اني جالسة في احدى لوحات فان غوغ. هذا الكلام يخطر في ذهني كلما استيقظت صباحا على زقزقة العصافير وعلى خرير المياه في البركة الصغيرة والمستديرة التي في حديقة المعهد حيث اقيم منذ شهر. انها الحديقة التي خلّدها فان غوغ في احدى لوحاته المئتين التي رسمها خلال اقامته في بلدة (او مدينة) آرل . اني نائمة تحت السقف حيث نام فان غوغ، وكان هذا المعهد سابقا المصح حيث امضى الرسام فينسان بعضا من الوقت. كان اسم المصح اوتيل ديو. لا يزال اسمه محفورا على أحد المداخل. المبنى يعود تاريخه الى القرن الثامن عشر.
كلما استيقظ افتح عينيّ على السقف الخشب، تلك عواميد الخشب العتيقة التي يزيد عمرها على المئتين سنة . ذلك السقف المهيب بخشبه العتيق البني اللون الذي رأى الأجيال تتعاقب والأمراض والويلات والدم النازف من أذن فينسان المقطوعة، كما رأى ذلك السقف ايضا الصيف والشمس والأزهار والألوان وأخضر الحور وكل انواع الشجر.
كلما اطل من شباك غرفتي، اطلّ على شمس فان غوغ وحديقته وأزهاره.
اني جالسة في لوحات فان غوغ، فكل زاوية من زوايا البلدة اصبحت قطعة من الأبدية، اضحت لوحة زيتية من جهة، ولوحة حية نلمسها في كل لحظة من جهة اخرى. فأي نقطة في آرل لم يخلّدها هذا الفنان الهائل؟!
فإذا جلست في احد مقاهي تلك الساحة الرئيسية، اكون قد جلست في لوحته «ساحة الفوروم» التي كما كل ما رأته عينه ولمسته ريشته ظلّ على ما هو منذ تلك اللحظة الهائلة الرؤيا، الشغوفة والمنيرة التي رأى فيها ورسم ولوّن واندفع بحدة لا تفوقها حدة. وإن جلست على مقعد الحديقة العامة، اراني في قلب لوحته المستوحاة من جوّ الحديقة، وإن مشيت نحو الحقول الخضراء، اقع في نشوة شمس فان غوغ وحقوله الذهبية، وامرّ بالجسر القديم الخشبي الذي ايضاَ دخل جنات الأزل، لأدخل انا ابواب الحزن والكآبة التي يثيرها فيّ وزن الوقت، كل هذه المساحة الملوّنة والمتراكمة وراءنا. مساحة الأشياء والبشر اراها في تعابير واشكال فان غوغ كما في طيات حجر الكنائس القروسطية الكثيرة هنا، كما حجر الآثار الرومانية التي يتجاوز عمرها الالفي سنة.
امشي بين عصرين في آرل، بين القديم الروماني وبين القروسطي، والكل في قلب طبيعة خلابة، طبيعة المياه الكثيرة والخضرة الكثيرة . اتنقل بين حيطان العصور المتعاقبة، السور العالية، حجارتها سوداء وتآكلها الزمن وحيطان متشققة لبيوت ايضا قديمة يتوّجها القرميد، اتنقل بين شارع ضيّق وآخر اكثر ضيقاَ، او ازور قرية قروسطية اخرى بنيت على صخرة. قرية صغيرة بحجم الكف! قد لا تسع لأكثر من خمسين بيتا بحجم بيت ـ بيوت والمتلاصقة ببعضها البعض، وحيث عرض الشارع لا يزيد على المتر. انها قرية لي بو، على سفح الألب .
الخضرة
وبين خضرة آرل وخضرة ما خارجها جنوبا، فرق في اللون والكثافة. تقع آرل في قلب الكامارغ حيث تكثر المياه والسهول، بينما إذا اتجهنا اكثر جنوبا نكون قد انتقلنا نحو طبيعة البحر المتوسط حيث نوعية الاخضر تختلف، بمعنى ان التراب يكون جافاَ، وصخرياَ، وبالتالي اعشابه تتبدل من طويلة ملساء الى متعرّجة شوكية، وتكون الأشجار تلقائيا صنوبرية.
هكذا رأيتني اصوّر طاحونة الفونس دوديه، ولم اصدّق اني كنت سأرى طاحونة روايته التي قرأناها صغاراَ «رسائل طاحونتي»! لم اعرف انها لا تزال موجودة. وجلست على صخرة قرب الطاحونة، وفكرت بالوقت كما بالمكان .
الخضرة اكثر ضآلة هنا إذ يتخللها الصخر والتراب الجاف. شعرت باني في جبال لبنان لتشابه التربة والمناخ، مع الفارق ان في بلادنا يقطعون الشجر وكل بيت قديم يهدمونه لأن اللبناني ينزعج منهما.
في المعهد حيث اقيم، سألتني احدى المسؤولات ان كنت اعرف عباس بيضون، وأعارتني كتابين صدرا له لدى اكت سود، وهذه الدار جارتنا يفصلنا عنها شارعان!
صدفة جميلة ان نتكلم عن كتب عباس بيضون بالفرنسية، هنا، في مكتبة المعهد، وهي صالة طويلة، ذات السقف الخشبي العالي جدا وذات الشبابيك المنخفضة والجدران السميكة على طريقة البناء القديم، وربما كانت هذه الصالة تؤوي المرضى قبل قرنين.
اجلس كل يوم في لوحة مختلفة من لوحات فان غوغ، اني اتمتع بألوان الصيف وصفاء الزرقة وبخضرة تارة ضحلة، اي متوسطية وطوراَ كثيفة اي كامارغية او كونتينانتالية.
هذه الخضرة الأخيرة نجدها بشكل خاص في اوروبا الشمالية، من انكلترا الى ايرلندا الى المانيا الى البلدان الإسكاندينافية، الامر الذي رأيته مرارا في تلك الأصقاع، وصولاَ الى الدانمارك.
انما الفرق بين صيف تلك البلدان وصيف البحر المتوسط، فإن الأخير ليس فقط غير متقلب، انما ايضا لا يرى نقطة مطر من ايار الى تشرين، بينما الصيف الشمالي ينتقل من اربعين درجة فوق الصفر الى 15 درجة مع مطر وكل توابعه الشتائية فجأة ومباشرة في اليوم التالي.
لكني اليوم انا جالسة في قلب كل لوحات فان غوغ، في آرل حيث اقام هو بضعة اشهر، فرسم مئات اللوحات وكتب آلاف الرسائل الى شقيقه المقيم في باريس، واصفا في تلك الرسائل اهالي آرل ومعبّرا عن شعوره السلبي احيانا كثيرة ازاءهم، وواصفا له ايضا حياته، وبشكل خاص معبّراَ له عن ابتهاجه بهذه الشمس البهية والرائعة، شمس البحر المتوسط في مقارنة له مع عتمة ورمادية بلده هولندا.
صحيح انه لولا هذه الشمس لمــا لوّن فينسان كل تلك اللوحات الخالدة. خلــدت لأنــه ملأها بكل ما في جوفه من شغــف واحاسيــس فائقـة الحدة والعمق، ولأنه اشبعها بكل ما اوتي به من بصيرة ورؤيا، وملأها بكل ما تفجّر في داخله نورا وضوءا.
شمس آرل
قبل ان آتي الى آرل، ولم اكن اعرفها قبل اليوم، حلمت ان اتمكن يوما من ان ارى هذه الشمس التي اضحت اسطورة ، بفضل اعمال فان غوغ، فألمس بيدي وبعيني معنى هذا السحر الذي اخذ عقل فينسان. لكني نظرت اليها، وفهمت انها الشمس التي يشتهيها كل اوروبي شمالي قابع في عتمة الغيوم وحالم بنور الميدي، اي الجنوب، كما يقال هنا . انها اذاً تلك الشمس المقارنة بتلك الغيوم، ليس الاّ !
نظرت اليها إذاً، وفهمت انها ليست أهم من شمسنا في قرانا الجبلية، بل هي اقل منها قليلاَ (إذ اقلّ صفاء) او لنقل انها تشبهها. هي ذاتها تشعّ في حقول القمح عندنا والتي على بيادرنا تبرق ذهبا خلاّبا، كذلك على ودياننا وبيوت القرميد وقمم صنوبرنا وسفوح مرتفعاتنا. هذه هي الصور التي خزنتها في رأسي منذ الصغر . كنت ولا ازال اخزنها كل صيف، كلما تأملت بما حولي من طبيعة في قريتنا.
لا، هذا ليس شوفينية وانا لم احبّذ يوماَ التغني بالبلد ضد بلدان الأجانب، لكن كل ما اردت قوله اني رأيت الشمس هنا وفهمت ان الاسطورة لم تكن الشمس كما ظن فان غوغ؛ الأسطورة هي في ذاته. هي هذا الفنان الخارق. كانت شمسنا (في الماضي وليس الآن بعدما شوّهها الباطون) ربما ايضا قادرة على إيحاء فان غوغ، لكنه لم يأت الى قرانا، او لم يولد فيها.
شمس آرل لم تكن سوى مثل شمسنا نحن، الا انها شمس هنا رأتها عين هذا الفنان الهائل ويده لوّنتها. لكن لماذا لم ير شمسنا رسامونا في القرن الماضي، لماذا لم يروا لعبة النور والأشعة في انطباعيتها كما فعل فينسان؟
السفير
25- 6- 2007
إقرأ أيضاً: