المجلات الأدبية التي عولوا عليها‏،‏ وأري أن علي الجميع الآن إعادة إنتاج مثل هذه التجارب الخاصة بعد غياب دور المؤسسة الثقافية وتخبطها في مجلات عشوائية‏.‏

* ‏ تبدو بعيدا عن حسابات المؤسسة الثقافية‏،‏ ومع ذلك تحتفظ بحقك في الظهور من خلال بعض هذه المؤسسات بين الحين والآخر؟

علاقتي بكل مؤسسات الدنيا متو، ‏ة‏،‏ بسبب طبيعتي المتمردة‏،‏ وقد ابتعدت عن كل المؤسسات الثقافية قرابة عشر سنين‏،‏ نشرت خلالها أعمالي علي نفقتي الخاصة لأضمن حريتي التعبيرية‏،‏ وعندما وجدت فرصة للنشر بشروطي بدون حذف في إحدى سلاسل هذه المؤسسات‏،‏ نشرت ديوان وتسميهم أصدقاء‏،‏ وعندما اعترض أحدهم علي ديواني الأخير كل هذا الوقت بسبب الجرأة في بعض قصائد تمس الدين‏،‏ الجنس‏،‏ سحبت الديوان وأعلنت موقفي في رد منشور في أخبار الأدب‏،‏ وعندما وجدت فرصة للتقدم بديواني لجائزة الدولة تقدمت بدون أي تنازلات وتم تصعيد اسمي حتى النهاية‏،‏ رغم أن بعض أعضاء اللجنة افتقد النزاهة والموضوعية‏،‏ كل ذلك يؤكد تخبط المؤسسة الثقافية ممثلة في أفراد يفتقدون السلوك السوي‏،‏ فما الذي يدفعني للتصالح الدائم مع مؤسسة تدار بقانون المصادفة‏.‏ جميل جدا أن تكون رأس ثعلب، ‏‏ لكن بعضهم يفضل أن يكون ذيل أسد‏، ‏ لذلك تري بعضهم في حالة صلح دائم‏.‏

سامي الغباشي
مواليد‏1968‏
نحات له‏:‏
‏-‏ فوق ذاكرة الرصيف‏1991‏ طبعة خاصة
‏-‏ فضاء لها ومسافة لي‏1995‏ طبعة خاصة
‏-‏ هزيمة الشوارع‏1998‏ طبعة خاصة
وتسميهم أصدقاء‏2002‏ هيئة الكتاب
وتسميهم أصدقاء‏2003‏ مكتبة الأسرة
كل هذا الوقت - تحت الطبع

الأهرام العربي
9 أكتوبر 2004