سعدي يوسف
(العراق)

قبل عامَين تلقّيتُ دعوةً من "المركز الأميركي لنادي القلمAmerican PEN center ، للمشاركة في ملتقيً دوليّ مَعنِيٍّ بالتثاقُفِ .
آنَها ترددتُ طويلاً، ثم أخبرتُ أصحابَ الدعوة اعتذاري، لأسبابٍ خاصّــةٍ. الناسُ قبلوا اعتذاري بكل لُطفٍ .
لكنهم جدّدوا الدعوةَ هذا العام، في هيأة رسالةٍ من سلمان رشدي، بُغيةَ المشاركةِ في ملتقيً دوليّ حول " الوطن وما بَعدَه .
ومع الرسالة أُرفِقَتْ قائمةٌ بأسماء المشاركين والمشارِكات ، ومن بينهم: نادين غورديمر (نوبل)، وبرايتن برايتنباخ، وسلمان رشدي نفسه .
رجوتُهم تمديد إقامتي أربعة أيامٍ أخري تلي أيام الملتقي . قلتُ لهم إنني أريد أن أتآلف مع الحاضرة العظمي : نيويورك. مع مانهاتن، وجسر بروكلين،
ومتحف المتروبوليتان ، وقرية غرينتش ... وحانة " الحصان الأبيض " التي كرعَ فيها ديلان توماس آخر كؤوسه، قبل أن ينهار علي مصطبة، ويُنقَل إلي مستشفيً قريبٍ ليقضي نحبه ... إلخ .
وهكذا كان . وصلت مطار جون فتزجرالد كنيدي، في ظهيرةٍ صافية من اليوم الثالث والعشرين ، نيسان .
الإجراءات بسيطة ، فأنا أحمل جواز سفرٍ بريطانياً ، أخيراً !
لقد تخلّصتُ ، إلي الأبد، من قذارة الإدارة العميلة في العراق، واشتراطاتِ جواسيسِها وقَتَـلَـتِها المعمّمين .
كان هنالك من يستقبلني وينقلني إلي نُزْلِ المبيت والفطور :
Bed and breakfast
وصلنا إلي رقم 501 في لكسنغتِن آفنيو ، بمانهاتِن، حيث نُزْلُ روجر سْـمِثْ Roger Smith Hotel
المفاجأة كانت أن هذا النُزلَ كان ذا ستة عشر طابقاً. نُزل مبيتٍ وفطورٍ يليق بنيويورك !
وتذكّرت ما يماثله في المملكة المتحدة، بيوتاً ذوات غُرُفاتٍ لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة ...

***

إسهاماتي في الملتقي كانت ثلاثاً :
1- في قاعة المدينة، حيث الافتتاح .
2- في هنتر كوليج .
3- في بيت شعر نيويورك .

*
في مساء الافتتاح، كانت القاعة ممتلئة تماماً، وعند الدخول كنا رأينا الناس مصطفّين لشراء تذاكر الدخول ، خمسة عشر دولاراً للتذكرة .
كان هناك مطرٌ خفيفٌ .
موضوع الأمسية كان عن الوطن ومابعده .
ومن المتحدثين: نادين غورديمر . سلمان رشدي . أنا ...
ہہہ
في هنتر كوليج كان الموضوع متصلاً بالهجرة. تحدثتُ مع عبد الرزاق قرنة من زنجبار ، وسيدة مغربية (نسيت اسمها)، وشابٍّ من موزمبيق
كان أصدر كتاباً عن تجربته
المريرة باعتباره من الأطفال الجنود .

***

في بيت شعر نيويورك، قرأتُ قصائدي مع برايتِن برايتنباخ، وسيدة من الدانيمارك ، وشاعر شابّ من البرتغال .
حرصتُ علي قراءة قصيدة واحدة باللغة العربية مع الترجمة الإنجليزية، وكانت تلك القصيدة هي " ليلُ الحمرا " .

ليلُ الحمرا

شمعةٌ في الطريق الطويل
شمعةٌ في نعاس البيوت
شمعةٌ للدكاكين مذعورةً
شمعةٌ للمخابز
شمعةٌ للصحافيّ يختضّ في مكتبٍ فارغٍ
شمعةٌ للـمُقاتل
شمعةٌ للطبيبة عند الأسرّةْ
شمعةٌ للجريح
شمعةٌ للكلام الصريح
شمعةٌ للفنادق تكتظّ بالهاربين
شمعةٌ للـمُـغَنّي
شمعةٌ للمذيعين في مخبأٍ
شمعةٌ لزجاجة ماء
شمعةٌ للهواء
شمعةٌ لحبيبَين في شقّةٍ عاريةْ
شمعةٌ للسماء التي أطبقتْ
شمعةٌ للبدايةْ
شمعةٌ للنهايةْ
شمعةٌ للقرار الأخير
شمعةٌ للضمير
شمعةٌ في يدي !

***

علي أيّ حالٍ، كان عليّ أن أغادر نُزل روجَر سْمِث، مع انتهاء الاستضافة يوم التاسع والعشرين من نيسان، لأسكنَ شقّة سنان أنطون، بالمبني السكَنيّ لأساتذة جامعة نيويورك التي يعمل فيها سنان . شقّته بالطابق الثامن، تطلّ علي مكتبة الجامعة، وعلي الشارع الذي تسلكه لتبلغ حديقة جورج واشنطن الشهيرة، ومن هناك ستتفتّح أمامك قرية غرينتش، أو القرية كما تُدعي هنا اختصاراً .
في هذه الشقة زارني صلاح عوّاد الشاعر ، والصحافيّ المخضرم في مقر الأمم المتحدة .
قال لي صلاح عواد إن النادي العربي في الأمم المتحدة يريد أن يدعوني إلي قراءة هناك في المقر .
وهكذا أعلن النادي الثقافي العربي :

United Nations Staff Recreation Council
Arab Club
يسرّ النادي العربي في الأمم المتحدة دعوتكم لحضور اللقاء الشعري
مع الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف ، وذلك من الساعة الواحدة
وحتي الثانية والنصف من بعد ظهر يوم الثلاثاء 1 أيار/ مايو 2007
في قاعة الاجتماعات Eفي مبني الأمانة العامة . ونشكر لكم مساهمتكم
في هذه المناسبة الثقافية المتميزة .
الدعوة عامّة .

كان اللقاء طبيعياً، وأليفاً. قرأت حوالي ثلاثة أرباع الساعة. بسّام اللبناني، الذي يعمل مع سنان أنطون علي إنتاج فيلمٍ سينمائيّ عني تولّي توثيقَ القراءة كاملةً .

***

في مقهي / مطعمٍ إيطاليّ، بالقرية ، يحمل اسم "مقهي البحر" التقيتُ مع صديقَينِ عزيزَينِ، أكنُّ لهما احتراماً خاصّاً، وتربطني بهما وشائجُ حُلمٍ ومعايشةٍ في أماكن عدّة، خطرةٍ أحياناً، هما إلياس خوري، وفوّاز طرابلسي الذي تجشّم الرحلة من كولومبيا، حيث يعطي دروساً، إلي القرية . كان رائعاً كعادته ، وقوراً، وممتلئاً بالعنفوان، والرأي السديد النافذ ...
إلياس خوري، دائبٌ علي اكتشاف العالَم . محتفٍ بالحياة، وبالصداقة . دافقٌ بالأمل . يسدِّدُ سهامـه، فلا تطيش .
قد يطيش ، هو، لكنّ سهامه لن تطيش !

***

حين ، ارتفعتْ نيويورك، فجأةً ، أمامَ عينيّ، وأنا في السيارة، قادماً من المطار، أحسستُ بأنني صديقٌ لهذه الحاضرة ،
أحسست ُبأن العمائر المرتفعة في الـبُـعد ، هي الأسطورة التي ظلّت حاضرةً في الحاسّة والتصوّر . نيويورك تنهض ، فجأةً ، أمامَ عينيّ ، كما نهضتْ في الحلم المستديم . نيويورك الحقيقة والسينما . الحلم والـحَجَــر . أُطروحةُ الثورة الفرنسية ، ومأوي قاطعي الرقاب .
لستُ متوجِّساً من المدينةِ .
استعرضتُ ما كتبه الشعراءُ :
لوركا أوّلاً .
ثم مَن قلّدوا لوركا .
العداءُ الذي واجه به الشعراءُ (بعد لوركا) نيويورك، كان عداءَ التقليدِ المتعجِّل لفيدريكو غارسيا لوركا .
أنا لم أشعرْ ، حتي هنيهةً ، بوخزة العداءِ التقليدية تلك .

***

غيرَ بعيدٍ عن "حديقة جورج واشنطن"، وفي يوم سبتٍ، كان "سوق الفلاّح . Farmers market
الفلاحون يأتون بمحاصيلهم: فواكه ، وخضار ، ولحوم ...
أجل ما في السوق، التلاميذ الصغار الذين يؤتي بهم إلي هنا كي يتعرّفوا علي الأشياء في أوّلِــها. كل شيء له ملمسٌ ورائحةٌ ومرأي وتاريخ .

***

يقول لي صلاح عوّاد :
أعرفُ أنك ستأتي إلي نيويورك ثانيةً وثالثةً .
هذه المدينةُ ، مدينتي .
طفتُ كثيراً .
وفي أحد الأيام ، دخلتُ إلي شارعٍ ما هنا . سألتُ عن أمرٍ ، فدلّتني امرأةٌ إلي سواء السبيل . قلتُ : إذاً ، هاهوذا مـأواي .
وأنا هنا ، مُذّاكَ . أنا هنا منذ قرنٍ !

***

العلاقة بين الشعراء والمدن ملتبسةٌ إلي حدٍّ ما، لكن نيويورك أمرٌ آخر ...
أنت لا يليق بك أن تجعل علاقتَكَ، والحياةَ، ملتبسةً .
هل نيويورك الحقيقة القصوي؟

***

بيتر موني Peter Money شاعرٌ صديقٌ من ولاية فيرمونت .
كنّا نتراسلُ لستّ سنوات، ونتبادلُ قراءة نصوصنا الجديدة. بيتر موني شاعرٌ ممتازٌ، وأحدُ طلبة ألان غينزبرغ. هو أستاذ جامعة. أودعَ ابنتَه لدي أصدقاء، وجاء يلقاني في نيويورك. ترافقْنا ثلاثة أيامٍ، وأهداني "هارمونيكا" حقيقية .
قال : الهارمونيكا مبارَكة . اعزفْ عليها تنقذْكَ من عنتٍ وضِيقٍ .
سعد أبو الـحَبّ، ابنُ العائلة العريقة، الفنّان، دعاني وبيتر إلي مطعمٍ يابانيّ. قال إن د. محمد مهدي (الراحل) دعاه إلي المطعم ذاته، ليلةَ زفافه هو ( أي سعد ).
فيونا ، الرائعة، الإنجليزية، من إيسلنجتون اللندنية، التي كانت في دار فابر أند فابر (دار نشر إليوت) والتي تتولّي الآن دار نشر غراي وولف بولاية منيسوتا، جاءت إلي قراءتي في بيت الشعر النيويوركي. قالت إنها مستعدة لنشر مجموعة شعرية جديدة لي باللغة الإنجليزية. سنان أنطون وبيتر موني قالا لها إنهما سيقومان بترجمة قصائد لي كُتِبَتْ مؤخراً. القصائد لن يقل عددها عن الخمسين .
لكأنّ الصفقة تمّت حقاً . فيونا سعيدة !

***

وماذا بعدُ ؟
أضعتُ حقيبتي في مطار جون فيتزجرالد كنيدي بنيويورك .
وعدتُ فارغ اليدين .
(ليس في الحقيبة من نفيسٍ سوي CD أهدانيه صلاح عوّاد، فيه برنامج وندوز أوفيس 2003).
بعد خمسة عشر يوماً، جاءني نداءٌ من تكساس: أنا ديانا، من الخطوط الجوية الأميركية ... أأنت سعدي يوسف الشاعر ؟
- نعم .
- أهذا هو عنوانك ؟
- نعم .
- اليوم أرسل حقيبتك ... اذهبْ الإثنين إلي مطار هيثرو تجدها هناك .

***

يبدو أن صلاح عوّاد يمتلك القدرة علي التنبّـؤ ...
إذ أنني سأعود إلي نيويورك في شــهر آب، مع صديقتي هذه المرّة !

لندن 28.05.2007

القدس العربي- 30/05/2007