|
اللوحة للفنان حسن جوني |
المكان: بيروت، شارع الحمراء. الزمان: أواخر التسعينيات، الحدث: قراءة الشعر. من منّا لا يتذكر حانة الـ «شي اندريه» التي كانت تتوسط الشارع الطويل، المليء آنذاك بالمقاهي والحانات (قبل ان تتحول الى محال لبيع الألبسة). كنّا ثلة من الصبايا والشباب الباحثين عن مكان يستوعبنا ويحضننا ويثني على شعر كتبناه على مسودات، قصائد تشبهنا وتجسّد واقعنا وأحلامنا آنذاك. كنّا نفتش عمن يسمعنا ويعترف بأننا بتنا نستحق الإنضمام الى شعراء المدينة. نحن القادمون من قرى وبلدات جنوبية حتى فلاحيها يتّقنون الشعر العمودي والموزون، لم نتلذذ بالإستماع الى نصوص الشعر الحديث والمنثور فحسب بل بدأنا نكتبه أيضا (بعدما مررنا بشعر التفعيلة) وهناك في هذه الزاوية المضيئة بنور خافت، والتي تتسع لعشرين شخصا على الأكثر يصطفّون على البار الخشبي في مواجهة المرآة الكبيرة، او على الكراسي المرصوفة قرب الزجاج المطلّ على باحة خارجية، اجتمعنا بتلقائية وبلا موعد او تصميم، جلسنا متلاصقين متلهفين ومصغين لقصائد شعراء معروفين وآخرين جدد وقارئين لقصائدنا التي طالما حلمت بجمهور لا مسافة بينها وبينه سوى إصغاء أليف لا زيف فيه. جدران الـ «شي اندريه» القليلة التي تعلقت على ظهرها صور لرواد مشهورين من ممثلين ومغنين لبنانيين وعالميين ورسامين ومثقفين مع تواقيع تؤكد مرورهم تعلّقت على مسامعها أيضا قصائد لشباب كانوا يكتبون الحياة ويحملونها على أكفّهم ويركضون بها دون ان تقع.
يتذكر الشاعر «يوسف بزي»، ذاك الزمن بل لا ينساه ابدا (لهجته الشغوفة في الحديث عنه تشي بحنينه) حين أراد وصديقه الشاعر «يحي جابر» ان يستعيدا دورهما الثقافي والإجتماعي بعد إنقطاعهما عن المدينة بسبب السفر. هذه الغربة اسست لنوع من قطيعة مع صيرورة المدينة وسيلانها وتطورها، فبحثا عن وسيلة تعيد علاقتهما بالمدينة على الصعيد السياسي والإجتماعي والثقافي والصحافي ايضا. عملا على اعادة الوصل بينهما وبين المشهدية بصورها الغزيرة حين بدأت اصوات شابّه جديدة بتداول نصوصها ونشرها. كانت الـ «شي اندريه» المكان الذي ساعدتهم ضآلته وصغر مساحته على مصادرته كل ليلة جمعة، وأيضا هو المكان الذي ايقظ مشاعر الحنين لمرحلة الشباب الأولى عند الشاعرْين. «يوسف بزي» احتاج الى مناخ يعيد لديه الطاقة لكتابة الشعر. والاستماع الى شعر الآخرين، برأيه، هو تعلم آخر للكتابة «فالكتابة عدوى، وتداول الشعر غذاء». اما اختيار «الحانة» فكان من جهة لتحطيم وثن الأمسية الشعرية بشكلها التقليدي التي لا تبعث الّا على الضجر بمنبرها والتكاذب الإجتماعي الذي يتبادله المجتمعون فيها والتراتبية التي يصنف على أساسها الشاعر العظيم والموّقر وكل هذا مقابل الصمت والتحفظ الجماهيري والتصفيق المريب. ومن جهة أخرى لمزج ثقافة الكحول واللهو والليل مع الثقافة الكلامية المتجسدة بالشعر والنصوص. مع الوقت كُرّست سهرة الجمعة لكل من يود قراءة اشعاره دون شرط، امتلأت الحانة وباحتها الخارجية بمحبي الشعر وبقارئيه وبكاتبيه وبسواح اجانب. كتبت الصحف عن نشاط الحانة فانتقلت الفكرة الى بعض الدول العربية كسوريا ومصر وتونس واليمن. مجموعات شعرية عديدة لشعراء شباب ولدت بين الحشد والبوح والضحكات والبكاء أحيانا. نشر غسان جواد «تمرين على الاختفاء»، وناظم السيد «برتقالة مقشرة من الداخل» واحتفل بتوقيعها في باحة الحانة، ومحمد بركات «الأرض في مكانها»، ومازن معروف «كاميرا لا تلتقط عصافير»، وزكي بيضون «جندي عائد من حرب البكالوريا»، ورامي الأمين «أنا شاعر كبير»، ومحمد الأمين «خطوط بيضاء نحو المنزل»، وفيديل سبيتي «تفاحة نيوتن». حين ضاقت الحانة بروادها انتقلت القراءات الشعرية الى أماكن اوسع. منها الـ «ريغوستو» و «التايم آوت» و «التورينو» في شارع «الجميزة». هناك في هذا الشارع المعروف بثقافته «الفرنكوفونية» وبسهراته البعيدة كل البعد عن الشعر، قرر الشاعر والرسام «سمعان خوام» برفقة صاحب دار مختارات «جورج فغالي» احداث فرق. فبدأت القصائد تصدح من حانة «ليلى» التي تميزت بمكتبة غنية تهب الكتب لمن يريد. أحيا المطران «جورج خضر» افتتاح الأمسيات بقصائد كتبها في شبابه. «كما افتُتحت الحانة بفرح كذلك أٌغلقت بفرح» يقول سمعان.
«اطرق بقوة، الحياة صمّاء» بهذا الشعار كان يستقبلنا الباب الخشبي المنحوت بزخرفة رقيقة لـ «جدل بيزنطي». هناك طرأت بعض التغييرات على مشهد الأمسية، أدخل الميكروفون ونظّمت القراءات الشعرية بحيث حدّد اسم الشاعر القارئ وصار يسمى «ضيفا»، وكتب نص لتقديم الضيف وحدد من سيقوم بتقديمه، ونشر خبر الأمسية في الجرائد، ودعيت أسماء معروفة وكُرّم شعراء مخضرمون منهم عشرة شعراء قدمت لهم دروع برعاية وزارة الثقافة. اتخذت الأماسي أشكالا أكثر جدية وتنظيما، أفقدتها عفويتها دون ان تخلع عنها الغاية المرتجاة منها. لم يُعرف «جدل بيزنطي» الذي كان يملكه آنذاك الرسام «محمد شمس الدين» والشاعر «شبيب الأمين» (ولاحقا بقي شبيب لوحده) الّا من خلال الأمسيات التي ذاع صيتها، ولم تمتلئ طلعة «كاراكاس» ليلة الجمعة بالسيارات الاّ بسبب الشعر ومحبيه. «شبيب» وبعض الأصدقاء الشعراء والصحافيين مثل «ناظم السيد» و «غسان جواد» و «اسكندر حبش» كرّسوا جزءا من وقتهم وعلاقاتهم مع الوسط الثقافي لإنجاح هذه الأمسيات، شاركوا في اختيار الضيوف الشعراء والتواصل معهم وتقديمهم والإعلان عن الحدث في الجرائد. استضاف المقهى او الحانة (شكله يتراوح بينهما) شعراء لبنانيين وعرباً وألماناً وفرنسيين، أكثرهم ترك على جريدة الحائط المعلقة على يسار المدخل قصائد او أفكارا او رسائل للذكرى.
يتذكر الشاعر «عماد بدران» الفترة التي بدأ فيها بإقامة نشاطات شعرية في امسيات بيروت الثقافية عام 2010 برفقة صديقه الشاعر كامل صالح. كانت الفكرة ان يكون هناك منبر للجميع بمن فيهم الشعراء المبتدئون. وقبل الوصول الى «زوايا» مرّوا عبر «شبابيك» ثم «درابزين». يقول عماد: «المقاهي اقفلت الواحد بعد الآخر بسبب الوضع الإقتصادي المتردّي الى ان استقرينا في مقهى «زوايا» حيث نقيم امسية مرة كل اول خميس من كل شهر». يعيش الشاعر «عماد بدران» هذه التجربة برفقة أصدقائه الشعراء بشغف بالرغم من ان لا دعم او مساعدة يتلقونها من اي جهة رسمية او إعلامية. «استمرينا بدعم الأصدقاء ومحبي الثقافة والشعر في بيروت». اما الشاعرة «انعام فقيه» التي جاءت مشاركتها في تنظيم هذه الأمسيات كردّ على حالة الاحباط التي اصابتها بسبب اللاتفاؤل بمصير المشهد الثقافي والشعري في لبنان ومحاولة لفك حالة عزلة دخلت فيها بعد ان فرغ المكان من الأصدقاء بالسفر وانصرافهم الى مشاغلهم، ترى بان الأمسيات الشعرية في «زوايا» كانت تخلق لها ولرفاقها جوا من المتعة وساعد في تشكيل الحالة ازدهار الإقبال على مواقع التواصل الإجتماعي. ولكن بعد ثلاث سنوات من المشاركة فيها والمبادرة اليها تقول: «اليوم أجدني على مسافة من كل ما يجري في شارع الحمراء من أنشطة ثقافية لاسيما وقد بدأت هذه الأمسيات يسيطر عليها روتين التنظيم والأفكار المفلسة في المشهد الثقافي العام ووقوعه في صف ثان او عاشر من اهتمام مراكز القرار والاستثمار فيه». كان العمل التنظيمي بالنسبة للشاعرة يحتاج الى الكثير من الوقت والى ذهنية عمل الفريق والتفاني لإجتياز قبل كل شيء تداعيات الأزمات السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
شهرياد
هل من الممكن محاكمة شعر الحانة او المقهى بالمعايير المهنية التي تلتزمها الصفحات الثقافية للنشر؟ يجيب الشاعر «محمد ناصر الدين» بأنه من الصعب اجراء هذه المحاكمة لأن المقهى هو فضاء مفتوح يمتزج فيه سماع الشعر بالترفيه والرسم والموسيقى. «محمد» الذي لم يكن يحبّذ فكرة الشعر في المقهى، اكتشف عالما جديدا بعد خوضه لهذه التجربة كقارئ وكمنظّم في منتدى «شهرياد»، الفكرة في مخيلته ذكرتّه بتلك الأسواق في المدن حيث يحضر اهل القرى ببضاعتهم وينصهرون في فانتازيا من الصوت والألوان. أمسيات «شهرياد» تجمع في سهرة الثلثاء شاعرة وشاعرا، ورساما وموسيقيا. وصلت اليوم الى امسيتها السبعين، وعاشت كل اشكال الشعر من كلاسيكي وتفعيلة، الى قصيدة النثر. يرى «ناصر الدين» ان ميزة «شهرياد» تكمن بانها مشروع يدار بأقل قدر من الامكانيات، ويتم تنظيمه ببساطة مطلقة، بالتواصل مع اي شاعر وشاعرة يتوفر لديهما كتاب مطبوع. هل كان اختيار الشعراء صائبا في كل مرة؟ يعتقد «محمد» ان التجربة اتاحت اكتشاف اصوات جديدة وشابة خصوصا، رغم ضعف الاختيار في بعض الاحيان. «تثبّت عندي شخصيا ان الشعر لم ينته، وانه تواصل بين الاجيال، وان القماشة الثقافية التي تنسج عليها القصيدة الشابة ليست زهيدة وتافهة كما يٌشاع». اما الشاعر «رامي كنعان» أحد مؤسسي «شهرياد» فله رأي آخر، يرى بأن الفكرة حادت في بعض المواقف عن الهدف من لياليها، كان المشروع تطوّعيًّا بالمطلق، وسعى لإشراك الشباب من الشعراء في التكتّل حوله». ولكن هل نجح في ذلك؟. يرى الشاعر في آن أن احد أهمّ اسباب تردّي مستوى ما يقدّم إصرار البعض على أن يكون الضيف صاحب كتاب مطبوع. وأن تكون الاماسي لاثنين شاعر وشاعرة. هل نجحت الأمسيات في ان تقدم معروفا للشعر؟ يظنّ «رامي» أنّه من المبكر التحدث عن هذا الموضوع ولكنه يصرّ على انه وبالرغم من أن هذه الأمسيات استطاعت ترسيخ اسم لها في الوسط الثقافي، إنّما كان ينبغي تلقّف هذه اللحظة للإرتقاء بالمشروع نحو أفق جديد.
خارج بيروت
انتقلت عدوى الشعر والأمسيات الى بعض المقاهي خارج بيروت، الشاعر «سليم علاء الدين» اسس ملتقى «أصل الحكي» الذي يقيم نشاطات دورية في مقهى «ميس الريم» في عرمون (مرتين في الشهر)، وفي مقهى «عتاق» في حاصبيا ومطعم «أفندم» في عكار (مرة في الشهر)، كما يتم التحضير لافتتاح فروع في مناطق أخرى كالنبطية وأميون وكسروان وغيرها. يرى الشاعر «علاء الدين» ان الأمسيات الشعرية لم تنتقل من المسارح والمراكز الثقافية الى المقاهي والحانات، فالحالتان موجودتان أصلا، ولا تزالان مستمرتين. هل قراءة الشعر في الحانات قلّلت عدد المريدين او بالعكس؟. يجيب سليم: «هذه الليالي تنزل الشعر ليحيط بالناس وتقرّبه منهم فنجد جمهورا مختلفا خاصة حين تخرج من بيروت الى المناطق الأخرى حيث تجد تعطشا لهذه الحالات الثقافية العامة، أضف الى ذلك الشعراء والأصدقاء الذين يتابعون هذه الأمسيات مهما كانت المسافة التي تبعدهم عنها». الشاعر «زياد عقيقي» يحتفل بالشعر أيضا كل أول أربعاء من كل شهر في مطعم «وادي السمر» في منطقة «برمانا». أمسيات «قناديل سهرانة» تستضيف شاعرين الأوّل من القناديل (اي من متتبعي صفحة قناديل سهرانة على الفايسبوك) والثاني من خارجها. يعّلل «عقيقي» انتقال الشعر من المسارح إلى الحانات والمطاعم الى سبب ماديّ كون المطعم يقدّم المكان والتجهيزات مجّاناً لقاء سعر المشروبات والمأكولات التي يطلبها الحاضرون وهم منعوا أي طلب أثناء إلقاء الشعر وسمحوا به بعد الأمسية. يعترف الشاعر بأن الفكرة انتقلت إليهم من مقاهي «الحمراء» الأدبيّة، وفي كل الحالات يصنّفها بالجيّدة برغم اختلاط الأمور بين الأكل والشرب واللهو والشعر.
علينا الا ننسى بأن هناك الكثير من الأمكنة القديمة التي حضنت سابقا الشعر وسكّانه واخرى جديدة ما زالت، لم تذكر هنا في هذا التحقيق، وذلك ليس الا بسبب ضيق المساحة المتاحة للكتابة عن الجميع، لن ننسى حانة الـ «ريغوستو» و «البارومتر» و «الدينمو» والـ «الكوردس»، و «باردو»، ومقهى «ة» ومطعم «ابو حسن» و «حانة ابو إيلي» وغيرهم. كل الأماكن تموت الزواريب والحانات والمقاهي والأرصفة الّا تلك التي تسكن في بيروت فهي تموت لتحيا من جديد في مكان آخر وبشكل آخر. ربما تقتل نفسها لئلا تفسدها كثرة عشاقها، وربما لأن الشعر الذي يلتصق في هوائها يظل يلامس خلايا الأشياء الصغيرة. يظل السؤال هنا، هل عفنا المسارح والمراكز والقاعات والمنابر كما عاف «ابو نواس» الأطلال التي وقف عليها الشعراء العرب قبله كثيرًا في الحقيقة وفي المجاز، فمسكنا كفّه وسرنا سويا الى الحانات؟ لقد سكنتَ في المساجد كما في الحانات وملأت فراغات المدينة بجموحك وصوّرت لنا الزمن وهماً كي لا يخيفنا واقنعتنا اننا لن نموت ماذا تريد أكثر ايها الغاوي، يا شعر ؟