رياض الريس وراسم المدهون في إحدى جلسات الملتقى الدمشقي"ملتقى الشعر العربي المعاصر" الذي يُختَتم اليوم في دمشق شهد مفاجآت عدة، لعلّ أهمّها الهجوم الذي شنّه الناشر رياض الريّس على أدونيس، متّهماً إياه بـ"لعب دور تخريبي" من خلال المجلّة التي باتت أيقونةً في ذاكرتنا الثقافيّة
فجّر الكاتب والناشر رياض الريّس قنبلة من العيار الثقيل، خلال الندوة الأولى التي استضافها "ملتقى الشعر العربي المعاصر" في دمشق. إذ اتّهم أدونيس بأنّه أدى دوراً تخريبياً من خلال مجلة "شعر"، على عكس ما كان يشاع من أنّ صاحب "مهيار الدمشقي" كان بوصلة للحداثة والمغايرة. المجلّة التي احتُجبت قبل نحو أربعة عقود، وصارت اليوم أيقونة شعرية في الذاكرة النقدية العربيّة، كانت حاضرة بقوّة خلال أيام الملتقى الذي يُختتم اليوم. ما إن طوى الريّس صفحتها الناصعة واعتبرها ظاهرة "عادية" اصطُنع حولها "هالة لم تكن لها"، حتى أشار في المقابل إلى أهميتها باعتبارها منبراً ليبرالياً مبكراً في الصحافة الأدبية العربية التي كانت وقتها أسيرة التعصّب والانغلاق، ومحكومة بالمقولات التقليديّة القوميّة والماركسية، "فحفظت تعددية الألوان في الثقافة والأدب والشعر، على رغم أنّها كانت هي نفسها مصابة بعمى ألوان انعكس على بعض مواقفها". وقال الريّس إنّه يتذكّر هذه الحقبة من موقع "الكومبارس"، حيث كان الآخرون يجلسون في "البلكون" غير عابئين بحملات الاتهام والتجريح التي قادها الشيوعيون والناصريون والعروبيون ضد جماعة "شعر".
الندوة التي حملت عنوان "المجلات الشعرية العربية: تراجع أم انحسار" أثارت أسئلةً ساخنة. إذ وجد بعضهم أنّ الريّس كان متحاملاً على المجلات الأخرى التي كانت تصدر في حقبتي الخمسينيات والستينيات وما بعدهما، مثل "الطريق" و"الآداب" و"حوار" و"مواقف". وقال راسم المدهون خلال شهادته إنّ هذه المجلات قدّمت إسهاماً أساسيّاً في تنمية الذائقة الشعرية الحداثية لدى الأجيال الشعرية اللاحقة لجيل الرواد، إضافة إلى "تحفيز العقل العربي على مناوشة القضايا الكبرى بحرية"، وخصوصاً مجلة "مواقف" التي كان يديرها أدونيس، بوصفها منبراً للتعددية والجدل الخلّاق، كما أشار المدهون إلى مجلتي "الكرمل" و"الناقد" واعتبَر الأولى أهمّ مجلة في الحياة الأدبيّة العربية، فيما وصف "الناقد" بأنّها "المجلّة العربية السجالية الأولى بامتياز".
من جهته، أكد عابد إسماعيل أنّ مجلة "شعر" أحدثت صدمة شعرية في الذائقة العربية المعاصرة على صعيد خلخلة مفاهيم ثابتة ومستقرّة "جماليّة وشعرية ومعرفية". وقال إنّ النقد النظري العميق لأدونيس هو "الموجّه الأول" للمجلة عن طريق "الدعوة إلى تخطّي وتجاوز التراث والقفز فوق مسلّماته وأصوله".
لكن ماذا بقي من إرث مجلّة "شعر"؟ يجيب عابد إسماعيل: "أظنّ أنّ الجواب يكمن في التطوّر المذهل الذي شهدته قصيدة النثر في العقدين الأخيرين، وانحسار نمطي القصيدة الكلاسيكية وقصيدة التفعيلة في تجسيد حيّ لنبوءة أدونيس التي أطلقها في أواخر الخمسينيات، بتجاوز الأصول الفقهية للتراث عبر كتابة نصٍ متعدد، يتجاوز قيود النوع الأدبي".
"الشعر والتلقي" كان عنوان الندوة الثانية في أيام الملتقى التي غاب عنها الناقدان جابر عصفور وفخري صالح لأسباب صحية مفاجئة. ولعل السؤال الأساسي الذي اقترحته الندوة هو: ما أسباب ابتعاد المسافة بين الشاعر والمتلقّي؟ وما دور المناهج التعليمية في تخريب الذائقة الشعرية لدى جيل اليوم؟ هذا الجيل الذي وجد نفسه خارج مقترحات الحداثة الشعرية بسبب الإقصاء الذي فرضته أسوار المدارس والجامعات على نصف قرن من الشعر العربي. إذ لا تزال المناهج التعليمية محكومة بما هو تقليدي وآفل في "ديوان العرب"، وهذا ما أشار إليه خضر الآغا في شهادته. أمّا علي جعفر العلاق، فقال إنّ الشعر ليس نصّاً من دون معنى... "فشعرية أية قصيدة لا تقع خارج نصها، بل تكمن في قدرة الشاعر على انتهاك الثوابت وعادات التعبير المتعارف عليها". وأضاف الناقد والشاعر العراقي أنّ القصيدة "محاكاة للحياة خارج النص واقتراب من تفاصيل الواقع غير النصي قدر الإمكان". واقترح بعضهم آلية جديدة في تلقّي الشعر، وذلك بالاستفادة من التقنيات الجديدة في الميديا وحتى "الفيديو كليب".
لكن كيف نصل إلى المسوّدة الأولى للشاعر ومطبخه السرّي في طهو المجاز؟
الشاعر السوري عادل محمود كشف في شهادته عن التجربة الشعرية عن بعض أسراره في إنجاز القصيدة والمحو الذي يطالها قبل أن تصل إلى المتلقّي. فالمسوّدة هي الكائن الهش للبلاغة الأولى، قبل أن يكتمل رنينها في أجراس اللغة. أما سيف الرحبي، فقد تجوّل في فضاءات متباينة عبر ترحال طويل في الجغرافيا التي صقلت قصيدته، وتركت بصمتها على تجربته من دمشق إلى القاهرة وباريس... إلى صحراء الخليج وسحر البداوة الأولى.
الشاعر الأردني زياد العناني، وصف الشاعر العربي الجديد بأنّه "كشيش حمام" يطلق مخياله في الفضاء من دون إمعان، لكي "يصيد صورة، وحين يؤوب تكون المفاجأة من رف حمام محفوف بعناية سرمدية أو رف من الطيور المريضة". وأضاف: "في البيت أنا عاق. في الشرع أنا زنديق. أما في رحاب الأجهزة بما فيها السلكية واللاسلكية، فأنا عدو للثقافة الوطنية. ربما كانت هذه التهم عارية من الصحة، وربما جاءت لأنني بلا بطولة تذكر في الحرب وفي السلم، وربما لأنني أنظر بعين واحدة أو بعين غير مكسورة إلى دكاكين الدول العربية وأضحك من قلب كحولي".
هكذا تناوب على المنصة نحو ثلاثين شاعراً عربياً، بينهم: محمد بنيس، الطاهر رياض، حمزة عبود، عماد أبو صالح، جيهان عمر، شوقي عبد الأمير، منذر مصري، إبراهيم الجرادي، أحمد الملا، حازم العظمة، إسكندر حبش، رشا عمران، علي جعفر العلاق... هؤلاء استضافتهم احتفالية "دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008" بالتعاون مع مؤسسة "سلطان العويس" الثقافية، في بوحٍ عال وهجاء مرير للذات، واللحظة العربية التي تتفتّت من بين الأصابع كرمل الصحراء.
****
نضال الأشقر... تلك الليلة في مسرح "الحمراء"
نضال الأشقر خلال الأمسية مجلة "شعر" كانت حاضرة بقوة في تلك الليلة. إذ ما إن انتهت الندوة الصاخبة في قاعة "رضا سعيد" في جامعة دمشق، حتى استقبل مسرح "الحمراء" نضال الأشقر في قراءات من مجلة "شعر" بعنوان "موسيقى الصوت الشعري".
"اللحظة التي تعبر ولا تمضي" كما يصفها الشاعر عيسى مخلوف. هكذا كان الجمهور الدمشقي على موعد مع سبعة شعراء من "فرسان مجلة شعر" هم: يوسف الخال، أدونيس، محمد الماغوط، أنسي الحاج، بدر شاكر السياب، شوقي أبي شقرا، وفؤاد رفقة. العرض مزيج من الأداء المسرحي والموسيقي في مقاربات "طربية" بصوت جاهدة وهبي التي أخذت القصيدة بصوتها القوي والآسر إلى مطارح بعيدة، وخصوصاً في قصيدة "أنشودة المطر" للسيّاب التي بدت كما لو أنّها مرثية لعراق اليوم.
الأشقر أشارت إلى أنّها تحمل "تقديراً عالياً" لتجربة مجلة "شعر" التي "حدّثت اللغة وشكّلت حالة أثرت مختلف نواحي الحياة الثقافية آنذاك"، لكنها لم تخفِ "عتبها الكبير" على شعراء تلك التجربة "لأنهم انحسروا، وانزووا كل واحد في مكان، لم يعد يجمعهم شيء حتى الحالة الثقافية، ولم يعد أحد يراهم".
حضرت الأشقر على الخشبة منشدةً، مع مجموعة فنانين لبنانيين. وإلى جوارها، كان عازف البزق عبد قبيسي والإيقاع علي الحوت، وأنشد معها عازف العود خالد العبد الله وجاهدة وهبي.
وتشير الأشقر إلى أنّ الغناء كان حاضراً في كل تجربتها المسرحية، وتوضح "لأنّ الغناء والشعر هما حاضران في كل نواحي الحياة، في الفرح والحزن والأعراس والمآتم (...)". وتلفت إلى أنّ تقديم الشعر في المسرح "يحتمل طرقاً عديدة". وتنظر الأشقر إلى تجربة مجلة "شعر" بوصفها "تجربة الحداثة الأولى من نوعها في الشعر"، وتضيف أنّ الذين نهضوا بها "أغنوا فيها الساحة الثقافية اللبنانية، من مسرح وصحافة وأدب وترجمة". وتتابع "كل ما فعلوه كان ربحاً كبيراً للمثقفين الآخرين".
ومن "الإضافات" التي قدمتها تجربة "الحداثة الشعرية" في الستينيات للمسرح، على ما تقول الأشقر، هنالك "الاقتباسات للمسرح والترجمة". وتضيف "دخل إلى المسرح جمال اللغة واقتصادها، وذهبت الجمل الكلاسيكية الثقيلة التي كان الممثّل يحملها على كاهله"، مشيرة إلى أنّ شعراء تلك المرحلة "أحيوا الكلاسيكيات بحداثتهم وجعلوها شفافة وجميلة ومعاصرة".
الاخبار
عدد الخميس ٢٧ تشرين ثاني ٢٠٠٨