احمد بزون

تنطلق الناقدة يمنى العيد في ما تكتب من مؤلفات وأبحاث نقدية، من أن النقد هو الآخر معني بالعالم الذي يتناوله النص الأدبي. من هنا تأتي جديتها في التصدي للنقد، وتكريس حياتها لهذه المهمة، على أنها مهمة أقرب إلى النضالية والثورية، وأنها تساهم في حركة التغيير.
من هنا حرصُ يمنى العيد على متابعة الكتابة النقدية بجدية صارمة تقريباً، منذ البدايات مع «ممارسات في النقد الأدبي» العام 1974 (وإن سبقه كتابان عن أمين الريحاني وقاسم أمين)، مروراً بكتابها الأكاديمي الشهير«في معرفة النص» (1983)، وعدد من الكتب والدراسات والترجمات، وصولاً إلى «فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب» (1998).
صوت نقدي متميز على مستوى الوطن العربي. وإذا كان لا بد من التخصص في النقد أيضاً، فقد ركزت العيد على نقد الرواية، وإن صدر لها كتاب «في القول الشعري» وساهمت في تحليل العديد من النصوص والمجاميع الشعرية العربية. ثم لأنها تواكب جديد العالم على مستوى النظريات النقدية، فقد بدت العيد قلقة في خياراتها النقدية، بل منفتحة على كل جديد، توازن بين النظريات الغربية الجديدة والممارسة النقدية المنطلقة من متغيرات الإبداع العربي نفسه.
انطلقنا، في هذا الحوار معها، من كتابها الأخير «في مفاهيم النقد وحركة الثقافة العربية»، وخوّضنا، في غمار تحديد موقف يمنى العيد وموقعها النقدي، في محاولة لحصر التجربة وإضاءة ما أمكن من عناوينها الأساسية.

* تتهمين في كتابك الأخير «في مفاهيم النقد...»، النقد الما بعد حداثوي، بأنه يساوي بين الحقيقة والزيف. كيف يمكن أن نقرأ نقدياً نصاً ما بعد حداثوياً؟

أعتقد أن ما قدمته في هذا الكتاب حول «الما بعد حداثوي»، لا يندرج في لغة الاتهام. لغة الحق والحقيقة والأخلاق... بل يندرج في لغة البحث والمعرفة... بداية اشير الى اني تكلمت عن نزعة ما بعد حداثوية وليس عن الـ ما بعد حداثوي بشكل عام (ص 85 من الكتاب)، وأحلت في كلامي على بودريا الذي يرى بأن فقدان وسائل التمييز بين الواقع ونظائره المتخيلة يفضي الى اعتبار الحدث بمثابة «اللاحدث». ما يعني، وحسب استنتاج كريستوفر نورس الذي يقدم مناقشة هامة لهذه المسألة، «استحالة الاقتراب من الواقع إلا عبر انظمة اشارية تجعل من ذاك الاقتراب أمراً مستحيلاً». والمثل الفاضح على هذا المنحى، او النزعة الـ ما بعد حداثوية، هو حرب الخليج وما قدمته الاقمار الصناعية، او نظامها الاشاري الذي اسقط فظاعة الحدث الواقع وغيّب حقيقته. حقيقة الدم والدمار..
أرى ان السؤال الهام الذي علينا طرحه هو: هل صحيح انه يستحيل علينا الاقتراب من الواقع ومن حقيقة ما يجري على الأرض؟ وفي حال جرى تمثيل زائف للحدث هل علينا ان نقبل بذلك، او نصدّق مثل هذا التمثيل؟ هذه اسئلة طرحتها للنقاش وسعيت عبر ممارستي القراءة النقدية، خاصة للرواية التي راحت تستعين مؤخراً بالوثيقة، وبالراوي الشاهد، وبالمدوّنات... وبغيرها من المرجعيات المسندة، سعيت الى كسر أفق هذه العلاقة بين «الواقع ونظائره المتخيلة» الذي بدا، مع هذه النزعة الـ ما بعد حداثوية، مسدوداً.

* كنت مع الواقعية الاشتراكية ذات يوم، ثم مع البنيوية بفروع مختلفة منها، وصولاً إلى البنيوية التفكيكية. كنت تعترفين بالافادة منها، من دون ان تتبنيها بالكامل. ماذا تقولين لمحمود امين العالم، مثلا، الذي اعتبرك من أتباع باختين؟

مع احترامي لرأي محمود امين العالم وتقديري لمكانته وريادته النقدية واعتزازي بصداقته أجيب عن سؤالك بما يلي: لا بداية من صفر. اضف ان حقول المعرفة هي مسارات تاريخية. بمعنى انها متغيّرات قوامها ما تطرحه علينا حياتنا ومنجزاتنا من اسئلة تدفعنا الى البحث عن أجوبة تبقى مفتوحة على أسئلة أخرى نطرحها، نحن ايضاً، على الحياة.
النقد الأدبي حقل من هذه الحقول المعرفية يتحدد بموضوعه الذي هو الأدب. والمهم في نظري هو السؤال الذي يسعى الناقد إلى صياغته في مقاربته موضوعه باعتباره، أي هذا الموضوع، منجزاً أدبياً مميّزاً يقول. وما يقوله دالّ ومحيل على مدلولات اجتماعيةـ ثقافية، وإنسانية، خاصة وعامة.

* السؤال الذي هجست به منذ بداياتي، وسعيت الى صياغته والى البحث عن اجوبة له هو: ماذا يقول أدبنا العربي الحديث وكيف؟

الكيف يضمر مسألة تقليد، او محاكاتها، أدبنا للأدب الغربي. هذا السؤال هو ما حكم إفادتي من التيارات النقدية الغربية وتنظيراتها المتنوعة. فالواقعية، مثلاً، أكدت لي علاقة الأدب بالواقع، ولكن مقولة الانعكاس لم تقنعني. كما أن غولدمن الذي قوّم مفهوم التناظر بين بنية العمل الأدبي وبين البنية الذهبية للفئة الاجتماعية التي يعيد الأديب تركيبها في عمله، أبقى سؤال الفنية مطروحاً عندي.. والبنيوية، وبأكثر من فرع منها، قدمت لي معرفة بالعناصر المكوّنة لعالم النص ـ الرواية أعني ـ بصفته متخيلاً وإلا على مدلول هو فيه، أي في بنية النص وليس خارجه، وهو ما أبقى سؤال المرجعية، او سؤال العلاقة بالمرجعية الخارجية، مطروحاً عندي. وكان مفهوم القراءة والتأويل والإحالة بمثابة جواب على العلاقة بين المتخيل والمرجعي. لكن التأويل طرح سؤالاً على معنى الحقيقة أدى إلى القول بنسبيّتها وفتح، لدى البعض، مجالاً للقول بنسبة صرفة او مطلقة.. ما اسقط معنى الحقيقة لدى البعض ورهنها، لدى البعض الآخر، بالفني. كل هذا او غيره من ذهاب بعض اللسانيين الى القول بأن اللغة تطفر من الوعي ولا تحيل على مرجع... شكل محاولة مستمرة عندي، واضحة حيناً في مسعاها ومسكونة، في الآن نفسه، بالقلق المعرفي.
أما في ما يخص علاقتي بما قدمه باختين فقد استوقفني عنده مفهوم العلاقة. فالدلالة هي في العلاقة، اي في هذا التجاوز اللغوي ـ التركيبي الذي يعمل الأديب ـ الروائي ـ على تغييره بهدف إنتاج وعي جمعي مادي معرفي بديل من الوعي الغيبي السحري الذي كان سائداً في اوروبا.. غير أن باختين اعتبر تعدد المستويات المعرفية في الثقافة الغربية عاملاً ملوناً ومحدداً لنوع أدبي نثري هو الرواية. وهو ما طرح عندي السؤال التالي: كيف نفهم ظهور الرواية العربية الحديثة مع افتقار ثقافتنا العربية إلى مثل هذا التعدد؟ ولئن كان تعدد الاصوات في الرواية يعود إلى تعدد هذه المستويات المعرفية فهل هذا يعني رواية عربية واحدية الصوت؟ وهل هذا الذي يقوله باختين يفسر ما يذهب إليه بعض النقاد العرب من اعتبار الرواية العربية رواية قاصرة؟

* هذه الاسئلة، ومثيلها، مما يخص عملي على الرواية العربية الحديثة الذي تركز على قراءة المنتج الروائي العربي، جعلني أتساءل: ما دور المعيش، او المرجع الحي، والمرويات الشعبية ـ الشفوية... وهذه الحكايات المحفوظة في الذاكرة بلغاتها وأصوات رواتها وشخصياتها... في الرواية الحديثة، العربية طبعاً..؟

هكذا عدت إلى البحث والتأمل في وظيفة المرجع الحي في الرواية العربية الحديثة على قاعدة الإفادة من الحوارية الباختية، ولكن ومن موقع الاختلاف لواقعنا وثقافتنا ونتاجنا. الاختلاف الذي لا يعني التناقض، او العندية بل التمايز، او اذا شئت الخصوصية بما هي حصيلة مسار، وسمة لتجربة حياتية وثقافية وحضارية.

الخصوصية

* هل الخصوصية النقدية العربية او خصوصية الهوية منعتك من الانخراط الكامل في مدرسة نقدية بعينها؟

أنا حذرة في استعمال هذه المفردة، الخصوصية، أخشى أن يقودنا تبنيها، او تأكيدها، الى الانغلاق. ثمة من اتخذ من الخصوصية ذريعة لرفض ما سمي بالوافد، والذي هو ثقافة الآخر. أضف أن النقد الأدبي ومن حيث استناده الى خلفية نظرية، ينتمي الى حقول العلم والمعرفة وهي حقول مفتوحة على التجربة والإنجاز اللذين وإن ارتبطا بهوية عالم فرد فهما يحيلان على تاريخ للبشرية.
ولعل هذا الواقع، اضافة الى كون تجربتي بحثا مستمرا، اقتضى مني عدم الانخراط الكامل في مدرسة نقدية بعينها.

* أليس وضع النقاد أو المبدعين العرب في خانات غربية تبسيطاً للعملية النقدية وللمثاقفة مع النظريات النقدية الغربية؟

صحيح. وهذا للأسف هو دأبنا في النقد، وفي غيره. في الشعر مثلاً، وفي ما يتعلق بقصيدة النثر بشكل خاص.
ثمة فروقات، وثمة تمايز في النتاج يعود إلى هذه الشبكة من العلاقات النتاجية، إذا صح التعبير، التي يتمثل فيها الراهن المعيش، التجربة الحية وما هو فردي مختلف.
قد نهمل هذه الفروقات، هذا التمايز... ربما لأننا نستهين بأنفسنا وبنتاجنا، وربما كان اللجوء الى التصنيف ووضع النتاج النقدي، او الابداع، في خانات غربية، يعود الى الاستسهال، او الى العجز عن التقاط هذا الذي يتكوّن مختلفاً، في نتاجنا، ووضعه من ثم في سياق تبلوره ونضجه.

* هل إجادة النقد العربي تطبيق النظريات الآتية من الغرب على النص العربي هو الابداع النقدي، ام ان هذا الابداع يتطلب اضافة نظرية مفهومية، من خلال النص الابداعي الأدبي؟

اول ما يتبادر الى ذهني حين اسمع كلمة تطبيق هو الآلية، الاستعارة والغربة، ونفي الـ«أنا» وتجريده من سؤاله. كأننا لم نصُغ بعد لغة التعامل البحثي ـ النقدي ـ حيث لا تطبيق ولا شيء يأتي من هناك الى هنا. إن ما ينتج من نظريات ومفاهيم يصبح حكماً في متناول الباحثين، وما يتبناه باحث من مفاهيم، او ما يتوسله منها في عمله، إنما يوضع في علاقة بحثية ـ وليس تطبيقية ـ قوامها سؤال الباحث نفسه. النص الإبداعي عامل هام في هذه العلاقة التي لا تقتصر عليه.
لست معنية بالتطبيق لأبرهن او لأبيّن مدى صلاحية النظريات والمفاهيم أو عدم صلاحيتها بالنسبة الى النص العربي. أنا مشغولة بمسألة العلاقة بين المتخيل والمرجعي ـ خاصة المرجعي الحي ـ. مشغولة بهذه العلاقة المعقدة لا باعتبار مبدأ وجودها او عدمه، بل باعتبار كيفية تمثل هذه العلاقة في دينامية انبناء الشكل وكيفية القول.
إن كيفية القول هي ما أرّق العديد من روائيينا العرب الكبار وقد اعلن بعضهم عن ذلك القلق وإن شغلهم جميعاً.
تقولين في احد حواراتك ان هناك محاولات في انتاج او بلورة نظرية نقدية عربية، ثم تقطعين في مقالة اخرى بالقول ان النظرية النقدية ليست لها قومية.
 هناك محاولات... ولكن هذا لا يعني انني بين من يقومون بمثل هذه المحاولات، أو أنني ممن يقولون بنظرية نقدية قومية عربية. أعتقد أن هذا قول لا يستقيم علمياً.
ثمة نقد أدبي عربي باعتبار المادة الأدبية واللغة. وقد يكون بإمكان ناقد عربي بلورة بعض المفاهيم النظرية النقدية، الجديدة، التي سوف تنسب إليه ومن ثم تندرج في الحقل المعرفي العام. شأن مفهوم الدلالة، مثلا، الذي ننسبه، تاريخياً، الى عبد القاهر الجرجاني، وننسبه، حديثاً، الى دي سوسير، مع الاخذ بعين الاعتبار الفارق المفهومي بينهما. اما الهوية القومية فقد تعني من يؤرخ للعلوم والمعارف، او من يريد توظيف الهوية الفوقية لمعيار قيمي حضاري او سياسي.. غالبا ما يوضع، هذا المعيار القيمي، على حد صراعي لا يتلاءم واخلاق العلم او البحث المعرفي.

* هل تشعرين بالدونية اتجاه النقد الأدبي الغربي؟

بغض النظر عن دوافعك لمثل هذا السؤال، وبالإحالة على ما سبق من اجوبة، اضيف بأني لا اتعامل مع الكتابة، النقدية بخاصة، من منطلقات نفسية فرويدية، او بمشاعر لها علاقة بالذاتي/ الشخصي. لقد استطعت باكراً أن أضع مسافة بين الذاتي/ الشخصي وبين المعرفي الموضوعي. وأرى أن ما نعانيه من قصور على مستوى العلم والمعرفة ليس مسألة ذاتية أو شخصية تدفع الى الشعور بالدونية، بل مسألة لها علاقة بأنظمة حكم تاريخية، وايديولوجيا سياسية، ومسار خضعنا فيه، وعلى مدى طويل، لهيمنة خارجية ولاستغلال استعماري، كما لسلطات محلية أفقرت شعوبها وحرمتها حرية التفكير ومتعة الحياة.
ولئن كانت نظرتي إلى الغرب ليست شمولية فأنا لا أتعامل مع ثقافته ومعارفه من موقع التنافس أو العداء، كما اني لا امارس كتابتي النقدية بهدف التنافس مع احد، هناك او هنا، امارسها، كما سبق واشرت، على ضوء سؤال طرحته باكراً على نتاجنا الأدبي بصفته ـ اي هذا النتاج ـ تعبيراً عن حياتنا المفتوحة، حيث النظر في بعدها، او في معناها الاعمق، على ما هو مشترك بين الناس. انه سؤال الوجود الذي يسكنني والذي يصرفني، احياناً، عن مسعى الكتابة النقدية. هذه الكتابة التي يمتعني منها ما كان على عمل أدبي يشي بهذا السؤال، أو يدق أبواب جحيمه المقلقة.
الجسمانية

* ألا ترين أن الجسمانية الجديدة، المادية الباختية، في شقها الجنسي، هي في جوهرها ضد الايديولوجيا الغيبية أيضاً. هل أنت مع هذه الموجة من الرواية الجسمانية الجنسية؟

اتفق معك على أن مادية باختين الجسمانية هي ضد الايديولوجيا الغيبية، وقد تمثل ذلك في كلامه على أعمال «رابليه» الروائية، وعن الشخصية التي راحت، وعلى مدى الرواية، تتعرف الى جسمها، وبدل وعيها الغبي به، او جهلها له ولجوئها الى السحر لمداواته، تكوّن لديها وعي معرفي حقيقي بهذا الجسم، جسمها المادي. ولعل الهام عند باختين، او في دراسته النقدية لأعمال «رابليه» هو إظهاره لهذه اللغة الروائية الجديدة التي تكوّنت، بما سماه باختين، المجاورة: لغة مادية معرفية تجاور لغة «سحرية غيبية قائمة» وتطرح كبديل ما كان يهم باختين هو، ومن منظوره النقدي، الوعي المعرفي.
لذا يصعب عليّ اقامة العلاقة بين ما تسميه الجسمانية الجنسية وبين جسمانية باختين او ماديته، خاصة أن بعض الروايات العربية تتعامل مع الجنس بهدف الإثارة، أو يبقى كلامها على الجنس في حدود الفضائحية.. أو يتركز منظورها النقدي على التسلط: تسلط الذكورة على الأنوثة.
أما الوعي المعرفي المادي ـ ولا أقول الجسماني ـ فقد اشتغلت الرواية العربية على إنتاجه بحكايات وسبل أخرى، غير الجسمانية الجنسية (اشير على سبيل المثال الى روايات صنع الله ابراهيم) وإن كان مثل هذه الروايات لم يهمل الجنس.

* أنت باحثة في النقد وتمارسين النقد في آن. هل حدث وغيّر تحليلك النصوص العربية مفاهيم نظرية نقدية اقتنعت بها؟ بمعنى آخر هل النظرة النقدية تكون دائماً بوصلتك كقارئة أم العكس؟

ثمة تداخل دؤوب ونسيجي بين الممارسة والنظرية. ان تحليلي للنصوص ممارس بحوار ضمني للمفاهيم النظرية، حوار غير مباشر، او على خلفيتها غير المقصودة... ذلك أن المفاهيم هذه تصبح مع مرور الزمن وإدراكنا المتمكّن لها من تركيبة فهمنا لما نقرأ، من ثقافتنا النقدية ـ الأدبية.
علماً بأني لم أكن يوماً أسيرة المفاهيم وإن كان اهتمامي المعرفي بها أساسياً في تجربتي النقدية.
ما حدث، بالنسبة لتحليلي وعملية التغيير لمفاهيم نظرية والاقتناع بها، كان عندي معكوساً لما طرحته في سؤالك. ذلك ان التحليل قادني الى الاقتناع لما لم أكن مقتنعة به. عنيت مفهوم التأويل الذي بقيت، في المراحل الأولى من تجربتي النقدية، حذرة من الاخذ به. لكن ما حصل من تغيير عندي، كان استناداً الى قراءات عديدة قمت بها... والى تأمل وتبصر وتفكير... إلا أن السؤال حول مفهوم الحقيقة التي ادى التأويل الى وضعها موضع الشك، بخصوص هذا المفهوم بقي مطروحاً عندي. فكان، واستناداً إلى تحليلي لبعض الأعمال الروائية، ان انتهيت الى التمييز بين الحقيقي المنتج فنياً على مستوى المتخيل، وبين الحقيقة القائمة على مستوى المرجعي والمرتبطة بالحدث والمرهونة بالتوثيق. التأويل يجري على مستوى المتخيّل، ولكن يحيل القارئ على مرجعي يضفي عليه الفني طابع الحقيقة، أو يسعى لإيهام بحقيقته. هكذا يبرز دور القراءة وأهميتها في ان تكون نقدية، حوارية، ثقافية ـ معرفية. كما تبرز اهمية ان يكون كل قارئ ناقداً، اي ذا منظور نقدي ووعي ثقافي. ومثل هذا القارئ هو مسؤولية المؤسسات التعليمية وبرامجها.

التجريب

* بين الشعر والرواية، الا ترين ان التجريب العربي تطرق في الاول كثيراً، وبقي في الثاني منحازاً الى المعنى اكثر من المبنى؟

التجريب، كما أفهم، هو تجاوز لشعرية كرّست مع الزمن قواعد لها. فقد كرّست شعرية الشعر العربي، الموروث، قواعد ما عرف بعمود الشعر العربي: موسيقى الوزن والقافية والشطرين، وبلاغة الصورة المتمثلة في المقاربة في التشبيه ومناسبة المستعار منه للمستعار له.
كذلك، كرّست شعرية الرواية الحديثة قواعد الحبكة السردية: حبكة البداية والعقدة والخاتمة.
التجاوز عنى، عملياً، هدم هذه القواعد ومحاولة ايجاد كيفية تشكل، او بناء، متحرر منها دون البحث، او استهداف، قواعد جديدة. وهو ما عنى فتح الشعرية وتجلياتها الجمالية على التنوع والتمايز الفردي، على التجدد المستمر.
ولقد كان للمثاقفة دور في ذلك. كما كان لعامل التجربة المعيشة، لراهنية الزمن وأسئلته، اثر بالغ.
التطرف هو من طبيعة المحاولة التجريبية التي عنت بالنسبة للشعر تدمير قواعد تراثية راسخة. ولم يكن من السهل إيجاد بدائل إيقاعية، وجمالية مجازية. وكلاهما، الإيقاع والمجاز، تشكيل وصياغة اي ايجاد لغة جديدة. اضف ان المدلولات في الشعر، او المعاني، ليست فيه مما يحفل بالتعيين والتحديد، بل بالإيحاء. ان علاقة الشعر بالزمن تختلف عن علاقة الرواية به. يتعامل الشعر مع زمن كوني، لحظوي، ما ورائي. تعبيراً عن رؤيوية (من رؤيا)، عما له علاقة بالحلم، بالآتي. بكونية التجربة الإنسانية، ما يجعله يبدو غير منحاز للمعنى.
وقد يكون التطرف من طبيعة التجريب، أو مما يسم بدايات مرحلة آلت اليوم الى بروز أسماء شعرية، تجاوزت التجريب إلى الإبداع المتميز بشعريته والمتمايز بفرديته.
أما بالنسبة إلى الرؤية فقد اهتمت هي أيضاً بالمبنى، ولعل ما يلفتنا في هذا الصدد هو رهن الدلالة، في بعض الروايات العربية ـ اللبنانية والمصرية بشكل خاص ـ باللعبة الفنية، وبالتحديد بتشكيل زمن السرد. فبعد أن كانت الدلالة مرهونة في الرواية الواقعية، بالحكاية وبما هي، أي الحكاية، فعل وحدث ومعنى، رُهنت، في بعض روايات التجريب، بزمن السرد، بكيفية تشكله السردي، وكان ذلك على حساب المعنى أو وضوحه.
لكن، وبالمقابل، راحت مؤخراً بعض الروايات العربية ـ بما فيها الرواية اللبنانية والمصرية ـ تستعيد بعض تقاليد السرد الحكائي العربي الموروث، وتعيد توظيفه بما يتلاءم وحداثة الرواية وراهنية حكايتها، محتفلة مجدداً بالمعنى وبوضوحه. بعض هذه الروايات يعود الى روائيين كانوا قد مارسوا التجريب.

* تقولين إن ما يشغلك في العملية النقدية هو المرجع الحي المعيش. هل نستطيع أن نفهم كيف يتحكّم هذا المرجع بمتغيراتك النقدية؟

صحيح. فهذا المعيش، المجتمعي الحي، مجتمع المدينة، هو ما شكل، في الغالب، عالم الرواية (دون أن ننسى ارتباط نشوء الرواية، كما هو معروف، بتكوّن هذا المجتمع) اذهبْ الى القاهرة وتجول في أحيائها ودروبها وطرقاتها.. واصغِ الى كلام أناسها وأحاديثهم وحواراتهم.. تجد نفسك تتذكر روايات نجيب محفوظ، تشعر وكأنك تعيش ما قرأته في معظم رواياته..
هذا المعيش هو مادة روائية ثرية. السؤال الذي يبرز هو عن كيفية تشكل هذا المرجعي المعيش عالماً روائياً لا ينقل هذا العالم المرجعي بل يصوغه بصفته متخيلاً. هذا السؤال النقدي، عن كيفية التشكل عن الروائية، هو فعل الرواية الذي على النقد أن يصوغه سؤالك.
طبعاً لم يكن البحث المتعلق بهذا السؤال، والمحدد بعلاقة المتخيل الروائي بالمرجعي الحي، سهلاً نظراً الى استقلالية النص على مستواه المتخيل والمميز. إنه سؤال عن روائية الرواية. باعتبار الفني العام والمرجعي الخاص الهادف الى كونية. لقد طرح عليّ هذا السؤال أسئلته ـ إذا صح التعبير ـ حول عدد من المفاهيم مثل: المتخيل الأثر (effet)، الوظيفة، المرجع، الإحالة، السردية، اللغة، السياق، الشخصية/ الشخص، الراوي/ المؤلف...
كل هذا وغيره يجعلني أعتبر الممارسة النقدية متغيرة بحثية، أو عملية تحول بحثي مرهونة بسؤالها الأساس. كما سبق وذكرت.

* تتهرّبين دائماً من تحديد مرجعيتك النقدية، أو تحديد موقعك النقدي بدقة. هل هذا هو معنى القلق النقدي الذي تعيشينه؟

ما زلت أبحث، ولعلي (!)، مؤخراً، وبعد عدد من الدراسات والأبحاث، توصلت الى جواب ما، الى شيء من القناعة تخص سؤالي النقدي، أتهيأ لكتابة استخلاصات نظرية لهذه الدراسات والأبحاث قبل إصدارها في كتاب. ومع هذا أقول لك بصراحة بأني أتهيّب. ولا أتهرب، لأني وبكل بساطة أحترم العلم والمعرفة وأتوخى الدقة. لا أحب الركون الى قناعات متسرعة. وأرى أن القناعات، في مجال البحث، قابلة للتعديل، للتطوير فالمعارف صيرورة لا سيرورة وحسب.
لقد تآخيت مع قلقي، الصامت، إنه دينامية حياتي وليس فقط بحثي النقدي، أما بخصوص موقعي النقدي فهو متروك لنقد النقد.

* إلى أي حد يمكننا الكلام على أن الرواية تطور أدواتها التشويقية لتنافس السينما والتلفزيون في عصر الصورة الذي نعيش؟

تستفيد الفنون عادة من بعضها البعض كونها تتعايش وتندرج في واقع ثقافي ـ فني مشترك، وعام. ولكن يبقى لكل فن خصائصه وبالتالي وسائله في عملية التشويق:
ـ فالوسائل التي تعتمدها الشاشة تتوجه، وبشكل أساسي، الى البصري والسماعي، في حين تتوجه وسائل الرواية التشويقية الى متخيل عليه هو أن يستحضر الصورة والصوت داخل مخيلته، الوسيلة هي هنا الكلام، اللغة.
ـ حركة الصورة السينمائية سريعة تفرض علينا، نحن المشاهدين، مدة زمنية محددة، مرتبطة بزمن البث الذي مهما طال يبقى قصيراً نسبة الى زمن السرد الروائي الذي يترك لنا، أو يسمح لنا، بالتحكم بزمن صوره.
ـ إن الحبكة وسيلة تشويق أساسية بالنسبة الى الرواية، وقد لا تكون كذلك بالنسبة الى العرض السينمائي الذي قد يتوسل العرض المشهدي في عملية التشويق.
ما أود قوله من هذه الإشارات السريعة، والعامة، بأن التنافس قد لا يكون مطروحاً بالنسبة لعمل روائي إبداعي، خشية أن يأتي التنافس بدافع الرواج وعلى حساب قيمة العمل الفنية.
أما فيما يخص الصورة فإن تصوير الشخصيات، أو نسجها بما يمنحها طابع الحياة، فهو من مقومات عالم الرواية، قبل السينما وقبل التلفزيون، وبغض النظر عنها، لا عمل روائياً بدون شخصية توحي بالحياة، إن التصوير السردي هو خاصية روائية ووسيلته التشويقية هي وسيلة لغوية ـ أسلوبية وهي مهارة على هذا المستوى.
رددت أكثر من مرة أن الرواية العربية تشهد ازدهاراً، هل لا زلت على هذا الرأي.

السفير
9-11-2007