علي الجندي : عشت كما أحببت... ويقهرني العجز لا الموت
كرهت البياتي.. وعلاقتي بالسياب كانت مأساوية

حاوره : علي كنعان

بعد مطاردات كثيرة، التقيت به، مع أصدقاء له، في اللاذقية. كان بادي الضعف والهزال. بصره لم يعد ذلك الثاقب، فهو بصعوبة يبصر الكأس أمامه. لكنه ما يزال يصيخ السمع لدى مرور رائحة الأنثى. لم يكف عن الضحك، لكنه لم يعد يملك تلك القهقهة الصاخبة التي ميزته وعرَّفت به حانات العالم. ما يزال يتناول ابنة الكروم، لكن ليس بالقدر الذي سمح له طوال عمره باقتحام الحياة طولاً وعرضاً..الخ.
اتفقنا على لقاء آخر، نكون فيه وحدنا، هو وأنا. وكنت أخبئ فكرة حديث صحافي معه. والتقينا في شرفة فندق في المدينة الساحلية شمال سورية.
تحدثنا في كل شيء؛ الحياة، السفر، الخمر، والمرأة، بل خصوصاً المرأة التي يحمل لها الجندي قدراً هائلاً من الحب، ويحتفظ لها بمساحة واسعة من ذكرياته. وفجأة خطر لي أن أسجل جانباً من الحديث الصريح. فقلت له: لو تدري كم طاردتك قبل سنوات. سألت عنك في دمشق، في مطعم وبار "الشرفة" في اتحاد الكتاب العرب، فقيل لي: لقد تزوج صديقته ورحل عن العاصمة إلى الشمال. ستجده- قالوا- في قريته. وسافرت- تابعت حديثي له- وراءك إلى "سلمية"، وقابلت شقيقك الدكتور سامي (رحمه الله)، فقال لي إنك هجرت القرية إلى اللاذقية، فسافرت خلفك و.. لم أجدك. وها نحن معاً.
وبعد محاولات عدة وافق، على أن لا نتوغل في..
ينتمي علي الجندي (مواليد سلمية 1928) إلى فئة الشعراء الملعونين والخوارج، من دون مواربة أو استحياء. يظهر هذا الأمر في شعره جلياً، لكنه يبدو أكثر تجلياً في سيرة حياته التي لم يكتبها بعد، وإن كنا نجد ملامح منها في قصائده. سيرته هذه نجدها لدى أصدقائه وندمائه القادرين -حتما- على كتابة أهم محاورها ومحطاتها، على نحو ما كتب صديق الجندي الأشد قربا إليه،الشاعر ممدوح عدوان، في تقديمه الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر علي الجندي (صدرت حديثا عن دار عطية، دمشق/بيروت، ألف صفحة).
هو من جيل الرواد، زمنياً على الأقل، وقد عاش معهم وبينهم زمناً، لكنه على رغم ذلك لم يكن منهم، ولم يحسب رائداً، ليس لأنه أقل شاعرية أو اندفاعاً نحو التغيير والثورة، بل لأنه-أساساً- قد اختار أن يكون، وأن يظل، بعيداً عن كل ما يمكن أن يؤطر اندفاعه وجنونه، اختار أن يكون الشعر لعنة أو ورطة لا بد منها، لأنه (الشعر) يأخذه إلى الكتابة التي تأخذه من الحياة-العيش، فيما هو منهمك ومهجوس ومطارد بالحياة وبالحب وبالمرأة وحسب!
ظل علي الجندي بعيداً عن الشهرة والأضواء التي يسعى الكثيرون إلى بلوغها بأي ثمن.
من يقرأ الأعمال الكاملة للشاعر، لا بد أن يلفت اهتمامه ذلك الإهمال الذي يشوب مسألة تشذيبه لقصيدته، حتى ليخيَل إليك أنه لا يمنح هذه القصيدة إلا الوقت الكافي لكتابتها، ثم كفى! وهو قد يكتب في المقهى والحانة والرصيف، ولا يتوقف كثيراً أمام ما يكتب.
ولكن... لا يسع قارئ شعر الجندي إلا أن يتوقف أمام هذا التدفق والتنوع والغنى في هذه التجربة الشعرية، وما تعكسه من تجربة معيشة. ففي هاتين التجربتين- الشعرية والحياتية- من الخصوصية ما يضع صاحبهما موضعا مميزاً في الحياة الثقافية العربية عبر خمسين عاماً.
إن اللعنة الأولى التي حملها الشاعر في حياته، كما في شعره، هي لعنة البحث عن حرية مطلقة، بلا قيود.. حرية مستحيلة، إذاً، تتضح استحالتها كلما توغل فيها الشاعر تشرداً وتمرداً، وكلما حاول أن يقبض عليها كي يمنحها روحه ونكهته، وكلما أوغل فيها غربة وعزلة ووحشة.. هو الذي لم يكن يطيق الحياة بعيداً عن الناس، كما لم يكن يطيقها في الاستمرار معهم.
منذ وقت مبكر، راح الجندي يطوي ضلوع نفسه على يأس عظيم حيال ما يمكن أن يفعله الشعر الذي هو محض سحابة سوداء عقيم.. حيث لم يعد للشاعر مكان تحت الشمس، وحيث " الجمهور ظلال سوداء، صماء، غير عابئة إلا بطعام النمل. ومنذ البدايات، كان يتردد في شعر الجندي سؤال: من أنت يا شاعر؟" ويرد صوت الشاعر أنه "دودة ترتعي عشباً على قبر فؤاد حزين!". ويعلن أنه "من نطفة سيئة التكوين" وأن "الموت صليبي".. الخ.
ذلك التكوين الذي سيرافق الشاعر في مراحل حياته، فيظل يحفر في الحياة ممرات ومخارج، ولكن كمن يحفر قبره بضربة خرساء أو عمياء، وكمن يقطف أزهار الحديقة حتى تغدو الحديقة خاوية. لقد امتص الشاعر حياته قطرة في أثر قطرة، وكان يدفن الموت في الحياة، غير آبه بالمصير الذي يعرفه جيدا ويهرب منه أو يخاتله ويخدعه. وما بين بدء الرحلة ووصولها محطة العقد الثامن (تجاوز سن السبعين)، يعيش الشاعر الحياة غالباً، ويتأمل فيها أحيانا، لكنه يغرق في فضاءاتها تماماً. يمنح ذاته للحياة، ويفتح أبواب الحياة كي تغرق ذاته فيها. عاش نعيمها وجحيمها، ملذاتها وآلامها. عاشها بجد محارب واجتهاده إذ يسعى إلى الانتصار والحياة الأفضل، ولا يخشى الهزيمة أو الموت، لأنه أحب الحياة وعشقها عشقاً صوفياً: "يا ولعي المجنون بالحياة ". صرخته المدوية هذه ليست سوى صدى تلك الحياة، تلك الرحلة، وذلك "الترحال من حان إلى حان" وذلك " التجوال من كهف إلى كهف، أفتش عن نبيذ لم يذقه، بعد، إنسان".
ومثل كل ملعون، متمرد، تنطوي تجربة حياة علي الجندي على تناقضات رهيبة. وهي ما يجعل الحياة لعبة غنية ومثيرة دونما قصد أو تخطيط، بل ببراءة وعفوية تجعلان لحظة الضعف معادلاً إنسانياً للحظة القوة، والسقوط في الهاوية معادلاً للارتفاع إلى قمة النشوة، وربما كان في إمكان المعاناة أن ترفع من قيمة اللذة.. مثلما تعلي التضحية قيمة الحرية ومعنى الحياة، ومثلما يطلع النهار من قلب الظلمات.
وفي شعره، كما في حياته، كان علي الجندي يولّد الأشياء من نقائضها: الحلم من اليأس. والخوف من الأمان. مثلما يدفن الموت في قارورة الخمرة أو يجعل عنوان "اللياليين" شط الحياة الرحب. أليست لحظة اللذة هي نفسها اللحظة الهاربة من العمر؟ أليس العيش الجميل سبيلا إلى الهاوية مثله في ذلك مثل المأساة؟ ألا تبتلع الموسيقى الظلمة كما تبتلع لحظات العمر؟!
لقد كتب علي الجندي شعراً إنسانياً يخلّد لحظات ومشاعر الإنسان الذي أراد أن يكونه. كتب بإخلاص عميق لذاته، التي كان يقبع في ذروتها السكرى، أو حين كان قابعاً- كما يقول "في ذروة ذاتي السكرى ". كتب من وحي تجربة شجونه التي ليست -ولم تكن يوماً- سوى شجون الإنسان.
كتب من قلب العبث والفوضى والمجون والجنون، ومن قلب اليأس والهزيمة، لا هزيمته هو فقط، بل هزيمة القوم والأمة، النخلة اليابسة من ألف عام، والأم التي روّعنا عقمها من ألف عام. من قلب الواحة الكاذبة حيث الخضرة نار، وحيث جذورنا تأكلها الديدان.
ورأى علي الجندي نفسه في شعراء مثلوا له ملامح من ذاته؛ في عروة بن الورد حيناً، وحيناً في قطري بن الفجاءة (الخارجي الذي طارت نفسه شعاعاً)، وفي المتنبي أيضاً، لكنه أكثر ما رأى نفسه في طرفة بن العبد رغم أنه- كما يقول الجندي "هوى مبكراً وما أزال أهرم"، لكنه يلتقي مع طرفة في أنهما معاً "عرضة للانهيار في أية لحظة! وأن "السرطان" يقرض حياتنا أبداً". إلا أن تخصيص قصيدة مطّولة "سقوط قطري بن الفجاءة / سيرة حياة داخلية فاجعة في أناشيد"، وتحميله هذه الشخصية أبعاد حياته وشخصه وهزائم جيله الذين سمّاهم جيل "القعد" (كان الرجل من الخوارج عندما يشيخ فما يعود يحسن المشاركة في الحرب، يغدو من قَعَد الخوارج..)، واستلهام الرمز الذي في اسم الشاعر الخارجي (إنه القطر المفاجئ)، إن هذا الصنيع لهو دليل التأثر الكبير بالشاعر المذكور خصوصاً، وبالخوارج أيضاً.
وإلى هذا كله، فثمة اقتراب من عالم السياب الذي بدأت علاقة الجندي به في وقت مبكر، وربما كانت مأساة السياب تلقي بظلالها في شعر شاعرنا دون أن تكون جلية الحضور.
ويبدو في شعر الجندي أثر ثقافة دينية ترتبط بالنص القرآني حيناً، وتتعلق بالمأثور حيناً آخر. كما يتضح حضور الشعر العربي عبر الاستيحاء والتضمين. ومن ذلك ما يجعلنا نقرّب الجندي من مالك بن الريب مثلاً، حين يستعير شطر بيته الشهير "خُذاني فجُرّاني بثوبي إليكما/ فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا"، أو نرى اقترابه من أبي نواس وهو يردد مثله "إذا مت فادفني إلى جذع كرمة.. "، أو من الحمداني أبي فراس وهو يعاتب الحمامة "لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة.. "، فكيف استطاع أن يرى نفسه في هؤلاء جميعاً، وأن يراهم في نفسه هذه؟ أهو القلق، أم هو البحث عن مثال، أم الاثنان وسواهما هو ما كان يسوق خطى الشاعر في الدروب والرحلات؟
عاش الشاعر بصخب واتساع، بما تيسّر له من حرية وتمرد، بكل ما أوتي من رغبة في العيش هنا وهناك؛ مع المرأة أو مع الخمر، اللذين يشكلان أبرز أقانيم حياته.

ما يشبه سيرته

"شاعر الظلال" (كما يسمي نفسه في إحدى قصائد الحب الطارئ) كان لا يزال خجولا حد المرض من الحديث عن نفسه بوصفه شاعراً كبيراً، وصاحب واحدة من أهم التجارب التي تجمع الحياة والشعر في قصيدة، في الشعر العربي المعاصر كله. ولم يكن سهلاً إقامة حوار معه في المعنى المتداول للحوارات، فتحدثنا عن وضعه الراهن، عن صحته الآخذة في التراجع منذ سنوات. تحدث عن ابنته الأخيرة (نَفور/ 5 سنوات) من زواجه الثالث والأخير، ربما. قال إنه يقضي معها وقتا طويلاً- في غياب أمها- يلاعبها ويبتكر لها الألعاب، فهي من تبقى له بعد أن كبر الابن الوحيد والبنات، وطاروا.
تحدث عن الطقس الجميل المشمس، وانتقل ليحكي عن رحلته الأخيرة إلى بيروت لتوقيع كتابه (الأعمال الكاملة) في معرض الكتاب. قال إنه تحمس للذهاب إلى بيروت، على رغم أنه لا يتحمل أعباء السفر، من أجل أخيه عاصم (لم يكن عاصم قد توفي بعد)، يقول عنه "صار عاصم يهتم بي بعد أن كنت أهتم أنا به. صار يخاف علي من قطع الشارع.. فيمسك بي من ذراعي و.. إنه يصغرني بأربع سنوات تقريباً. سامي كان هو الأكبر ثم رعد. وخالد أصغر مني أيضاً).

* قلت له إنني قرأت (في كتابه "هواجس أخيرة") عن رغبته في كتابة سيرته الذاتية، فأخذ يتحدث- بذلك البطء الذي بات يميز أسلوبه في الحديث- عن هذا الكتاب الأخير الذي لم ينشر من قبل أن تضمه الأعمال الكاملة.

- قال: إنه عبارة عن يوميات، لم أفكر إن كانت شعراً أم نثراً، لكن الناشر أصر على نشره باعتباره شعراً، فوافقت.

* ولكن أستاذ علي دعنا نتناول محاور ومحطات وملامح من هذه السيرة التي لم تكتبها. وأبدأ أولاً بالسؤال: لماذا السيرة الذاتية، أما كان الشعر كافياً؟


- حتى الآن شعرت بخيبة أمل. كان الشعر جزءاً أساسياً من حياتي، وحياتي موجودة في شعري، إلا أنني أقول، وبكل أسى، إنني لم أعبر بالشعر عن مأساتي الحقيقية؛ مأساة الإنسان. وأشعر أيضاً بأن الناس لم تقرأ شعري، ولهذا فلا بد من توضيح بعض الأمور. هذا ما يدعوني لكتابة السيرة، وسأكتبها إذا أتيح لي.

* من أين ستبدأ بها؟

- من سن المراهقة والشباب.

* وليس من الطفولة، من القرية الأولى.. ؟

- في القرية لم تكن طفولتي سعيدة أو مرحة. كانت قاسية، فقد كنت ميالاً إلى الحلم، أبحث عن عالم آخر أقل قسوة، وأسعى لأخلق لنفسي عالماً جميلاً.

* وكنت تهرب من واقعك.. إلى أين؟

- لم أكن أهرب منه. كنت موزعاً بينه وبين الحلم، خصوصاً عندما كنت أذهب لأرى الأبقار في سهول القرية، فأقف حيالها كشيء غير معقول. أفكر في هذا الكون الواسع، ولكنني أرتد إلى الواقع القاسي. كنت أغذي النزعة الحالمة بقراءات كثيرة، وخصوصاً بقراءات شعرية، وبأحلام اليقظة التي سرعان ما تختفي. ولم يكن هناك مثال محدد أسعى إليه.

* ماذا عن قراءاتك الأولى؟ وكيف كنت تحصل على الكتب؟

- كنت قارئا نهماً. كنا نخرج في أيام الصيف إلى الأرض التي نعيش منها، فأقرأ كل ما يصل إلى يدي من كتب. وقد اهتديت مبكراً إلى ترجمات لويس عوض وغيرها من الترجمات المصرية، وكان من أوائل الكتب رواية أوسكار وايلد "صورة دوريان غري" الجميلة جدا. بعدها... جاءت مرحلة الجامعة ودراسة الفلسفة، والقراءات الأدبية. وقد كانت لدى عمي أحمد (الجندي) مكتبة جيدة، ولدى أخي سامي أيضاً، ولدى أصدقاء العائلة كذلك.

* هل كان لأخيك سامي تأثير في تجربتك ؟

- سامي لم يطلع على تجربتي الشعرية إلا حين صرت في الثلاثينات (أي عندما اصدر علي مجموعته الأولى، عام 1961، ربما). فهو كان ناشطاً حزبياً وسياسياً، ويعتقد أن شعري غير مهم، وأن علي أن أكون معه في الحزب.

* نظل في قراءاتك في الخمسينات، المرحلة التي اتسمت بصراعات حادة: الماركسية والوجودية والقومية؟

- في هذه الفترة كنت أهتم بالفلسفة الوجودية، وأقرأ كتبها بنشوة. كنا- صديقي علي حيدر وأنا- متهمين بالوجودية، ولم أنكر التهمة. وقد اهتديت أيامها إلى ألبير كامي، وكان يشدني بحثه عن الإنسان المتمرد، وأسلوبه الجميل في الكتابة. كان التمرد يعني- لي- الرغبة في أن تكون لي طبيعة (شخصية ربما) مختلفة عن كل من في بيتنا الذي كان يضم خمسة ذكور وفتاة واحدة. طبعاً حاول بعض الأصدقاء اليساريين استمالتي، لكني كنت أعتقد أن من طبيعة الوجودي أن لا يكون مؤطراً في اتجاه، فكنت أتمرد وأعيش الفوضى بكثير من النشوة.

* ولهذا توجهت إلى دراسة الفلسفة في الجامعة؟

- لهذا الأمر قصة طريفة؛ فقد ذهبت إلى الجامعة لأدرس الأدب العربي، ولكن منذ البداية كانت ثمة محاضرة لأستاذ يتحدث بالأسلوب الركيك- أسلوب الكتب الصفراء- ولم أحتمل أكثر من محاضرتين، فقمت بنقل أوراقي إلى قسم الفلسفة، لأن الفلسفة كانت تشعرني بنشوة فكرية. وكان مما شجعني على ذلك وجود صديق لي يدعى إسماعيل، الذي كان له أثر كبير عليّ. فقد كنا نذهب ونجلس في مقهى الجسر ونناقش المقولات الفلسفية و..

* هل كنتم تحلمون بتغيير العالم؟

- كانت فكرة تغيير العالم تخطر لنا أحياناً.

ينابيع الشعراء

* لنبقَ في البدايات، ماذا عن الينابيع الأولى، والقصيدة الأولى؟

- بعيدا عن التحديد، لم تكن هناك ينابيع محددة. كنت في البداية أعيش لأكتب. وكنت كثيراً ما أبدي الملاحظات ذات الطبيعة الشعرية، إذا جاز القول. كنت أحس أن هذه الرغبة في الكتابة تلخص وجودي كله. أحاول أن أكتب كثيراً، وأبحث عن شكل جديد من الكتابة مختلف عن كتابة الآخرين. لكنني كنت أضيع بين ثقتي الشديدة بنفسي وبين انعدام الثقة بما أفعل.. أشعر أن الشعر هو هدفي، وأنني سأصبح شيئاً ما مهماً، وأحس بالرغبة في أن أغدو كذلك، فأشعر أنني أقوم بعمل عظيم حيناً، ثم أعود وافقد الثقة بما يمكن أن ينتج من كتابتي وبحثي عن الجديد. هذا البحث عن الجديد عذبني كثيراً، حتى عثرت على قصيدة للسياب، فشعرت أنه أعطاني طرف خيط، وأمسكت به.. وكتبت قصائد جديدة، شعرت أن هذا هو الذي أريد، هي ما أبحث عنه. كانت قصيدة السياب بعنوان (السوق العتيق)، ونشرناها في مجلة "النقاد" السورية. كانت فيها تلك الرغبة في التمرد.
بدر شاكر السياب.. كان - قبل نازك (الملائكة) و(عبد الوهاب) البياتي- يكتب أشياء ترى المستقبل وتفكر ( تتنبأ) به. في تلك الفترة بدأت أحس بالغيظ من البياتي. لم يكن يعجبني رغم محاولاته أن يكون لطيفا معي. كان يرى أن من لا يكتب مثله (بطريقته السياسية) فليس شاعراً، بل "صائد ذباب". وعلى سبيل الطرفة، كتبت أيامها - عام 1951 - قصيدة أقلد فيها أسلوبه، أسميتها "صائد الذباب" وأهديتها "إلى البياتي..صائد الذباب الكسول"، أحفظ بعض أبياتها " ويقول لي جار صديقْ / هلا خرجنا للطريقْ / للشارع المزدان بالعيد الجديدْ / نلهو كما تلهو وفود الناس في المرج البليدْ / فأجيبه إني لأخجل يا رفيقْ / من عاري المرذول... من فقري اللعينْ / وأخاف تهزأ فاتنات الحي من ثوبي العتيقْ.. " (قرأ الجندي الأبيات من ذاكرته). وقد تقصدت أن تكون بهذه البساطة، لتكون في مواجهة صائدي الذباب. (هنا توقف علي الجندي وسألني إن كنت أحفظ هذا الحديث المتشعب كله، وأستطيع أن أتذكره، لم أفهم بادئ الأمر، لأن جهاز التسجيل كان أمامه... وكان هو يراه، وقد أسقطه مرتين بحركة يده... وشعرت حين شرحت له دور المسجل في حفظ الحديث، أنه لم يقتنع، وواصل حديثه بسؤال : أين وصلنا ؟).

* وصلنا إلى قصيدتك عن البياتي، وأرغب لو تتوقف عند السياب... علاقتك به، كيف ومتى بدأت...؟

- علاقتي بالسياب بدأت حين بدأت أقر له، وأخذت أكتب، في مرحلة الجامعة، وأنشر، وأتردد إلى الأماكن التي يجتمع فيها الشعراء والكتّاب... كنت، أيامها، استفز الأصدقاء كي يسهروا ويشعروا بصخب العالم والعيش فيه، وكان هذا هو قاموس اهتماماتي في البدء. وما نشرته في تلك المرحلة كان القليل من قصائدي، ولم يبق منها شيء، إذ لم تنشر في مجموعة.
في العام 1948 أو 1949 تعرفت - بالمراسلة - إلى السياب. كان لي صديق ( هو دحام الدندل.. ) يعرف السياب... أبديت رغبتي في التعرف إليه، فقال تعال نكتب له. وكتبنا رسالة شعرية فيها ( تنكيت) على السياب، فرد علينا برسالة أكثر سفها مما توقعت. كانت قد صدرت مجموعتي الشعرية الأولى "الراية المنكسة " ( 1961 )، وندمت لنشرها، إذ أحسست أن هذا الشعر لا يمثل الصخب الذي أعيشه، ورحت أبحث عن شعر آخر.
بعد فترة من تلك الرسالة، التقيت بالسياب في بيت غسان كنفاني حين كنت أسكن معه. قبل ذلك، كان غسان يأتي إلينا من الكويت إلى الشام، ونسهر ونقضي وقتاً معاً. وكانت حواراتنا مع السياب من أكثر الحوارات متعة... لكن علاقتي به كان فيها شيء مأسوي... يأتي إلينا من الشام، نجتمع عند صدقي إسماعيل غالباً. وأذكر حين قرأ علينا قصيدته الشهيرة " أنشودة المطر " بصوته القوي الذي لا يتلاءم مع نحوله. ومرة كنت أجلس في مقهى البرازيل، فرأيت سيارة تتوقف، وهبط السياب وزوجته. كان يتكئ عليها حتى تكاد تحمله. كان جسمه يتأرجح كما لو أنه مجموعة من الخرق البالية. وكان المشهد مأساويا حد البكاء.
آخر مرة رأيته حين جاء إلى إذاعة دمشق وطلب أن يراني، فنزلت من مكتبي، فوجدته يتوكأ على عكازين لأن رجليه ما عادتا تحملانه. وذهبنا - وكانت زوجته وابنه معه - إلى مطعم الوادي الأخضر ( في الربوة )، فكان يتأمل المكان والمناظر الطبيعية كأنما يخاف أن لا يراها ثانية، كأنه كان يودع. بعدها... مات في الكويت، ودفن في بغداد ولم أعرف بذلك إلا بعد مدة.

في بيروت

* قلت إنك قد هربت، عام 1961، إلى بيروت... هربا من نظام عبد الناصر، وندمت. هل كنت ضد الوحدة ؟

- لا، أبدا. أنا كنت وحدويا في الصميم. ولكن الوحدة كانت تتجسد في رئيس الأمن القومي في سورية.. وكان كل المصريين قد تجسدوا في شخصه آنذاك. وفي تلك الفترة، جرى تسريحي من الجيش، وكنت أتقدم لوظائف فيأتي الرد " يمنع تعيينه " فهربت عن طريق طرابلس. وفي بيروت كتبت مقالا جميلا جدا أقول فيه "شكرا يا وطني" (نشر في النهار، أواخر 1961، وأتمنى لو أحصل عليه). وقد عملت في التدريس، ونشرت في صحيفة النهار، وكنت أعمل في المحرر (لرياض الريس) بنصف راتب تقريبا. وتعرفت إلى جماعة " شعر ". الماغوط كنت أعرفه من قبل. شهدت أكثر من سهرة في بيت يوسف الخال... سهرات أصدقاء، لم أجد فيها ما أريد، ونشرت في مجلة " شعر " قصيدتي الطويلة " الصمت الكبير " التي لفتت الانتباه إليّ.
كنت مقلا في النشر لأنني كنت مشغولاً بالحياة وممتلئا بضجيجها ومتعها وجمالها.
كانت بيروت - آنذاك - مدينة المدن، في الجمال والحرية، خصوصا لشاعر هارب من القمع والإرهاب. كانت تحتضن القادمين وتحميهم وتوفر لهم المناخ الملائم. فوجدت فيها الكثير مما أريد. وقد أفادتني مثلما أفادت من حضوري فيها. ديواني الأول نشرته لي دار نشر تملكها لور غريب وأخوتها. وقليلا ما شعرت بحنين إلى دمشق (لجرح في قلبي). وعلاقتي كانت يومية مع غسان كنفاني ورياض الريس وسواهما. لم يكن يهمني أن نملك مشروعا فكريا أو سياسيا. سكنت مع غسان في بيته في الخندق الغميق، ثم في أبي طالب، وحين تزوج تركت البيت وسكنت مع أخي عاصم في الحمرا. ولكن لقاءاتي مع غسان استمرت، وبقيت أزوره في مكتبه حتى حدثت بيننا مشكلة في بيت ليلى عسيران، حين كنا - هو وزوجته وأنا - نسهر عندها، وأخذت كعادتي عندما أكون أمام امرأة، أتغزل بها... فانزعج غسان لأن زوجته معه. فافترقنا فترة، وعدت إلى الشام... ثم في زيارة لي إلى بيروت، رأيته وأنا أدخل إلى الأنكل سام، فنهض واقترب وسألني " هل ستصافحني أم ستصفعني ؟" فاحتضنته وجلسنا.

* هل ستحدثنا عن علاقاتك النسائية؟

- لا أحب التحدث كثيرا عن علاقاتي النسائية في بيروت أو في سواها. يمكن - فقط - القول إنني كنت ناجحا في ذلك، لأنني كنت عفويا ومنطلقا ومعروفا... ومثل أي شاعر شاب في الثلاثينات من عمره، وكنت قد بدأت أكتب ما أرضى عنه.

* حدثتني عن خليل حاوي، كيف كانت علاقتكما؟

- خليل حاوي كان من أصدقائي الأساسيين، كنا نقضي ساعات طويلة في التسكع.. وكثيرا ما نجد نفسينا في الهزيع الأخير من الليل. كان الأكثر أصالة... على مستوى إحساسه بحريته وبحرية الآخرين. كانت له علاقة مع "خميس شعر"، ثم ساءت لأنه كان يتحدث بالقومية، والعروبة. وهذا ما كان يحببني به. آخر مرة رأيته في مربد الشعر في بغداد (عام 1978... ربما). وفرحت به رغم غضبي منه في فترة سابقة كان قد جاء فيها إلى دمشق، وأقام في الزبداني شهرين أو ثلاثة دون أن يتصل بي، فعاتبته و... لم أره بعدها. وحين استشهد لمت نفسي لأنني كنت أغضبه... فمرة كان يتحدث عن شعر سعيد عقل ويقول : أدعو الله أن أصمت في الوقت المناسب. وحين قرأت قصيدة جديدة له، فقلت أدعو الله أن أصمت... فغضب مني. لم يكن طبيعيا تماما، لكنه لم يكن مضطربا تماما أيضا.

* ماذا عن جان جينيه؟

- جان جينيه ... لم يكن لقائي به عميقا... ولا أدبيا... جاءنا إلى دمشق، وكان منهمكا بالقضية الفلسطينية، لذا قلت عنه إنه رجل شريف لأنه ينتمي إلى القضايا العادلة. فأنا أعتبر القضية الفلسطينية من صلب اهتمامي. لم ألتزم يوما ولم أمارس العمل السياسي، لكني كنت قريبا من المقاومة والعمل الفدائي... وفي شعري ما يظهر ذلك، خصوصا قصيدتي عن اغتيال القادة الثلاثة (كمال عدوان، وكمال ناصر، والنجار).

في شعرك وحياتك

* نتوقف أمام مقولات شعرية أساسية في تجربتك. ماذا عن التشرد الذي يظل يتردد في شعرك ؟

- التشرد، الرفض، الملاعين... أنا كنت - في أعماقي - واحدا من هؤلاء. أذهب إلى آخر العالم، وأعيش حريتي ونفوري من المألوف لدى الآخرين. ولكني كنت أخشى التشرد عمليا. كنت أحاول أن أبني نفسي، وقد ولد نصف قصائدي تحت مشاعر الضياع بين الرغبة في التشرد والخوف من عواقبه. وبقيت أهرب من الاستقرار، وأقارن بين حرية تؤول إلى التشرد وبين التمرد. فصرت أغرق في التشرد النفسي. هو تشرد ناقص، لكنه مهزوم أمام رغبة عيش الحياة بزخم. بل كان وسيلة للوصول إلى هذه الحياة. الآن أكتشف هذا الأمر. التشبث المهين بالحياة... لأنه كان بحثا عن حرية لم أحصل عليها، لم تكن كما أردت.
دور الشعر الذي هو ورطة.. أنه قدم البديل النفسي لمواجهة الواقع. تورطت به، ولا أستطيع العودة... حياتي كلها ارتبطت به، تشردي، أو بحثي عن تشرد خاص وتراجعي.
* بين المصير المعتم الذي آلت إليه حياتك- كما تقول - وبين الأمجاد الصغيرة التي أحرزتها... هل عشت كما أردت ؟

- لا أحس أنني حصلت على أمجاد ذات قيمة. كل الشعراء حصلوا على الكثير من الشهرة، مثلا. أما أنا فأردت أن أعيش، وعشت كما أردت. كنت استسفه أن أقدم نفسي كما يقدم الشعراء أنفسهم... كمن يحمل على صدره نياشين بطولة. بل إنني كنت أخجل من تقديم نفسي كشاعر.

* وفكرة الخلود... ألا تعني لك شيئا ؟

- ما اهتممت يوما، في حياتي كلها، بالبحث عن الخلود. أشعر بأن كل شيء باطل وقبض ريح، ولا أرغب الآن في تحقيق شيء. حياتي التي عشتها واستمتعت بها هي كل شيء.

* المرأة التي شكلت محورا أساسا في حياتك، ما سرها، كيف جعلتها كذلك ؟

- المرأة... كنت أشعر، وأنا معها، بكل إخلاص العاشق. لم أكن أقبل بأقل من أن أندفع بكل نفسي. كانت المرأة كل شيء لي. في البداية كانت العواطف الجياشة تحكم العلاقة. وفيما بعد، صرت أقدم للمرأة ما تريد كي تظل. ولم أكن ابحث في المرأة عن شيء محدد، كنت مشغولا بها. لم يكن الجمال أساسيا. كنت احتاج المرأة كي تلهيني عن وساوسي. ولكن... كنت موزعا أيضا بين بقائها معي ورحيلي عنها. وبكل أسف، فقد كنت ابحث عن امرأة لم أجدها، لذلك تعددت النساء. وأنا لا أقول كما قال الشاعر "ليت لكل النساء ثغرا واحدا، لقبلته واسترحت "، بل أقول " ليت لكل امرأة أكثر من ثغر لأقبلها جميعا ". الجسد طاغية... لأنني كنت أخضع لرغباته، لكني كنت أخالفها وأتمرد عليها أيضا. الشعر والحب... صديقان متلازمان، يجب أن يكون للشعر نكهة خاصة هي نكهتي ونكهة حبي.

* والموت... هل تخشاه أو تفكر به ؟

- ما يقهرني هو العجز، وليس الموت. فالموت مثل الحياة والولادة، لا بد منه.@