ترجمة : خالد النجار (تونس)
ذهب باهت، ضباب عبارات في البرد
رويداً، رويداً أيّام وأيقونات تسوّدها الأصابع
على تخوم معرفة جامحة-
***
جبل بحريّ، وحلقة مفاتيح أعلى الجدران البيضاء
نوافذ يتلكأ فيها الليل
أحياناً تلتهب، - لحون تظل تلتهب
بعد عزفها
صور تتهاوى في الغروب بلا صخب..
في صدأ المياه الشديدة العتمة
بعد الصراع الدامي-
***
في أدراج الغرفة
التي تفوح قويسة، وزعتر
تعود أصوات الصيف الماضي
بعض الحجارة والخشب المصقول
وغبار القرون فوق
الملامح النبيلة لوجه الاسكندر
الذي أشرق ذات يوم تحت خطوته
في فوضى الحجارة-
***
هنا شاهدت نضارة
أسلوب حياة يتحلل-
كم يلزم الآن من رعب
لطمس القليل من الجمال
الذي ما يزال حيّا في الكلس
وفي قشر الدّهان الأزرق لقارب
في الروح داخل الفجر الذي يشهد
ارتفاع المياه في الغرف-
***
أكيد أن المقصود هو ذاك القليل
الذي لمحته يرتجف في جناح
يضيء المخفي في جسد
في بهرة الأوراق المحترقة-
***
حدثت هذه التبادلات البسيطة
بين صمت يسكننا وبعضا الأصوات
هذه الشآبيب العابرة في الروح
ألوان وصيحات في الأشياء
يكفي أن نصغي وأن نرى
الشتاء يتطاول والبحر
يخيط مرّة أخرى شباكه داخل الليل-
***
صباحات ينبهر فيها العالم
تهزّه يد رضيع
بين شعاع مضيء وبين الفم
وكل انعكاس لهذا الضوء هو صيحة
جديدة لاندهاش بالوجود-
***
واللحون، آه للأصوات
في الهواء الجليّ وعبر سيلان
ريش الرسم، والأجنحة، والظلام
المحبوس منذ آماد طويلة داخل الليل
***
صمت الجدران حياء اسم الوردة
الذي تهمسه الروائح في أعماق السنين
والبحر حافي الأقدام في الغرف المقفرة-
لغط أبدي لأشياء نافلة
تصاعدت ريح جناح يخيطها
ارتعاشة ورقة في النسمة الصاحية
***
عيناي ما تزالان مأخوذتين بالليل
بيد أنّي أصغي للنهار في الهواء المجبول
في حنجرة الطائر الذي يغنّي-
***
منذ زمن طويل وأنا أحاول
والآن أيقنت أنّ المسافة إلى الخارج
غير قابلة للعبور-
***
لا أستطيع أن أكون إلاّ هنا، مبهوراً
أخلط حركاتي، فكري
بأشياء مرعبة، و وديعة
***
مرة سائل وأخرى متجمداً
والذهن ينقبض رويداً
في الهسيس التي ينبع
***
وينفتح لنبض الجسد
إزهرار لحن بلا نهاية
إيقاعات ذات دقّة متناهية
***
اندفاعات، وانكفاء، وعود
وبهرة الرعب غير المعتادة
لتنافر لا ينتهي-
***
انفتاح لا يسبر مستقرّ
في مداره
***
وبعدها في عمق الظلمة
ثمة أرقام وكلمات لا تقرأ مثل كيس
من أعواد وزجاجات مكسورة
لفظها البحر.
مرة أخرى الضوء شديد القرب
***
لم يترك سوى تبنه
الذي يساقط بهدوء
في ليل الجسد
***
شبيه بهذه الكسور الفضية الناعمة
التي يستشيرها الغواص
في أعماق البحر-
***
أطفئ كلمات تصطدم
بزجاج نوافذ لا مرئي، منتبهاً فقط
للاهتزاز الذي ينضغط
متدافعاً في النفس المحبوس
***
أجل، أجل، كم روح في الأنامل
في الهوة الخرساء للمس
الأشياء والأجساد.
***
وأضواء أعياد الميلاد التّبر
عندما تمرّ الزلاقة في الخارج
تترك ثقلها على الثلج
بنعومة مذهلة-
***
بهدوء أحرق
عشباً في نهار بلون الصدأ
غصناً تهتزّ فيه صيحة
خطّاف تصّاعد في الظلمات-
مشرط الصباح يعرّي العظام
فهي صافية مثل حدقات الرّوح
السماء عارية ورجل يصغي لنبضها-
الحجارة ترتعش
الحجارة تضحك
تلتئم في الانحسار
تتآكل وتلتئم ثانية
***
ترنّ في جيبي
وتتوضح في أناملي
خاطرة أكاد
أسمعها وألمسها-
***
في النهار عيناي
مياه تتكسر
شيئ من فضاء
يتكسر إلى ما لا نهاية-
***
خاطرة منفلتة
وجرس المياه الجوفيّة
ينفتح على الكلمات
الناهضة في الرّيح
***
نبض نفس
تقاطر مستمر
***
وفي بعض الأيام
الحجارة تحشد
ثقلها الإسمنتي في الليل
***
الكلمات تتحلّل
العين واليد مأخوذتان
في جموح كافر-
***
ضياء جسد
في معنى الظلمات
***
سماء في الماء
جبال متفحّمة
ضحك طفل
يتشذّر إلى ما لا نهاية
***
العاصفة البحريّة
لعمق لا يدري
بصيحة المسمار
في حساب اللانهاية-
***
عينان وفم مغلق
سرعة جناح لوتها
في سكون ريح لا تكسر
***
بعض النظرات
فتات يساقط من أية مائدة
بلا نكهة-
***
عندما يتكسر ثقل
الموجة فوق المرج
ندف تطن
في خلية الدماغ
***
أيستطيع الفكر
عبر الثلوج التي فينا
أن يسع الصمت
***
والليل أيستطيع
أن يطلي البيت بالكلمات؟
***
صفحتي ناصعة والكلمات داكنة
كسيقان حشرات تجدف في برد
الجسد الذي ما يزال مدفوناً في رعبه
***
وأنا لا أدري كم لزم من الحفر
مراراً في نفس الموضع
حتى ينبجس المجهول من الوجه
***
أتطلع إلى صورة عائلية قديمة
هذه السعادة البسيطة
التي تنشد النسيان في تواضع -
***
لا أدري الآن إن كان ذلك لأول مرّة.... إلتقينا في قيلولة تونس بعيادة جاكلين داود.. يومها 15 جويلية 1976 رأيت كتابه الشعري مطلق أرض لأوّل مرّة أذكر المشهد جيّداً: كان يجلس أمامي على أريكة ورديّة مزهرة، في الظلمة الخافتة لمكتب جاكلين؛ في تلك الشقّة ذات المعمار الإيطالي... ملمح لتونس الكولونياليّة المتوسطية.. الستائر مسدلة على النوافذ تصدّ شمساً وحشيّة في الخارج، وبحركة ناعمة أهداني ديوانه هذا لأقرأ في الإهداء:
... أنّ اللغة والشعر ليسا سوى شيء واحد...
جملة بسيطة فتحت لي أفقاً ف فهم الشعر.. أنا القادم من مناخ شعري عربي طغى عليه في تلك الأيّام الغناء، والايدولوجيا، والتجريد، وخاصّة البلاغة الخاوية، كل هذا على خلفيّة سرياليّة غير واعية بسرياليتها، وهو الهول الأشدّ، والأمر التراجيدي الذي جعلنا نقول الغموض لأجل الغموض، وليس غموض أنغرتّي الذي يتبدّى بوضوح؛ لأنه معادل لتجارب الإنسان التي لا يستطيع الإحاطة المطلقة بها، الإنسان المهتزّ في قاربه، الإنسان السّائر في ليله الأبديّ...
كانت تلك الجملة التماعة، بارقة فتحت لي بعد ذلك شيئاً فشيئاً، وعلى امتداد سنوات لاحقة آفاقاً رحبة في التّعرف على الفعل الشعري.. وعلى شعره هو..
وبعد حوارات طويلة على امتداد سنوات قرب البحر في دارته بسدي بوسعيد، وقراءات، في أرض المطلق، وفي الحالة الرّابعة للمادة، وفي دفاتر باتموس، وفي أجساد ناهشة، وفي دفاتره ومذكراته.. ومن خلال مقارباته، وقراءاته، وترجماته للشعراء الآخرين: سان جون بيرس، كفافيس، دافيد هربرت لورانس، صديقه جورج سيفيريس، بيلنسكي بدأت أوغل في عالم لوران غسبار الشعري.. عرفت أن لوران غسبار كان يدري حدساً، ومن البدء أن الشعر والحياة هما شيئ واحد، أجل شيئ واحد... ويدري أن الشعر يتأسّس هناك في الأعماق خارج اللغة؛ ومفارقته أنّه يقول شيئاً لالغوياً ولكن بواسطة اللغة... إنّه عبور الرّوح في الكلام...
لذا فهو لا يحتفي بالبلاغة الخاوية... ولأنه لا يحاول الاستيلاء على لبّ القارئ بالكلمات فهو لا ينتقيها؛ فالكلمة لديه هي جسد العالم، وليست بهرجاً لغويّاً، كلاماً نافلاً، أو تجاوز عشوائي للألفاظ الغريبة..
الكلمة ليست مقدّسة، ولا مدنّسة..
الكلمة هي الكلمة..
والشعر يبزغ لديه من هذا المجال الّلا لغوي. يقول في حوار له مع الباحثة التونسية خديجة بسباس:
أضع شكلاً لشيء ليس له شكل واضح في أعماقي، شيئ يفور، ويرسل إشارات فأحاول أن أضع شكلاً لهذا العماء؛ وليس بالضرورة أن يكون هذا الشكل قابلاً للإيصال فكثيراً ما أكتب تحت ضغط اعتمالاتي الدّاخلية: حالة انبهار، أو ضنى. وأحسّ لو أنّي أستطيع أن أمنح كلمات لهذا الشيء الذي يعتمل في الداخل، لهذا الخليط من مشاعر، وأحاسيس، وتوارد أشياء قديمة أيقضها حدث ما - ولو أستطيع أيضاً أن أضع كل هذا داخل شكل لغوي أكون قد نفست عن هذا الضغط.
إذن مشكلة الشاعر تتمثل في كيف يقول هذا الشيئ الذي ليس من طبيعة لغوية، المفارق للغة أن يقول بواسطة اللغة؟
أي كيف يقول ما لا ينقال؟... وليس من باب الصدفة أن كثيراً ما تسمى الناس الشاعر بالقوّال نجد هذه الكلمة في الإرث الشعبي في العالم العربي الإسلامي من الباكستان إلى شمال أفريقيا...
ولكن كيف يقول لوران هذا... لعل الفرنسيّة التي أتقنها متأخراً ساعدته على أن يقول هذا العالمي اللاّلغوي بيسر، فالفرنسية ليست لغة الأم لديه، ولم تنطبع فيه منذ الطفولة، مما جعله متحرراً من العادات اللغوية، من الذاكرة اللغوية؛ ولم يتعلمها داخل المجتمع الفرنسي، مما جعله بعيداً عن أساطيرها اليوميّة، ومتحرراً الاستعمال العام..
كلّ هذا ساعده على تطويع هذه اللغة لما يريد أن يقول... لغة ولدت على لسانه كما هي لغة آدم.
إذن لوران شاعر الكلمة المبتدعة، الكلمة المصفاة، الكلمة المعبّرة عن وحدة الداخل والخارج، المعبّرة عن حياته النوميديّة، الكلمة التي تحتفي بالعالم، الكلمة نشيد العالم.
* لوران غسبار ولد سنة 1925 في ترنسلفانيا الشرقية من عائلة هنغارية زاول تعليمه الثانوي في مدينته الميلادية ماور شفادراشيلي. وفي 1943 التحق بمعهد البولتكنيك في بودابست بعد أشهر الحق بخدمة العلم. أكتوبر 1944 فشل محاولة عقد سلم منفصلة، أعقبها احتلال ألماني، تنصيب حكومة نازية أرسل إلى الخدمة في معسكر عمل في منطقة الصواب الفرنكية. وفي 1945 يفر من المعسكر ويقدم نفسه إلى وحدة من الجيش الفرنسي قرب فولندلاف. درس الطب في باريس - عمل جراحاً في مستشفيات القدس وبيت لحم 1970- استقر في تونس بسيدي بوسعيد وعمل جراحاً في مستشفى شارل ديغول المركزي. يعيش الآن بين باريس وتونس. يمارس الكتابة و التصوير الفوتغرافي. من مؤلفاته : الحالة الرابعة للمادة. مناجم. أرض المطلق. أجساد ناهشة. البيت قرب البحر . أشجار زيتون.
كتاباته النثرية: في الكلمة. يوميات السفر. دفاتر باثموس. تاريخ فلسطين. جزيرة العرب السعيدة.
نقل للفرنسية كثيراً من الأعمال الشعرية: قسطنطين كفافيس. راينر ماريا ريلكه. دافيد هربرت لورانس. جورج سيفيريس. بيلنسكي. |