نجم والي
(العراق/لشبونة)

(إلى ألف التي تعشق بيسوا)

 بيسوا أمام مقهى Brasileira البرازيلية، في الـ"Chiado"، الحي القديم من مدينة لشبونة، يبرز تمثال الشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا، مؤسس الحداثة الأدبية البرتغالية، وملك الميلانكوليا، جالساً عند شرفة المقهى، وكأنه زبون بين رواد المقهى. إلى جانبه، عند طاولة أخرى جلست الآن امرأة جميلة في أواسط الثلاثين من عمرها، نظرتها ضائعة تكتم حزناً عميقاً. المرأة، تبدو أنها أجنبية، غير برتغالية، من الصعب معرفة هوية البلاد التي جاءت منها، وجهها يوحي بكل الاحتمالات، ربما أميركية، أو إنكليزية، بل لماذا لا تكون عراقية أو مصرية، أو لبنانية مثلاً؟ لكنها على أية حال، تبدو مشلولة، بلا حراك، في جلستها تلك إلى جانب التمثال البرونزي للشاعر. أراقبها من أقاصي شرفة المقهى، حيث أجلس وحيداً، بينما أواصل الكتابة، كتابة هذه السطور، وأمامي كأس من الكامباري، تحت شمس الشتاء الجميلة النادرة، إلا في البرتغال، بلاد رحلاتي الشتوية. أي شيء، أي غمّ أوجب هذا الكرب الذي تعبر عنه عينا هذه المرأة؟ أفكر ببيت من الشعر لفيرناندو بيسوا: "و ما أنا إلا حلماً حزيناً".

لشبونة في نهاية ديسمبر/كانون الثاني، وفي أيام أعياد الميلاد بالذات تفوح برائحة دكاكين الحلويات، برائحة محلات بيع القطن، برائحة مياه نهر التاج الرطبة. رطوبتها العسلية تصعد حتى الطرق الوعرة لحي Alfama حيث محلات العِطارة الصغيرة، ومكتبات بيع الكتب الرخيصة، وأكشاك بيع اللحوم والأسماك المملحة، التي تمزج تلك الروائح بروائح أخرى مختلفة. عبر كأس الكمباري اللذيذ، وعبر رائحة القهوة المحمصة، من الممكن، فجأة، أن تخطر على البال ذكرى قديمة، أو أسماء اختفت عادة في زوايا القلب الولهان، فتكتشف حينها في نفسك ذلك الطفل الذي كان يلعب في ميدان صغير، بعيد هو الآن، شبيه بميادين هذه المدينة الساحرة، يلعب في أزقة واسعة وبيوت آيلة للسقوط، تشبه الأزقة والبيوت هذه، بل حتى الناس يشبهون أولئك الناس الذين عرفهم، وأختفوا في الذاكرة في مكان ما، يشتركون مع الناس المارين به هنا، الوجوه ذاتها التي أتعبها الألم والإنتظار.

ربما هي الروائح التي يبعثها محل لبيع التبغ، أو تلك التي تبعثها ورشة لتصليح الدراجات، أو تلك التي تأتي من محل لبيع الفحم، يحملك على تذكر حب نسيته في مكان هو الآخر منسي. ليست هي المرة الأولى، في كل رحلة تكتشف رائحة ما خاصة، تشمها أنت وحدك، بين كل تلك الروائح التي تلون فضاء مدينة ما، هناك رائحة ما تعود إليك فقط، تظل عالقة في أنفك، مع مرور السنوات، نعم رائحة تعود إليك فقط، مفترضاً أنها شكلت روحك، قطعة، قطعة، رغم أنها في أغلب الأحيان حلوة جداً، وفي مرات عديدة أخرى مميتة.

أتخيل: كيف أن هذه المرأة الجالسة، المرأة المشلولة الحركة، جاءت وحيدة إلى لشبونة. وإذا كانت واقعة في حب فيرناندو بيسوا (من يستطيع مقاومة غوايته، من يجرؤ على رفض حبه!؟)، فأنها زارت بالتأكيد أيضاً مقهى Martinho d`Arcada، حيث كان الشاعر العاشق، الذي أتعبته الضغائن والأيام، وأكثر من ذلك أضنى قلبه المريض رفض مواطنيه "البرتغاليين" له ولما يكتبه، يشرب أشد الكحول قوة، يسكر حتى الهزال لكي يبث في نفسه الحماسة (فقط حينها) ليتجاوز يأسه، وليبدأ بكتابة ما يُثقل صدره، أو ليملي ما تبقى عنده من عذاب على ذواته "المنقسمة" الأخرى، أصدقاء الروح: ريكاردو رايس، البيرتو كائيرو، الفارو كامبوس، فيرناندو سواريش، أنتونيو مورا، بيثنته كيديس، الكسندر سياج وغيرهم... لكي ينسى ولو للحظات قليلة وظيفته المملة (مترجماً في مكتب للمراسلات التجارية)، وليحلم بنفسه مثل أمير أزرق يرحل ليلاً عبر طريق مدينة Sintra البحرية، على مقود سيارة شيفروليه، يحصل عند مروره على قبلة طائرة في الهواء من فتاة "أضناها الكرب والوجد" هي الأخرى تحلم به (من قصيدة لبيسوا).

أقول لنفسي: لماذا لا تكون المرأة الجالسة عند فرناندو بيسوا، امرأة قادمة من بلاد يعرفها الله لوحده (من غير المهم من تكون)، قد جالت في الأمس، أو اليوم عبر شوارع وأزقة لشبونة من دون هدف معين، وأحست بين كل روائح الأعشاب والبهارات برائحة تصعد فجأة إلى أنفها، رائحة جسد عار وعرقان، يسكب الحب قطرة قطرة، جسد برز للعيان من عمق البنسيون حيث عاشت منذ زمن قديم حباً كبيراً نهايته دموع الوداع. وهي رائحة بيسوا التي تغلف هواء المدينة، مدينة لشبونة، جعلتها تفيق إلى نفسها مرة أخرى، وكمن شرب شراباً حلواً قوياً، مثل ذلك الذي كان يشربه بيسوا، تمنحها الآلهة فقط لصفوة مختارة قليلة، استطاعت المرأة، ساعدتها رائحة بيسوا التي تغلف فضاء مدينة المدينة، النجاح بالعودة للحياة من دون أن تنتهي بتحطيم نفسها عند شرفة المقهى البرازيلية، لكي تظل هنا بعد تحولها إلى تمثال، سوية معه، مع فيرناندو بيسوا، عيناها مليئتان بالميلانكوليا. "الواقع ليس بحاجة لي". في شكلها الذي اتخذ شكل التمثال البرونزي للشاعر ذاته تبدو المرأة جالسة وهي تفكر في كلمات بيسوا تلك.

المستقبل - الاحد 24 شباط 2013