روائح شتى تتقاذفني في برلين، تنفذ في المسام وتستوزر نفسها على الشمم، في الشوارع أبحر، يحملني تياران قديم وحديث، أو سياقان شرقي وغربي، سياقان هما ولكنهما مندغمان في روح المدينة، أبحر باحثاً عن بقايا جدار... الجدار صار ذكرى، أحجاره الملونة صارت تباع، قطعه وأثلامه أمست تحمل في الحقائب كهدايا و"سوفنير" من عهد مضى. هل مضى العهد حقاً؟ ثمة من يوقفني في برلين الشرقية ليعطيني منشوراً شيوعياً، ما زلت أحب المنشورات اليسارية، فهي أيضاً تذكرني بجداري الشخصي، الذي لم يزل قائماً في الضلوع. كثيرون مثلي يعشقون اليسار على رغم اندحار المسيرة، على رغم غياب الشعار، فهو يقف ضد مد التشدد والتكفير والتخلف، فاليسار يعني الحداثة في السلوك واللباس ومنطق التفكير ومنهجاً متنوراً لرؤيتنا الثقافية.
حين نتخطى، صاحبي وأنا الشاب الماركسي الذي يهب المناشير للعابرين، يلوح من بعيد كارل ماركس بلحيته الحجرية، التي أثقلت صدره. وجهه الحجري المدور يشع في الرخام، ما زال واقفاً وقفة المستنير الأبدي في زيه الحجري فوق نصب في إحدى ساحات برلين الشرقية. لم يزح تمثاله مثل لينين ومن حذا حذوه. لم يدس وتسحقه الحادلات، بل بقي واقفاً وقفة الفيلسوف المفكر والمتأمل في أحوال الدنيا والمتغيرات الجديدة التي تطرأ على الأزمنة المعاصرة، المتهورون وحدهم من طاولهم الاندثار، إذ ذهب المطبقون وبقي المؤسسون للفكرة، فكرة شغلت بطروحاتها الراديكالية بعض فئات المجتمع في القرن العشرين، فكرة إمتطاها مفكرون وأدباء وعمال، ولكنها مورست خارج المساق والسبيل المرسوم، وخارج المنهاج المستنير، لذلك أخفقت، ولكن المسألة ببساطة تتلخص في كيفية تحول المتنور الى معتم والمفتوح الى مغلق والمتعدد الى واحد، والمشاع والحرية الى سجن شمولي، تسنده التابوات، لذلك بقي ماركس تسنده فكرته الرائية ذات الرائحة الإنسانية. أمر به أحيّيه، مثلما أحيّيه هنا في لندن، فمكانته مرموقة ومحفوظة، وتمثاله بنظرته الوسيعة يخترق السديم والأبدية.
ثمة حنين للزمان القديم يقودني الى أسواق ومقاصف وشوارع "الكسندر بلازا" المركز التجاري والسياحي لبرلين، أتفقد المقاهي القديمة، بعضها لم يزل ماثلاً، وبعضها الآخر غيّبته الظروف الجديدة، أميل الى مقاصف الأمس، بعضها صار يصعب دخوله، والبعض الآخر ظل محتفظاً بظلاله وروائحه ومباذله الأولية. أميل الى واحد من هذه المقاصف فلي ذكرى ما فيه، أجد "الكنايبة" وهي ألحان بالألمانية هي نفسها لم تتغير، أسرّ لذلك، حين نتخذ ركناً أنيساً حتى يحاكينا الصباح بالوفود الغفيرة من عصافيره. متحف برلين يمتد على نهر شبريه الرمادي، هنا يرقد تاريخي بكل ثقله الحضاري في متحف برلين، بوابة المتحف والمدخل برواقه الواسع هو بهو جمالي كامل منقول بكليته من بلادي، فـ "شارع الموكب" المعروف في بابل كله يقوم في هذا المتحف، فهو دعامته وأساسه وبرهانه الأول المتكئ على تراث وادي الرافدين. وهنا أيضا في المتحف البرليني نجد سرجون الاكدي بكامل قيافته الأسطورية يملأ المتحف بحضوره الراهن والتاريخي. أشياء كثيرة لا تحصى يحتويها متحف برلين من كنوز العراق الذي دمر متحفه ونهب، في متحف برلين نرى صحوناً صلصالية، وجراراً فخارية، وأختاما اسطوانية وقلائد ذهبية.
وقريباً من المتحف وعلى نهر شيريه ذاته يمتد شارع أليف، ذو شجيرات على ضفة النهر، النهر ملون بالزوارق والأشرعة، ومقاهي النهر تضفي بهجة أخرى للشارع... هذا الشارع يذكر بشارع أبي نواس في بغداد، شارع المقاهي والحانات والمطاعم، وكذلك يلجأ اليه بعض المثقفين العراقيين احتماء بالذكرى واستعادة ليالي أنس الستينات في ذلك الشارع الشهير، حيث بهجة الستينات لم تزل زاداً يغتوي منه الستينيون، فشعراء مثل سركون بولص ومؤيد الراوي وفاضل العزاوي وأصدقاء لهم من فنانين وأدباء يستطيعون الجلوس في المقاهي وخصوصاً في مقهى "أم أوفر" المطلة على نهر شبريه، حيث ظلال الظهيرة ميادة فوق الكراسي الخشبية وأجمات الأس تتدلى لتمس السمات مرفودة بالنبائذ والقوارير الشفيفة وفناجين القهوة المدعومة بـ "الكوخن" شرائح الحلوى الألمانية.
في هذا المقهى تتطاير الأحاديث وتحلّق في كل الاتجاهات مراودة أشخاصاً غير حاضرين ومدناً بعيدة وثقافة متنوعة يتداخل فيها الألماني والعربي والفرنسي والأميركي والروسي وما شابه من ثقافة تداولها المثقفون العراقيون الرحّل في أصقاع العالم.
ليس بعيداً من هذا المقهى أقيمت لي أخيرا أمسية ثقافية - شعرية وحديث عن تجربتي التي تخللتها مناف عديدة.
كان المكان الذي أقيمت فيه الأمسية رومنطيقكياً وديعاً، مترعاً بالألفة. في الحال تذكرت كيف انطلقت أول شرارات الرومانسية من ألمانيا. الأمسية دعا لها نادي الرافدين الثقافي العراقي، وهو ناد لديه نشاط واسع في المحيطين العربي والألماني.
برلين الغربية مدينة ليل، مقاصفها تظل ساهرة حتى الصباح وفيها يختلط العمل بالكسل، المتاجر بالأرصفة، الأبيض بالأسود، الليل بالصباح، التركي بالألماني، تجوس فيها الخطى فتتناهى لسمعك خطى الشبيبة الهتلرية النازية بقمصانهم السود وصلبانهم المعقوفة، وتتساءل أحقاً احتشدت على هذه الأرصفة الملايين تصفق للنازية وللعرق الآري وللقومية الجرمانية؟
أفيق على حفيف امرأة حافية من "البانكيز" قصّت شعرها على شكل زورق ولونته بالأزرق والأحمر، تحفّت وبانت محاسنها في ظهيرة حزيرانية، أخرجت الألمان من جحور الشتاء الطويل. أتمشى في "الكودام" في مركز برلين الغربية وأمامي كنيسة تاريخية وندوب الماضي تركت أثراً في حجارتها العتيقة، أثرا من رصاص الحلفاء والغارات الجوية التي ضربت قمتها فهشمت ذروتها الجميلة، حين اختفى بعض قادة الرايخ في علاها متخذين من براءتها الدينية ملاذاً عسكرياً لهم، أثناء معارك الحرب العالمية الثانية.
النازيون والقتلة والمجرمون دائماً يلجأون في لحظات الانهيار الى الأماكن المقدسة، جاعلين منها دريئة لحياتهم. هذه الكنيسة تعد الآن معلماً أثرياً، يمكن الزائر الصعود الى قمتها، وبجانبها أقيمت كاتدرائية حديثة من المعدن المائل الى السواد، تضمّ أرشيفاً وصوراً ووثائق تتعلق بتلك الفترة المعتمة من تاريخ ألمانيا.
الحياة - 03/10/05
إقرأ أيضاً:-