باريس هي قاموس الأسماء، والأسماء متاحف، والمتاحف ذاكرة حية.. وتلك الذاكرة مواكب مهيبة على جنبات العمران. نصل الى المطار، اسمه "شارل ديغول"، سنديانة فرنسا الحديثة. ثم نصل الى الفندق، اسمه "موليير" في شارع مزين بنصب تاريخي عبارة عن نافورة مياه صخرية يعلوها تمثال موليير نفسه. ثم نصل في الليلة نفسها الى مطعم للعشاء في شارع اسمه "جان جاك روسو"، رجل عصر الأنوار الموسوعي. وعلى مسافة الطريق يمتد الصرح المهيب لمسرح "الكوميدي فرانسيز". وفي المقابل حديقة التويلري البديعة بأوراق الخريف، حيث العشب والأشجار والأحجار والصروح التاريخية المحيطة بها، كلها تعلن تاريخاً من تدبير الطبيعة وتطويع الفيزياء وترتيب الجماد. كلها تبرز ذاك المسعى القديم، والمنتصر، للتنظيم والسيطرة من أجل جمال أكثر وفوضى أقل.
على مبعدة أمتار من "تويلري" يبدأ متحف اللوفر الذي يُثير الرعشة تحت هذه الإضاءة الفاتنة لأعمدته الجبارة ومبانيه التي لا تنتهي والعلَم الهائل الأزرق والأبيض والأحمر. إنجاز إمبراطوري يجسّد قوة المعرفة وجبروت السلطة. هنا أيضاً المسعى المستحيل للاستحواذ على الزمن وأرشفة المنجز البشري. كتلة هائلة من الأحجار المشوبة بالحمرة البرتقالية، سميكة وثقيلة تعتورها تلك الخفة المستجدة في الباحة الشاسعة حيث الهرم الزجاجي الهش، علامة الرقة الوحيدة في هذه الصلادة المزخرفة.
في المقابل ساحة Palais royal المحاطة بالمتاجر والفنادق والمقاهي والمكتبات والفسحات المشجرة والمبلطة. ويظن المرء أنها مركز المدينة قبل أن يكتشف أن لكل ناحية من باريس ساحتها المجيدة، ساحتها "العامة"، حيث عامة الناس تتشارك فضاءً متقناً ومهندساً من أجل فكرة "المشاركة" والاتصال وتسرية الوقت والتنزه والتسوق والتسلية والتمتع بالهواء الطلق وبروح الاحتفال الاجتماعي وبطقوس أوقات الفراغ للمراهقين وللمتقاعدين وللعائلات وللسياح وللمرتاحين من عناء الوظيفة، وللمواعيد واللقاءات.. إلخ.
إنها ليلتنا الأولى في باريس، لا نشرات أخبار عربية ـ لبنانية ولا برامج "توك شو" تسمّ الأبدان. فقط انفتاح مفاجئ للسماء والهواء البارد المنعش وكأس معتّق وحفيف أشجار. نوم عميق في هدوء وسكينة، لا يخلوان من شعور بالذنب إذ نتذوقهما مفتكرين ذاك الاضطراب الشيطاني الذي يقضّ مضاجع مواطني بلداننا ويحيل أحلامهم الى أوجاع في المعدة.
صباح باكر، رمادي من غير وحشة، طالما أن النافذة الواسعة تنفتح على جنينة منمنمة وعلى رائحة خبز طازج وحلويات وقهوة. ثم غبطة غير مألوفة تغمرني وأنا أبادل مناوب "الاستقبال" عند باب الفندق كلمة "بونجور" والتي كان يقولها لا كواجب بل بذاك الدافع الحقيقي، بحافز تهذيب أصيل وإيمان في آن واحد.
أكتشف مصدر تلك الرائحة التي أيقظتني. مخبز صغير يفيض بالعبقرية الفرنسية في تحضير الخبز والحلويات والشوكولاته. هنا أيضاً أنتبه لذاك التهذيب والإيمان الفعلي بالود الاجتماعي، وبما تسميه الكاتبة ليدي سالفير "فن المحادثة" الفرنسي: "بونجور مسيو"، "ميرسي مسيو" ثم "بونجورنيه مسيو" عند المغادرة. حرص متفان على لياقات الاستقبال والوداع وما بينهما من كلمات "سيل و ليه"، "اردون"، "إكسكوز موا".. إلخ، ويتكرر ذلك بلا ملل ومن غير تبدّل في النبرة اللطيفة والجادة والوقورة. فلا مبالغة ولا ابتذال ولا إهمال.
هذا أول درس في باريس. التهذيب لا يخضع لمزاجك الفردي. لا يمكن نسيانه ساعة تشاء أو استعماله وفق مقادير متفاوتة حسب إرادتك ونزواتك. إنه قانون أو على الأصح، هو ديانة عامة. أما أسوأ تفسير لهذا السلوك فهو ذاك المعمّم بخبث في العالم عن "العجرفة الفرنسية". تلك العجرفة ليست سوى تهذيب محض، لا التكبّر الأجوف ولا التواضع الكاذب، فقط احترام راسخ للذات وللآخر ولأصول التواصل والمخاطبة. إنه على الأرجح "اقتصاد أخلاقي". وأجزم أن الشعور بالدونية إزاء هذا الرقيّ هو السبب في إلصاق تهمة العجرفة بأهل باريس.
ينجم عن ذلك التهذيب "انضباط" صوتي في أرجاء المدينة وزواياها وأماكنها المفتوحة أو المغلقة. لحن خفيض فحسب يسري في المحادثة والتخاطب وتناول الأشياء واستعمال الأدوات. مدينة بلا صخب، ومزدحمة بلا ضوضاء وناشطة بلا ضجيج. هكذا تُصنع الدعة هنا في قلب العجقة.
أذهب الى حديقة التويلري التي تستقبل، على ما يبدو، أعمالاً نحتية جديدة موزعة في أرجائها. والناس منذ تلك الساعة المبكرة يتريّضون ويتنزهون ويتأملون المنحوتات باهتمام وتبصّر. في المقهى العريق المطل على الساحة الملكية وعلى "الكوميدي فرانسيز" (وهو المفضل لدى الرئيس السابق جاك شيراك): البروفسور وتلميذته، مجموعة من السيدات الأنيقات أناقة شخصية بلا تكلّف، شابة تقرأ كتاباً (منذ الصباح؟) رجل يطالع جريدة بانتباه شديد، إمرأة وطفلها يتناولان الفطور بهدوء عاطفي. في الخارج مطر ناعم يكاد لا يُرى، هواء يطيّر أوراق الشجر في مشهد كرنفالي أمام ثلة من تلاميذ المسرح بثياب تنكرية.
ما إن أخرج وأمشي قليلاً حتى أكتشف نهر السين العريض، البطيء، أرى على ضفته الأخرى متحف أورساي. إذاً، خلفي اللوفر والكوميدي فرانسيز وأمامي أورساي، وفي الأفق برج إيل. باريس المكتبات والمقهى والحديقة والفنون والخبز والمتاحف والمعجزات الهندسية كلها منبسطة أمام عيني وفي متناول يدي، وأتذكر "مشاريع" حسن نصرالله وخيمه وأصبعه المتوعد، وطموحات الجنرال المتقاعد، وجماهير "الممانعة" كلها... هذه فكرة أرميها في مياه السين مع الحسرات وأمضي.
أسطورة الوقوف بالصف للدخول الى المتحف حقيقية إذاً. هذه ليست مبالغة سياحية يتم ترويجها، إذ أرى تحت المطر والبرد مئات المنتظمين في طابور طويل عند باب أورساي. أنضمّ الى هذه الحشود التي تود الدخول الى المبنى الضخم للمتحف، الذي يحتضن آلاف اللوحات والمنحوتات والأعمال الفنية لـ"الانطباعيين" و"ما بعد الانطباعية" و"الطبيعيين" و"الرمزيين" و"الفن الجديد" في ستة طوابق شاسعة تطل كلها على باحة داخلية واحدة. ستة طوابق بعشرات الصالات ممتلئة بالناس. لا أذكر أني رأيت أحداً أمام متحفنا الوطني ولا أنا فكرت بزيارته ولا أعرف أصلاً إن كان مفتوحاً أم لا. أشعر بالذنب وبالخجل "الوطني". ربما هذا درس باريسي.
نهار كامل في أورساي مخصص لتذوق الفن. هذا يعتبر هيناً طالما أن زيارة اللوفر الأسطوري تتطلب صبراً أكبر ووقتاً أطول بكثير مع التزود بدليل فني وخريطة صالات ودراسة مسبقة لما تريد رؤيته من أجنحته اللامتناهية. فمشاهدة ما يحتويه اللوفر الأشبه بمتاهة يحتاج الى سنوات كاملة، وبعضهم يؤكد أن عمراً واحداً لا يكفي لاستكشافه حقاً.
أكتفي بـ"أورساي". مجموعة كاملة من الفنون تغطي الحقبة الممتدة من العام 1848 وحتى العام 1914، لفنانين صنعوا الذاكرة البصرية للحضارة الغربية في أوج حداثتها، من أمثال ديغا، ديلاكروا، مانيه، مونيه، رينوار، كليمت، كلوديل، بولديني، بونار، مونخ، رودان، روسو، فان غوغ، سيزان، غوغان، تولوز لوتريك.. إلخ.
يمكننا التحدث هنا عن معبد كوني وعن حجاج كوسموبوليتيين آتين من أقاصي آسيا ومن أستراليا ومن أطراف ووسط أوروبا ومن الضفة الأخرى للأطلسي، ومن عمق إفريقيا ومن جهة روسيا. الجميع هنا من أجل هذا "الاختراع" الأوروبي: تأمل اللوحات وتذوقها والتواصل مع راسمها. والأهم اكتساب الثقافة البصرية وصقل حاسة النظر وإجادة لغة اللون والعين.
أعود وأفكر بكل تلك المعالم وبمقتنيات المتاحف وبالجسور والنهر والكاتدرائيات المتسامقة والساحات الرحبة والشاعرية البرتقالية لورق الأشجار الميت، وذاك الانضباط الصوتي وسطوة الهندسة على كل حجر. أحدس تلك "القوة" غير المنظورة لباريس: ذاكرة العمران (التفسير عند ابن خلدون).
بالصدفة أجد معادلاً طريفاً لذاكرة العمران هذه. أدخل مطعماً صغيراً كما لو أنه قبو. وأكتشف أنه الأقدم على الإطلاق في كل باريس، تأسس في منتصف القرن السابع عشر. ديمومته الإعجازية بدت لي علامة إضافية على تلك القوة الخفية لهذه المدينة. تماماً كأن تجد أثناء المشي (باريس تجعل كل البشر مشائين) دكاناً متخصصاً بالدمى الروسية، وآخر بالكؤوس الرياضية، أو دكاناً متخصصاً بالدفاتر اليدوية الصنع. دفاتر كأنها تحف فنية، مصقولة الغلاف والورق، متنوعة الخامات والأحجام على تنوع استعمالاتها، دفاتر أنيقة، معروضة كالمجوهرات.
إنتقلت من "موليير" و"جان جاك روسو" وما يحيطهما الى القرب من جادة "فولتير" في شارع "كاميل دو مولان" (الأسماء الفلسفية والأدبية والمسرحية تلاحقني في هذه المدينة). شارع آخر مكتظ بأصص الزهور والشرفات المزخرفة والفخامة الحجرية، وعلى ناصيته كالعادة الـ"بيسترو" والـ"باتيسري".
كان معي باستمرار، ليرشدني الى متاهات المدينة ويعرفني إلى عالم مثقفيها وكتّابها ودور نشرها وشوارعها وأرصفتها وكواليسها السرية. إنه الناشر صاحب دار "فرتيكال"، "برنارد واليه" بوجع ركبتيه المزمن وثيابه السوداء وبجسم لاعب روكبي، وعضلات متسلّق جبال ورأس ملاكم وقلب زاهد نيبالي وعقل مثقف فرنسي.. هو المولع ببيروت ومخاطرها في الحرب والسلم، زائرها المستديم منذ العام 1979 والشغوف بظواهرها وتناقضاتها ومعاركها وفنونها، والعارف بأحلامها وأسرارها. هو كاتبها أيضاً في كتاب Paysage avec palmiers. رجل لا يعرف الإنكليزية ولا العربية وأنا لا أعرف الفرنسية. ولا أدري كيف خضنا تلك الحوارات المعمقة، بين إبن بيروت الحرب والشعر العربي الحديث والصحافة و"ثورة الأرز"، وابن أيار 68 وتظاهرات السان ميشال ونوبة الرحلة الى الهند وإرث اليسار الفوضوي الفرنسي. بين مولع بكرة القدم وممارس لكرة الروكبي (كان يقول: أوه.. كرةا لقدم إنها لعبة حيوانات البطريق). وكان يحب أن يعلن "عدا كتّاب الشوارع، المتلصصين أحترم بيار سانجيه وريجيس جوفريه". لم أفقه تماماً هذا الإعلان، لكنه على ما يبدو تقليد نقدي فرنسي، أي أن ترفع راية ما محددة الألوان. على الرغم من ذلك بدا لي أنه لا يستطيع إلا أن يحترم الجميع طالما أنه حريص على مكتبة تضم 20 ألف كتاب يحتفظ بها في منزله الريفي.
برنارد واليه، المدخّن كيفما اتفق، المتعثر بركبته الخائنة، الغارق في فوضى جيوبه وأغراضه والأوراق اللانهائية والمخطوطات المكدسة، الذي نادراً ما يجيب على الهاتف، الذي فقد محفظته للتو.. ها هو ينجز كل شيء: المواعيد، المعاملات، الواجبات اليومية، الدوام كقائد مؤسسة شديدة التنظيم.
لا يمكن أن يتم ذلك من دون الشغف، ذاك الوله المغلّف بالطيش والفوضى يجعل العمل عقلانياً ومرتباً. وها هو يجهز دراجته النارية لينطلق بي الى مونمارتر. نمر بحديقة اللوكسمبورغ. يرى أفيشاً لصورة مجرة كونية: "يوسف، صوّرها رجاء.. لقد وجدتها، إنها غلاف كتاب سأصدره". هكذايجد مبتغاه دوماً بالصدفة والأريحية. نمر بـ"غران بولار" شارع المسارح الترفيهية الشهير الذي أعطى للمسرح نمطاً خاصاً هو "مسرح البولار". يدلني على مسرح خرب متهالك ومقفل: "هذا وكرنا في الستينات. الهيبية واليسارية والجنون الثقافي والعاطفي والعهد الذهبي للشباب". كنت أتطلع الى المكان كديكور سينمائي لفيلم من إخراج غودار أو تروفو. باريس الآفلة تراءت لي في وجه برنارد: مسحة من العظمة والكآبة.
مونمارتر بيكاسو ومودلياني، وقبل ذلك مونمارتر الفقراء والثورات ومذابح الكومونه.. ما عادت كذلك، إنها أحياء برجوازية وادعة وساحات سياحية بلهاء، تطل على شارع البيغال و"طاحونته الحمراء" "المولان روج" الشهيرة. البيغال بات مبتذلاً ومحط فقراء المهاجرين والسياح المرتبكين من وقاحة واجهاته وصالاته القديمة التي باتت رمزاً لـ"كيتش" السبعينات.
السياح لا ينقطعون عن باريس في كل الفصول. يتراءى لي أن الأميركيين هنا لإزالة التعاسة البيضاء التي تكسو وجوههم. الآسيويون يكافئون أنفسهم على ما بذلوه من عمل في العقود الأخيرة. الروس، الأغنياء الجدد، هم هنا لتبذير المال. أراهم في "بودابار": مشهد كأنه مأخوذ من فيلم عن المافيا الروسية (مال وذهب ونساء ورجال كطواويس اصطناعية). أقول هذا "مصنع" ليلي للاستعراض الاجتماعي الفج. الشرق أوسطيون في باريس ليتقافزوا فوق حيرتهم. جرحهم التاريخي يتفتح هنا على ذاك الإيهام الأندلسي.
في الطريق الى افتتاح المعرض الشامل لغوستاف كوربيه (1877 ـ 1819) أنتبه بصعوبة الى ذاك التمثال الذي لا يكاد يرى إزاء خلفيته التي هي عبارة عن مبنى ضخم ("القصر الصغير"، ما يوازي ضعف حجم السرايا الكبير عندنا). تمثال لا يمكن تبيّنه للوهلة الأولى، فبسبب زاوية النظر إليه من الشارع، يبدو مدغماً في جدار القصر. أكتشف أنه تمثال ديغول. علو ضئيل وحجم ضئيل. لماذا جعله الفرنسيون هكذا غير مرئي تقريباً؟ كان عليّ أن أنتظر الليل لأجد الجواب. إذ ما إن يحل المساء، وبفعل الإضاءة الخاصة والذكية، حتى يظهر ظل ديغول كبيراً وممدداً ليغطي القصر ويجعله مسيطراً. إذاً، ليس النصب ولا ديغول، بل ظله ما يسيطر على فرنسا. هذه هي فكرة التمثال. أو هكذا يفكر الفرنسيون إزاء الرجل الذي قاد "التحرير" وأسس الجمهورية الرابعة، وجدّد مجد بلاد "الغاليين".
معرض كوربيه في أربعة طوابق من المبنى التاريخي الرحب. مئات اللوحات التي، باختصار، توحي بذاك "التعب" التاريخي الذي أصاب البرجوازية الأوروبية منذ منتصف القرن التاسع عشر. البورتريات الذاتية للفنان، خصوصاً لوحة "اليائس" و"مجنون الخوف" تقولان بأسلوب "سينمائي" تصويري (ما قبل السينما) ذاك التعب. لكنه قول صاخب بالإضاءة والحركة. لوحة "حمّام الميت، حمّام الزواج" تعبّران عن هذا التشابه الطقوسي البرجوازي ما بين الاحتفال والمأتم. صدمة كوربيه الشهيرة هي في اللوحة "الشهية" المسماة "أصل العالم" التي حذّر الرئيس ساركوزي المصوّرين من أن يلتقطوا له صورة بالقرب منها، وهو يتجوّل في يوم افتتاح المعرض.
في اليوم التالي، أتلقى صدمتين. الأولى عندما رأيت أشخاصاً على باب دار الأوبرا يحملون لافتة صغيرة ويبرزونها للداخلين وقد كتبوا عليها "رجاء، أبحثت عن مقعد". هذه الحمية لمشاهدة الفنون متى ستصيبنا؟ أما الصدمة الثانية فهي سائقة التاكسي، شابة فرنسية فاتنة بحضنها كلب نائم. أناقة وجمال وثقافة. تهتم بالروايات والكتب الجغرافية، ومولعة بالمطبخ اللبناني.
مع جولة هذا اليوم تتأكد لي الفكرة: الأبنية هي الدولة، هي السلطة. إنها الرموز الفاعلة للهيبة والمجد. القصر والسجن والمدرسة والمعهد والكنيسة والجسر والنصب التذكاري.. السلطة مجسّدة بالأحجار والهندسة (رفيق الحريري عرف ذلك بعمق).
ظهراً، الغداء مع كتّاب شباب: فرنسوا بيغودو، آرنو برتينا، ماتياس إينار، وبالطبع بصحبة برنارد واليه والصديق محمد أبي سمرا. جيل جديد من الكتّاب الفرنسيين لا يبتعد في اهتماماته ولغته عن شبان بيروت، لكنهم أكثر قدرة على التفرغ للكتابة. بيغودو وبرتينا كل منهما نشر حتى الآن أربع روايات، وهما في منتصف الثلاثينات من العمر. الحوار يذهب فوراً نحو مقارعة بطاركة الأدب، الشيوخ العنيدين.
فجأة تصل تظاهرة نقابات عمال وموظفي النقل. شعلات حمراء كمفرقعات العيد، ورجال شرطة يبدون في خوذاتهم وسترات الوقاية وتجهيزاتهم كأنهم طالعون من فيلم "حرب النجوم". التظاهرات الباريسية "تقليد عريق" ومن فور رؤيتها تتفتح ذاكرة اليسار الأوروبي وأزمنة الستينات، وربما أبعد الى مطالع القرن حين كانت المصانع هي السلطة والعمال هم الشعب.
الكتب، الكتب، الكتب.. ثم المكتبات، المكتبات، المكتبات. باريس هي فيضان كتب ومكتبات. الفرنسيون يلتهمون الكتب كأفارقة مصابين بمجاعة يلتهمون الطعام. في كل ركن وكل حي وكل ساحة وكل شارع ثمة مكتبة أو أكثر. مكتبات من كل صنف ولكل اختصاص. مكتبات لا تعدّ ولا تحصى. والناس فيها كما عندنا في سوق الخضر أو سوبرماركت. شعب القراءة هذا، شعب الكتب والأوراق والكتابة و"فن المحادثة" ولوحات الرسم والنحت والموسيقى بقدر ما هو شعب الجبنة والخبز والنبيذ والأناقة.
السان ميشال، جادة لا تنتهي من المكتبات، خصوصاً تلك التي تحتوي الكتب القديمة والأسطوانات القديمة والكاسيتات وأغراض "الأنتيكا". إنها جادة الطلاب والجامعيين والشباب، جادة الحنين والنوستالجيا لعقود السبعينات والخمسينات والثمانينات والستينات. هنا الموضة ما هو عتيق. الثقافة هي نمط حياة، هي الانتظام اليومي لمعنى العيش وتذوّق الحياة وتهذيبها والتمتع بها جسماً وعقلاً.
السان جرمان، مقر المقهيين الأسطوريين: دوماغو وفلور. الهيبة الوجودية ما زالت حاضرة، وما بينها مكتبة "لون" البيضاء والأشهر هنا. وفي الخلف شارع الغاليريات الفنية التي تحيط كلية الفنون الجميلة العريقة. وفي الزواريب مكتبات ومكتبات ومحال بيع الزهور وعشرات الواجهات لمعارض فنية جديدة. تخطر ببالي خاطرة: لو تبتلعني باريس!
سأذهب الى دار غاليمار من أجل جلسة تصوير. المثقفون الذين ألتقيهم في المقهى المجاور يطلقون على الدار اسم "الكرملين" تعبيراً عن السطوة الهائلة لهذه المؤسسة على صناعة الكتاب الفرنسي. أجري مقابلة مع الصحافي الفضولي دائماً الذي ينصت بانتاه، فيليب لا روش. يؤيدني الرأي بأن إلغاء معرض الكتاب الفرنسي في بيروت إشارة سيئة، ونوع من الجبن وعدم الفعالية السياسية. تأييد لبنان ومثقفيه ليس فقط بالكلام، بل بالأفعال الشجاعة.
ألتقي فيليب سوليرز، بطريرك لا يتخلى عن مبسم السيجارة، يضحك من اسم الكتاب "نظر إليّ ياسر عرفات...". يقول: "الآن، عليك كتابة كتاب باسم "نظر إليّ فيليب سوليرز"، يصافحني مشجعاً بخبث أبوي، ويمضي.
أسوأ مفارقات باريس تتمثّل بالمهاجرين العرب والمسلمين. فهم على الرغم من احتكاكهم التاريخي بأوروبا وفرنسا، وعلى الرغم من أن أغلبهم قادمٌ من بلاد شمال إفريقيا، أي يجيد الفرنسية قبل مجيئه، فهم إرادياً معتكفون عن الاندماج، متقوقعون في أدنى الدرجات الاجتماعية. في المقابل تبدو الهجرة الآسيوية البعيدة حضارياً عن فرنسا، والمستجدة (عشرون عاماً على الأكثر) تحقق نجاحات ظاهرة. فهؤلاء الآسيويون يلبسون كالفرنسيين، ويأخذون بالعادات الفرنسية بسهولة ويتقبلون بسرعة أسلوب العيش والسلوك والحساسيات الاجتماعية المحلية والاعتبارات الأخلاقية وحتى الدينية منها. إنهم متفرنسون تماماً. إنهم فرنسيون صفر. فيما الهجرة العربية تراوح مكانها ما بين الفشل والكراهية والنبذ، عدا بعض النجاحات "الفردية" الصعبة.
أعود الى بيروت، حيث السياسة لا تقوم إلا على تقويض الدولة والعمران. أعود الى مدينتي متأملاً أن تصل النجدة.
المستقبل
الاحد 25 تشرين الثاني 2007
إقرأ أيضاً:-