حاوره في الكويت: عياش يحياوي
يثير المسرحي جواد الأسدي قضايا وزوابع حيثما حل، فهو من الشخصيات الخلافية، التي تمتلك مشروعا مسرحيا واضح المعالم مؤسسا على ثقافة حداثية ملتزمة بأهمية المعرفة في العمل المسرحي، المعرفة في النص والتمثيل والإخراج والفضاء العام للمسرح، والمعرفة كمفهوم لمعنى العمل الفني ووظيفته وأهدافه وتقاطعاته مع فنون أخرى. في هذا الحوار يوجه انتقادات حادة
للمسرح الخليجي والعاملين فيه، ويقدم وجهات نظره التحليلية في بعض المفاهيم المسرحية، كما يتحدث عن مشروع العمل المسرحي الذي يحضر له الاتحاد العام للفنانين العرب بدعم من صاحب السمو حاكم الشارقة، والذي سيشارك به العرب في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، كما يتحدث عن قضايا أخرى ذات صله بإبداعه المسرحي.
في البداية ماذا لو تحدثت عن مشروعك المسرحي من حيث اهتمامك بالرموز والإشارات وتوظيفك لمخزون الذاكرة الجماعية في العمل الفني ونفورك من المسار الخطي لشمولية العرض؟
- اللحظة في مشروعي المسرحي شرفة أطل منها على المستقبل، على مفاهيم الحفر في الذاكرة الصامتة المفعمة بالدلائل العميقة والغنية بالإيحاءات. ومن دون ذلك لا يكون للمشروع قيمة وخصوبة، فأنا لا أمارس المسرح لكي أحصل على ثروة أو شهرة قائمة على إنتاج الترفيه.
ومن أجل ذلك عملت في إطار شراكة فنية مع أصدقاء تقاسمت معهم الهموم والتطلعات نفسها مثل سعد الله ونوس رحمه الله وعزالدين مدني وعبد القادر علولة وبول شاوول وعدد آخر من المثقفين العضويين في الوطن العربي. لقد كنت مع هؤلاء أعتبر الخشبة منصة شخصية تطلق الكثير من الأسئلة والهمس والأقنعة والإشارات، وتلك هوايتي في البحث المسرحي القائم على التحفز في الفكر والتوتر في الذات، وهو بحث عن الجمال المعجون بهموم الإنسان وحركة التاريخ وإعادة كتابة المسطور برؤى جديدة تكشف عن شاعريات الإنسان المدني الجديد المناهض للقسوة والقمع.
من مدينتي بغداد بدأت نقطة التماس الأول مع طقس الفرجة، فرجة الحكايات والألعاب والأصوات الحرة الحاملة للجماليات الهاملتية الفلسفية الفذة. يهطل علي ذلك وأنا تحت فضاء البروفا، غير أني تفطنت مبكرا إلى أن طريقي هذا لا يمكن أن أسلكه في العراق، عراق الجحيم الطائفي والسياسي، فخرجت إلى برور أخرى، حيث وجدت بشرا يحملون بشارات المسرح بقلق هو قلقي، ومحبة هي محبتي، وأفق هو أفقي.
كيف أمكنك حمل هذا المخزون المؤسس على معرفة إشارية حفارة لأعماق الإنسان في مجتمع عربي تقوم معرفته على اللسان وتاريخ اللسان؟
- هذا إشكال عضوي، ينطبق على عملي الأخير "ليالي أحمد بن ماجد"، الذي افتتح به مهرجان المسرح الخليجي في أبوظبي في نهاية السنة الماضية، فقد كان لهذا العمل محمولان، محمول النص الذي كتبته، ومحمول الجماليات التي اقترحتها، وكان هدفي هو إثارة الشغب في ذاكرة المتفرج، الذي ينظر إلى العمل المسرحي كخط متواز مع الخط التاريخي للحدث.
وقد بدأت مشكلتي حين عزمت على تحويل النص عبر خمسين راقصا إلى دلالات إشارية وكتلة جسدية تستلهم الكورس اليوناني، وكان هدفي هو كسر التجانس بين النص والفهم الخطي لمعانيه من أجل الوصول بالمتلقي إلى إدراك سيميائية الأبعاد البصرية ل "ليالي أحمد بن ماجد"، وهو ما لم يتم استيعابه للأسف، على الرغم من أن أغلب المتفرجين على العرض فنانون ومثقفون، والأزمة هنا تكمن في أن بعض هؤلاء كانوا يتفرجون من شرفة تلفزيونية ذات ثقافة مسرحية سردية لسانية، وهم بذلك عطلوا قدرة العين على قراءة الحركة والألوان والتموجات والاختزالات البرقية للأحداث، وتلك مشكلتنا مع المتلقي العربي بشكل عام.
أعتقد هنا، أن الذي لا يختزن معرفة نحتية، ولا يعرف إنجازات شاغال وريبرانت وبيكاسو وجواد سليم، وليس له إلمام بفلسفة الجسد والفراغ، لا يستطيع أن يستمتع ب "الليالي"، ولن يدرك محمولاتها الجمالية والفكرية والدرامية، وهنا تنشأ مشكلة التوصيل بين العرض والتلقي، بحيث يأخذ المتلقي موقفا متسرعا من العرض بدعوى أنه فوضى مستعصية لا فائدة منها.
تقصد أن المشكلة حدثت حين راح المتلقي يراقب مدى قدرتك على تجسيد التطابق الخطي بين ما في ذاكرته عن سيرة أحمد بن ماجد وإنجازاته، وبين ما سيشاهده على الخشبة، في الوقت الذي كنت أنت تعمل فيه على كسر هذه الخطية..
- هذا تلخيص مكثف لما حدث.. وأتذكر هنا ما كتبه الدكتور الناقد ابراهيم غلوم عن العرض المذكور، فقد فجعت في كتابته هذه المرة، لأني كنت أعول على إحاطته بالنقد المسرحي وعلم الجمال، وفي الوقت نفسه كنت رحبا في التعامل مع كتابته، وسر فجيعتي هو كوني كنت على يقين مسبق بأن الأدوات النقدية لغلوم قادرة على تحليل ما ذهبت إليه والقبض عليه وعلى الأمواج البشرية والسفينة الذاهبة نحو الغرق. ولكني بعد القراءة لما كتبه شعرت بهوة معرفية بيننا، ما كنت أعتقد أنها واسعة إلى هذا الحد، وأنا هنا لا أحكي عن درجات الاختلاف بل عن درجات الوعي بالمنتوج المسرحي.
وما طرحه سؤالك هو جوهر المشكلة، بمعنى أن المتفرجين جاؤوا ليشاهدوا أحمد بن ماجد الذي في ذاكرتهم وتفكيرهم، وهنا ينتفي دوري كمثقف وفنان، أي أني أصبح مجرد ناقل لصورة أحمد بن ماجد من الكتب التاريخية إلى خشبة المسرح، ألعب دور المطمئن للمتلقي، في حين كان هدفي الخاص هو أن أنزاح عن هذا التراكم الذي في الرؤوس وأذهب إلى المتخيل الذي في رأسي.
لم تكن مهمتي توثيقية، ومن يبحث عن التوثيق الأمين عليه الدخول بين صفحات الكتب وليس الدخول إلى عرضي المسرحي، أقول هذا لأني اعتقد أن شخصية رحبة وغنية مثل أحمد بن ماجد تحتاج منا فهما جديدا وفقا لأدوات المسرح والفكر والجمال في عصرنا. وخطورة ما ذهب إليه الدكتور ظلوم هو أنه وقع في حفرة عدم القبول بالاختلاف، وكأنه يقول لي لماذا لا تردد ما أعرف وتؤكده في عملك المسرحي؟ وفي ذلك نفي لمعرفتي ومعارف الآخرين. ويهمني أن أنبه إلى وجود مشكلة في الأعمال المسرحية الخليجية التي شاهدتها، إنها جميعا تؤكد أن المنجز الخليجي في هذا المجال متلف، أو يجب أن يتلف، وأغلب عروضه ليس فيها عمق يقترب من شكل الكتابة المسرحية الجديدة وروحها، كما أن التمثيل في العروض الخليجية خال من الشغف وخائب، الصوت فيه والمشروع ميتان، والمسرحيون في الإمارات يقضون عاما كاملا بعيدا عن المسرح، تاركين الفضاء المسرحي الواسع الذي أسسه لهم صاحب السمو حاكم الشارقة بمسارحه الجاهزة، إنهم يتثاءبون في محيط ثقافي ومسرحي متحفز ومفتوح لمبادراتهم وأفكارهم.
ألا ترى أن هناك ظروفا موضوعية تحد من نشاط المسرحيين في الإمارات، منها عدم توفر شروط ثقافية واجتماعية تسمح بتواصل النشاط المسرحي على مدار السنة ومنها عدم وجود معهد عال للتمثيل؟
- أعتقد أن الذي يدخل عالم المسرح عليه في البداية أن يرقى بتكوين قدراته، ويسأل نفسه هل أنا قادر على حمل الهم الإنساني في الثقافات الراقية؟ وما هو زادي الثقافي والمسرحي والجسدي حتى ألج عالم المسرح؟ وبماذا أنشغل؟ أعتقد أن هناك أخطاء في هذا المجال أولها أن الذين يعملون في المسارح الخليجية هواة لم يتخرجوا في معاهد مسرحية كبيرة، وثانيها أنهم لم يهتموا بتكوين أنفسهم عن طريق الاحتكاك بالأعمال المسرحية التي تعرض في عواصم العالم، إنهم يسافرون ولكن لا يشاهدون العروض المسرحية في العواصم التي يقصدونها، إنهم نائمون بامتياز ومستمتعون بهذا النوم العميق، وهم بذلك يؤسسون لظهور ورم مسرحي كبير قائم على الوهم، وهم لذلك لا يثقون بالنقد ولا يتقبلون أية كلمة نقدية، والصحف تقول لهم إنكم أصحاب منجز مسرحي كبير، ولذلك كله سيكون غريبا بينهم من يقدم أية حركة تزعج نومهم.
ليس أمام المسرح الخليجي إذا أراد أن يتطور سوى الكثير من الورشات المتخصصة في الكتابة والتمثيل والمعرفة المسرحية وما يصاحبها من فنون تشكيلية وموسيقا ودروس في علم الجمال.
لم تفز المسرحية الكويتية "أبيض وأسود" بأية جائزة في مهرجان المسرح الخليجي في أبوظبي، وفازت بأغلب الجوائز في مهرجان القرين الثقافي بحضور عدد من المسرحيين العرب، ما تعليقك على ذلك؟
- في اعتقادي، العروض التي شاركت في مهرجان المسرح الخليجي في أبوظبي كانت ساذجة وبدائية، ولو كان الأمر بيدي لحجبت الجوائز كلها لأن العروض لا علاقة لها بفن المسرح إطلاقا. أما المسرحيون المشاركون في "أبيض وأسود" فهم يبحثون عمن يلقي عليهم اللحاف لأنهم لم يعودوا قادرين على التفكير، أقول هذا لأني أعرف الإرث المسرحي الكويتي الكبير الذي يفخر به المسرحيون العرب كلهم، ولأن المسرح الكويتي أعطى للمسرح العربي الكثير من الألق والجمال في زمن عبد العزيز السريع وفؤاد الشطي وزكي طليمات وصقر الرشود. أما المسرح الكويتي في السنوات الأخيرة فلا هوية له ولا قيمة جمالية، كأنه قادم من مكان لا ذاكرة مسرحية له. وتلك آفة المسرح التجاري المنتشر في مصر والعراق والكويت وغيرها من البلدان العربية، إنه مسرح الرزق وليس مسرح المعرفة والإبداع، وما يساعد على انتشاره هو الأمية المسرحية في الحياة الاجتماعية والثقافية العربية.
وأعتقد أن هناك تواطؤاً ضد المعرفة والمسرح في المنطقة العربية، ولا يمكن إدراك ذلك إلا إذا رأينا ما ينجزه الآخر في العواصم العالمية الكبرى.
تعمل الشارقة في إطار مشروعها الثقافي الكبير على نشر المعرفة الجديدة ذات الصلة بالفن التشكيلي من خلال دورات "البينالي" وبالكتاب من خلال معرضه الدولي السنوي، وبالمسرح من خلال الإصدارات المتعلقة بالمسرح العالمي وبالمهرجان المسرحي السنوي، ويتم حاليا التحضير لعمل مسرحي كبير من قبل الاتحاد العام للفنانين العرب بدعم من صاحب السمو حاكم الشارقة، وأنت لك صلة ما بهذا العرض، ماذا تقول عن أهميته؟
- أنا سعيد بمبادرة سموه، لأنها قائمة على ضرورة التحاور المعرفي مع الآخر، والعمل المسرحي الذي ذكرته من المنتظر أن يشارك به العرب في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب في أكتوبر المقبل، حيث ستكون الثقافة العربية للمرة الأولى ضيفة على المعرض. ولأن هذا العمل مطلوب منه إقناع الآخر بما أنجزه العرب في مجال المسرح، فهو بالضرورة يعتمد لغة المسرح العالمية، المؤسسة على خطاب مغاير وقوي وإنساني. فقد انهزم العرب سياسيا وليس أمامهم سوى اللعب بالورقة الثقافية في الأوساط الأوروبية والأمريكية ليؤكدوا أن ثقافتهم ودينهم ضد الإرهاب والتطرف، وأنهم قادرون على لعب دور ثقافي جاد في الحياة المعاصرة.
كيف تتصور كتابة نص هذا العمل المسرحي الكبير، الذي سيشارك فيه فنانون عرب، ويقدم أمام جمهور واسع من الغربيين في فرانكفورت، وفي عواصم غربية أخرى؟
- أعتقد أنه ينبغي التركيز على الجانب الإشاري والموسيقي والجسدي، وأن يكون النص مكثفا، حاملا جمرة الرغبة في التفاعل مع الآخر والتحاور معه، وأعتقد أيضا أن تحدث تقاطعات في العرض بين قيم عربية وغربية تؤكد القيم الإنسانية المشتركة.
ما مشروعك بعد "ليالي أحمد بن ماجد"؟
- مشروعي المقبل هو العراق، سأحاول مع مجموعة من المسرحيين والتشكيليين والموسيقيين العراقيين أن نعيد إحياء الدفء الثقافي والاجتماعي إلى أهلنا في العراق. وأعتقد أنه إذا رجع المبدعون العراقيون إلى بلدهم فإنه سيكون بإمكانهم تقديم الكثير للثقافتين العربية والإنسانية. نعم لن يكون التأسيس والتأثيث سهلين، ونحن نبذل حاليا جهودا من خلال الاتصال بجهات عربية وأوروبية لمساعدتنا على فعل شيء حقيقي وجاد. وأرى أن عرضا يستلهم "ملحمة جلجامش" أحسن ما يمكن البدء به، لأهمية هذه الملحمة في الثقافية العراقية والإنسانية، وما تزخر به من قيم جمالية وفلسفية ودرامية، وأتصور أن العرض ستنهض به الموسيقا. ألم يقل جلجامش: "هو الذي رأى كل شيء، فغني باسمه يا بلادي".
الخليج الثقافي
2004, 02, 09- Monday
إقرأ أيضاً: