حاورتها: مريم جمعة فرج
باستثناء ديوانها الأخير "مجرد مرآة مستلقية" الذي يشبه الحوار الممتد مع الذات فان الشاعرة الكويتية "سعدية مفرح" هي واحدة من الأصوات الشعرية الجديدة في مسيرة الحركة الشعرية الكويتية وفي مسيرة الشعر العربي الحديث الأكثر تناغما مع الأصوات الشعرية الأخرى في الوطن العربي ولكن هذا التواصل الإنساني المعاصر الذي يلفت انتباهك كقارئ لأعمالها الأخيرة وفي مقدمتها هذا الديوان يجعل التجربة الشعرية لسعدية مفرح أكثر تماسا مع مكونات تجربة شعر ما بعد الحداثة التي ربما كانت لا تزال الآن اقرب إلى الاختمار الذاتي في عالمنا العربي: البساتين التي دأب على رسمها مؤخراً.
لا أشجار فيها ولا تجري من تحتها انهار الحليب والعسل
البساتين التي يرسمها
لا تستوعب فضاءاتها إلا اللون الأزرق الباهت
وكأنها مجرد مرآة مستلقية على ظهرها
باتجاه السماء الملبدة بالأشجار التي تضن علينا بثمارها
الفائرة النضج..
ـ في قصيدة لك بعنوان «إثم البلاد» أحسست بتجسيد آخر للمكان يوحي بأن لديك اهتمام بالبحث عمن يسمى بالمكان...» راودتني البلاد وراودتها عن نفسها
وهمت بي
وهممت بها
ولكنها أيقنت
ان لا خلاص بغيري
وأيقنت ان لا سبيل إليها
ـ لقد عشت طوال عمري وأنا افتقد المكان ومع أنني قليلة التنقل والارتحال لظروف معينة ولأنه ليس بحوزتي مكان خاص مكان اعرف انه سيكون لي فإنني احن دائما لأي مكان ولو عشت فيه للحظات والمكان بالنسبة لي هو الوطن وفي الأساس فالمكان ليس هو المكان الجغرافي فقط وأحد أسرار القصيدة العربية ان بيت الشعر اسمه بيت كما أحب الكلمة الانجليزية «هوم» التي تعني البيت والوطن على العموم أنا لدى دائما هاجس البحث عن مكان دائم وأتصور ان الحياة كلها مكان غير آمن لكي يكون مكاناً دائماً هذه نظرة فلسفية غير متعمقة لكن يكفيني هذا الحنين للأمكنة الصغيرة وأنا اعتبر كل مكان منها جزءاً من وطني.
ـ والآخر ؟
ـ طبعاً المكان يرتبط بالآخر لكنه عندي يستحق ان يكون هو الآخر بالنسبة لي ان دائما أو أنسن المكان أحوله إلى انسان وأحس بأنه يفتقدني غرفتي مثلا هي عالمي، أحب الأشياء الصغيرة الموجودة فيها أحب رف الكتب، خزانة الملابس، جهاز الكمبيوتر كل ركن فيها وتصوري ألقى صعوبة في تغيير أي قطعة أثاث فيها لقد عشت أطول فترة في حياتي في غرفتي وأحب دائماً ان أغلق علي بابها فأشعر بأن الغرفة المكونة من أربعة جدران تنفتح أمامي فتصبح كالسماوات المفتوحة أما الآخر بمعنى الانسان فهو مهم بدون ارتباطه بالمكان كما ان المكان وحده مهم بدون ارتباطه بالآخر.
ـ والغياب... لقد وجدت قصيدة تغيب فأسرج خيل ظنوني راسخة كلها في ذهن إحدى القارئات ورغم أنني لم اقرأها إلى الآن إلا أنني تصورت فيها أشياء كثيرة، تصورت الآخر عندما يغيب... في هذا المقطع الأخير... وحين تغيب يكون حضور غيابك أشهى وحين يغيب الغياب يكون حضورك أبهى، فكيف يكون الحضور غياباً، وكيف يكون الغياب حضوراً، والغياب سراب؟.
ـ هذا اسم قصيدة في الديوان وهو العنوان الوحيد الذي لم يتعبني وهذه هي أول جملة خطرت ببالي كخاطر شعري فقررت ان تكون عنوان قصيدة وعنوان ديوان... أنا مشغولة دائما بحالة الغياب ولو قرأت قصائدي ستجدي كلمة الغياب مكررة وكما قال لي احد النقاد فان معظم قصائد دواويني وحتى الديوان الأخير تجدين فيه 9 قصائد تبدأ بكلمة غياب.. غياب صاخب، غياب جذاب، غياب مشترك، غياب اخضر، غياب أخير... لأنني افتقد المكان والآخر المتواصل وأحيانا أحس بأن حضوري كإنسانة يترسخ بالغياب اشعر بأنني غائبة، لدى شعور داخلي بالغربة حتى وأنا بين أصدقائي حتى وأنا بين أفراد أسرتي.
ـ إذن العلاقة بينك وبين الآخر يحكمها هذا الغياب...
ـ اجل لكن الغياب لا يعني الفقد، الفقد هو حالة نهائية لكن الغياب لدى يعني حالة انتظار حضور وأمل وضوء في آخر النفق.
ـ يلاحظ قارئ أعمالك الشعرية ان الموسيقى واللغة تعني لك الكثير...
ـ أنا أحب حتى شكل الكلمة والموسيقى التي تحويها والموسيقى تعني لي الكثير وغالبا ما تبدأ القصيدة لدى أما بخاطر لغوي أو خاطر موسيقي ولذلك أحس أحيانا بأن الكلمة وتكرارها يمثل لي عيباً في مفرداتي الشعرية وقد يعتقد البعض ان هذا شكل مفتعل بينما العكس هو الصحيح لكن لدى إلحاح على استخدام هذه الكلمة «غياب» وكأني لم استنفذ أغراضي من هذا الغياب وكأنني أحس بأن كل ما كتبته عن الغياب إلى الآن لم يعبر عن إحساسي بغيابي.
ـ سعدية مفرح من الأصوات الشعرية الجديدة في الكويت وهناك تشابه شديد بينها وبين الأصوات الجديدة في مسيرة الشعر العربي...
ـ نحن أول جيل ظهر بعد جيل القضايا الكبرى فشعراء الخمسينيات والستينيات كانوا يتحدثون عن القضايا الكبرى وكانوا يتحدثون عنها باعتبارها القضايا الرئيسية للشعر، نحن أول جيل يتحدث عن قضاياه الخاصة يمكن لخيبة الأمل التي أصبحنا نشعر بها تجاه القضايا الكبرى التي كانوا يسمونها قضايا الوطن... أصبح الوطن يمثل لك أشياءك الخاصة وليس هذا الكيان الكبير وليس هذه القومية الكبيرة وليس هذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر، أصبح من الممكن ان اعبر عن الوطن بأشيائي الخاصة، بكتاباتي بعلاقاتي الشخصية. وخيبة الأمل التي أحس بها كتاب ما بعد النكسة أو كتاب 67 جعلتهم آما ان ينقطعوا عن الكتابة أو ينكفئوا على ذواتهم، يريدون ان يعبروا عن هذه الذات لان الكتابة عن القضايا الكبرى أصبحت شيئاً مضحكاًِ، شيئاً كاريكاتورياً منفصلاً عن واقعنا حيث لا توجد لدينا قضايا كبرى حتى نكتب عنها وبالتالي فان قضايانا الصغرى يجب ان تتحول إلى قضايا كبرى وقد يكون هذا ما يفسر لك التشابه بين الحالات التي نتناولها نحن كشعراء في هذا الجيل.
ـ هناك تشابه بينك وبين نزار قباني بماذا تفسرينه...
ـ نزار قباني شاعر كبير احترمه لكن سأوضح لك... لم اشعر على الإطلاق بأن نزار قباني شاعر يمثلني ولا مرة قرأت لنزار وأحسست لو كنت أنا التي اقرأ القصيدة.
ـ سعدية مفرح أكثر قرباً ممن ؟ ـ محمود درويش، سعدي يوسف، ادونيس، ابراهيم نصر الله.
ـ نعود إلى قصيدة «تغيب فأسرج خيل ظنوني» هذه التوليفة من الرومانسية والحرب والغياب...
ـ أحب هذه القصيدة كما قلت لك هذه القصيدة هي قصيدة العمر بالنسبة لي، هي قصيدة ناعمة ورومانسية ومع ذلك فأنا كتبتها في ملجأ أثناء الاحتلال العراقي للكويت حيث كنت موجودة طوال هذه الفترة ورغم صخب الحرب ودوي القنابل من حولي كنت اكتب مثل هذا الشعر ولم أحاول ان اكتب قصيدة صاخبة يمكن ان تكون قصيدة مناسبات لقد كتبت عن الغزو لكن بعد الغزو بسنوات فلم تكن قصيدة الغزو وليدة لحظة الغزو ولكنها جاءت بعد التجربة بمراحل بعد ان تعتقت التجربة في ذهني وفي الغزو كنت اشعر بهذا الغياب بغياب كل شيء حولي بغياب مُثُل بغياب وطن بغياب آخرين بغياب أخ بغياب حبيب بغياب صديق فكتبت هذه القصيدة وكانت لي بمثابة العلاج الذي تداويت عن طريقه من كثير من الأشياء ومن خيبات كنت أحس بها في تلك الأيام. أنا معجبة ببيت شعر كان يقوله مجنون ليلى... وما اشرف الإيفاع إلا صبابة ولا انشد الأشعار إلا تداويا الشعر ينبغي ان يكون بالنسبة لأي قارئ أو متذوق هو الملاذ الأخير وأنا أتعامل معه كقارئة له وكمنتجة لنصه على هذا الأساس وبالتالي عندما كتبت هذه القصيدة كانت نوعاً من العلاج بالنسبة لي والحمد لله كانت واحدة من القصائد القليلة التي كتبتها ورضيت عنها ومازلت أحبها كثيراً رغم إنني بعد هذا الكتاب صدر لي كتابان لكن هذه القصيدة بالذات هي عنواني الشعري ولو لخصت نفسي في قصيدة فهي قصيدة تغيب فأسرج خيل ظنوني والغريب أنها ليست موجهة إلى احد بعينه ولكن إلى كل من اشعر تجاهه بالغياب وأحس بأنها تليق ان تكون عنواناً لهذا الشعور.
ـ في دواوينك الأولى كتبت قصيدة التفعيلة وفي الكتاب الأخير يبدو انك حاولت ان تخوضي تجربة كتابة قصيدة النثر بشكل كامل هل هو انقلاب شعري...
ـ لا ليس كذلك لكنني أحسست في الفترة الأخيرة ان قصيدة النثر هي أكثر أنواع الكتابة تعبيرا عني بشكل حر وطليق وقصيدة النثر قصيدة أتصور أنها جميلة لأنها تلخص لي المعنى الشعري بأقل الكلمات وأحب فيها شفافيتها العالية وشاعريتها التي لاتتحقق بمجرد استخدام الموسيقى أو المفردات المباشرة بل تستمد شاعريتها من موسيقاها الداخلية ومن إيقاع المعنى فيها ومن أشياء كالفرادة والابتكار الشعري داخل كل قصيدة بمعنى أنني أنوع في الديوان الواحد، أنا كتبت قصيدة النثر ولكن ليس كديوان كامل فأنا مصرة على اعتبار هذا الديوان كله قصيدة واحدة رغم عناوينه المتنوعة في الداخل والقصائد التي انتقيتها له كلها وليدة تجربة واحدة أو حالة شعرية واحدة كتبت لفترات متقاربة جداً حتى ان بعضها كتبتها في ليلة واحدة وأنا فرحة لأنها المرة الاولى التي أتحدث فيها عن نفسي بشكل مباشر وأحاول ان أقدم فيها ترجمة ذاتية لي ففي قصائدي الأخرى كنت أتكلم عن الآخر... هنا أتكلم عن الذات وحتى الآخر كنت أتناوله من خلال رؤيتي الخاصة ومن خلال ما يمثل لي ولا أتكلم عنه كوجود منفرد وقد يرى البعض في هذه التجربة بعض الأنانية ولكنني أتصور أنها أنانية مشروعة حيث يتراءى لي ان الأوان قد آن لأتكلم عن ذاتي بدون رتوش وحتى بكثير من الإحباط وكثير من المشاعر التي تبدو غير لائقة ولكنها صادقة وهذا ما يفرحني.
في قصيدة مجرد مرآة مستلقية هناك إهداء لفدوى طوقان يقول : فيها تماما
يسكن كل شيء
يتخذ لطقسه مهرجاناً من الحكمة
يستوى على عرش من الأنوثة والأسئلة
يسمى الدهشة
ـ ما الذي تريده سعدية المرأة ؟ ـ ما تريده سعدية الشاعرة، وهذا الديوان يقدم تجربتي كإنسانة وبما أنني امرأة فهو يقدم هذه التجربة ولا أحب ان أتحدث عن قضية المرأة كما تتحدث عنها الجماعات النسوية لا أحب ان أتكلم من هذا المنظور وأنا أتصور ان قضية المرأة هي قضية الرجل وقضية الرجل هي قضية المرأة وعموما فان المرأة في وطننا العربي مقهورة بشكل مضاعف ولكن هذا لا يعني ان الرجل غير مقهور والرجل أحيانا يعوض عن قهره نتيجة ظروف معينة فيقهر المرأة بدلاً من اتحاد جهودهما لقهر القهر وبالمناسبة فكلما قهر الرجل المرأة كلما عطل 50% من قدراته.
ـ صدر للشاعرة الكويتية سعدية مفرح إلى الآن أربعة دواوين شعرية هي «آخر الحالمين» في سنة 1990 و«تغيب فأسرج خيل ظنوني» سنة 1994 و«كتاب الآثام» سنة 1997 و«مجرد مرآة مستلقية 1999 عن دار المدى».
الشاعرة سعدية مفرح
5 مايو 2001